مذ قرأت رواية «فهرنهايت 451» للمرة الأولى وأحد مقتبساتها لا يفارق ذهني. مفاد الاقتباس -الطويل نسبيًّا- أنَّ وفرة البيانات من حولنا ومحاولة حشو عقولنا وإتخامها بهذا الكم الهائل تعطينا إحساسًا زائفًا بالتفكير والفهم. ويضيف برادبري أن هذه البيانات بحد ذاتها غير قابلة للاشتعال دونما حاملة تُكسِبها قوتها، هذه الحاملة، برأيه، هي معرفتك الفلسفة وعلم الاجتماع.
أجدني أستحضر الاقتباس مرارًا كلما وقعت على أحد تجليات هذه النزعة «المعرفيّة التراكمية» التي تجعل الكمّ والكيف مترادفين، كأنَّ المزيد يعني بالضرورة الأفضل.
نرى تجليات هذه النزعة في منافسات تختيم الكتب السنوية على تويتر وقودريدز، وفي تقديس المقاربة الموسوعية، أو حتى في شعورنا العارم بأنَّ ثمة تغيرات متسارعة من حولنا تجبرنا على البحث دومًا عما يستجد بأسرع وقتٍ ممكن، حتى نكون مواكبين للعصر.
في الحقيقة، حين نشر برادبري روايته عام 1953 -قبل عصر التواصل الاجتماعي والانفجار المعرفي الإنترنتيّ- كانت هذه النزعة التراكمية تتجلّى في مجالات الإنسانيات والعلوم الاجتماعية الأمريكية، وتلك هي المجالات التي كان برادبري يوجه سهام نقده إليها.
ففي مطلع الخمسينيات، ساد التصور بقدرة الانفجار المعلوماتي والحاسوبي على تزويد الباحثين والمفكرين بما يستحيل على العقل البشري إدراكه، لا سيما حين ساهم الانفجار في بروز التواريخ الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الجديدة، وأدى إلى مكتشفات غير مسبوقة في هذه المجالات.
لكن لم تتبلور هذه النزعة التراكمية في فراغ، بل إنها جزءٌ من بنية منظومة تعليمية قائمة برمتها على فكرة مراكمة المعرفة. فلو تأملنا شكل النظام المدرسي أو الجامعي، لوجدناهما متمحورين حول مراحل دراسية مُصاغة على ضوء معارف محددة ومقسّمة يُعتقد أن على الطالب معرفتها. ولا يسمح للفرد بالانتقال للمرحلة التالية إلا حين يراكم مجموعة معارف مقررة مسبقًا بصفتها أساسًا ينبغي البناء عليه.
من هنا يترسخ في الأذهان التصور التراكمي الذي يُعلي من شأن المتعلم بمقدار ما ينهله من معرفة. ولكن، كما يذكّرنا برادبري، تظل هذه المراكمة بلا طائلٍ ولا معنى ما لم يكن الإطار الذي يحتضنها قادرًا على إشعالها أساسًا، إذ لا تنفصل المعرفة عن الإطار الحاضن لها.
لذلك إذا ما أردنا أن نتشكل معرفيًا بحق، فلا يكفينا قراءة مئة كتاب في العام ومئات سلاسل التغريدات في الشهر حتى يزداد فهمنا. فالمعرفة ليست تحصيل المعلومات ونقدها فقط، بل قدرتنا على تقصّي كيفية تحصيلها، وفهم أسبابها أيضًا.
مقالات أخرى من نشرة أها!
بين ميزاني ودوائر أبل
منذ اقتنيت ساعة أبل وأنا سعيد بإقفالي دوائرها الحركيَّة بنجاح. لكن ما لم تخبرني به ساعتي أنَّ الرقم الأهم على ميزاني لا يعتمد عليها.
ثمود بن محفوظبالنسياقا تقود عجلة التفاعل بامتياز
وراء كل إعلان يتلقاه الجمهور فريقٌ يقضي أيامًا في التخطيط. وهذا ما يجعلني أجزم أن حملة «بالنسياقا» كانت مدروسة بحذافيرها لإثارة الجدل.
رويحة عبدالربحرية الاختيار لا تسهّل اتخاذ القرار
كثرة الخيارات على الإنترنت في ظل تلاشي القيود قد تؤدي إلى حيرة في اتخاذ قرارات كانت أسهل مع وجود خيارات أقل.
رويحة عبدالربصانع المحتوى يلحق جزرة الخوارزميّات
لم «تجبرني» إنستقرام على التحوّل إلى الريلز، لكنها بالتأكيد مارست عليّ «الإجبار الناعم» من خلال «دندلة» جزرة الانتشار أمام عينيّ.
إيمان أسعدلا يعرف العميل كيف يطوّر منتجك
لكل عميل طلب وحاجة مختلفة عن العميل الآخر. لكن نمو المنتج أو المشروع مرتبط بالأساسيات التي تحتاجها الشريحة المستهدفة.
أنس الرتوعيرصيدي البنكي يحوّلني للقراءة الإلكترو-ورقيّة
أنا نشأت على الطريقة التقليدية في التعلُّم الورقيّ، ولم تفلح محاولاتي في إقناع دماغي بأنَّ القراءة من على الشاشة ليست مؤقتة وسريعة.
حسين الإسماعيل