عمارة المدن بعد الجائحة
تبهرنا التقنية بخلق رفاهية تصير مع مرور الوقت احتياجًا، فصرنا نرى في عدم ملامستنا الأسطح حاجة أساسية قد لا تتغير بعد تجاوز الجائحة.
لا أدري كم مرة دخلت ذلك المبنى، لكن فجائية تشغيل أضواء النيون الساطعة كل مرة أخرج فيها من المصعد إلى الطابق الذي أريد لا تزال تباغتني. على العكس من صنبور حمام مبنىً آخر يعمل بالطاقة الحرارية وأظل ألوِّح يدي أمامه بكل الاتجاهات، فلا يصب الماء إلا بعد ثوانٍ من توقف المحاولة.
هذه أمثلة عمَّا يتخيله المختصون في مجالات عدة حول «المبنى الذكي»: المبنى الذي يتفاعل مع حاجات رواده بأقل مجهود ممكن. لكن خصائص هذه المباني تتعدى التشغيل التلقائي للإضاءة أو فتح صنابير المياه وإقفالها، لتساهم في تلبية احتياجات أكبر من ذلك.
كيف تخدم العمارة صحة الإنسان؟
يقول الكاتب كايل تشيكا بأنه «يمكن فهم الكثير من أمثلة العمارة الحداثية كخوفٍ من المرض، ورغبة في التخلص من الغرف المظلمة والزوايا الغابرة التي تقبع بها البكتريا.» تأتي هذه البدايات في أوائل القرن العشرين حين كان انتشار مرض السل الباعث على هذا الخوف.
لكننا اليوم، وخلال العام الثالث للجائحة، تراودنا الهموم المعمارية والصحية ذاتها استعدادًا لمستقبل يستقرئ فيه علماء الأوبئة جائحة أخرى قادمة.
على سبيل المثال، أعلنت مدينة سيئول عن مسابقة معمارية تبحث فيها عن أفكار لعمارة «ما بعد الجائحة». تركَّزت المشاريع الفائزة حول خلق مساحات أكبر داخل المدارس، أو أخرى معزولة في المساكن والأماكن العامة كفكرة «المطعم-الحافلة»، أو الحدائق العامة التي تُجبر مساراتُها المشاة على الاتجاه في خط معين بحيث لا يتقابل اثنان معًا خلال المشي داخل الحديقة.
ويتجه الكثير اليوم نحو تبني تقنية التهوية الذكية التي تَعِد بتلبية حاجات المبنى. إذ تستقرئ هذه التقنية جودة الهواء بحيث توفر الطاقة وتقلل الأثر الكربوني لاستهلاكها. وتتكامل هذه التقنية مع عمل المجسات التي تستشعر عدد المتواجدين في مكان واحد، فتنبِّه الجميع في حال زادت أعدادهم عن الحد المسموح. في حين تستشعر تقنية مشابهة درجات حرارة رواد المبنى.
تقول الباحثة المعمارية بياتريس كولومينا بأن صفة الحداثة في العمارة الحديثة أتت بسبب الخوف من المرض، ويبدو أن تطوراتها خلال قرن من الزمان لا تزال تأتي استجابةً لحاجة الإنسان الأساسية لخلق بيئة صحية أفضل.
دائمًا ما تبهرنا التقنية بخلق رفاهية تصير مع مرور الوقت احتياجًا، كحاجتنا للإضاءة أو للمياه التي كنا نرى أنَّ تحقيقها يأتي بلمس مفتاح الإضاءة أو مقبض الصنبور وحسب. أما اليوم وفي خضم هذه الجائحة، صرنا نرى في عدم ملامستنا لهذه الأسطح حاجة أساسية قد لا تتغير بعد تجاوز هذه الأزمة.
الروابط:
بُكرة، لكل الشباب الواعد، نطرح أسئلتنا الكبيرة والصغيرة والمتغيرة والعالقة، مع مختصّين وباحثين وعُلماء، ونفهم معهم كيف نعيش ونستعد ونعمل من أجل مُستقبل أفضل.