الأسد الملك: أرستقراطية موفاسا وانقلاب سكار العسكري
عقب إعلان والت ديزني عرض فلم "الأسد الملك" الأصلي مجددًا بالسينما هذه المرة بتقنية الـ3D
المشوار الأسبوعي للسينما مع الأصدقاء، نقصدها عادةً ثلاثة أو أربعة بحسب الظروف، بحسب ظروف طلاب الجامعة المفلسين. فلمٌ يوم الجمعة، وآخر يوم السبت وقتما سنحت الفرصة وبدا أن أحد الأفلام الجديدة لا يستحق التأجيل. لم يكن مشوار ذاك اليوم تحديدًا كسابقيه؛ عقب إعلان والت ديزني عرض فلم «الأسد الملك» الأصلي مجددًا بالسينما -هذه المرة بتقنية الـ3D تزامنًا مع بيعه على أقراص البلو راي-، صارت مشاهدته على الشاشة العملاقة أمرًا واجبًا.
يقطن في المدينة الجامعية عشرات الآلاف من الطلاب الذين شكّل «الأسد الملك» أحد أعمدة طفولتهم. لذا كان امتلاء صالة العرض بالحضور متوقعًا برغم مضي أيامٍ على العرض الأول للفلم. جلسنا في مقاعدنا محملين بعلب الفشار والمشروبات، وصرنا ننتظر انتهاء العروض التشويقية بفارغ الصبر.
أُطفئت الأنوار، وبدأت أصوات المحادثات تخفت تدريجيًا. ظهر شعار ديزني، وانتشرت همسات الحماس بمختلف الصفوف. وما إن بدأ الفلم بإشراقة الشمس ومطلع أغنية دائرة الحياة، حتى تعالى غناء المشاهدين في لحظة انتشاءٍ تُمازج نوستالجيا الطفولة بحماس الشباب. كنا أمام الشاشة الكبيرة جمعًا غفيرًا بقلبٍ واحد.
ولكن شتان ما بين الماضي والحاضر -لي على الأقل-، بين ما شاهدته عينا ابن التاسعة وما رأته عينا ابن التاسعة عشر. ما كان بالأمس قصة ثأرٍ تُعيد لسيمبا مُلكَه وحُكمه المستحقيْن صار اليوم صراعًا بين نظامين سياسيين اضطهاديين، وما كان بالأمس انتصارًا للعدل والحق صار اليوم تبجيلًا للطغيان.
راودتني فكرة الكتابة عن «الأسد الملك» منذ أعوام، مذ تبلورت بعض الأفكار عن مضامينه، وازدادت الفكرة إلحاحًا بعدما أُعيد إنتاجه سينمائيًا هذا العام. هنا أدركتُ أن الوقت قد حان لطرح بعض التأملات عما يتضمنه الفلم. وبطبيعة الحال، شاهدت الفلم مجددًا قبل كتابة هذه المقالة، أي بعد ثمانية سنين من مشاهدتي الأخيرة. أطرح في السطور القادمة ما أبصرته عينا ابن السابعة والعشرين.
ما هو «الأسد الملك»؟
يبدأ الفلم بمراسم تنصيب سيمبا وليًا لموفاسا في حُكم صخرة العزة ونواحيها. ونرى الحيوانات مقبلةً من شتى بقاع المملكة لحضور هذا الحدث العظيم والسجود بين يدي ملكهم المقبل. في المشاهد التي تلي المراسم مباشرة، ندرك تغيّب سكار (عم سيمبا) عنها ونلاحظ حقده لفقدان منصبه في ولاية العهد.
وانطلاقًا من هذا الحقد، يحاول سكار اغتيال سيمبا أولًا عن طريق الضباع، ولما فشلت المحاولة يخطط لاغتيال كلًا من موفاسا وابنه والاستيلاء على العرش. تنجح عملية قتل موفاسا، ويفر سيمبا من صخرة العزة بتحريض من سكار. يتقلد سكار مقاليد الحكم مؤذنًا بعهدٍ جديدٍ تعيش فيه الأسود والضباع سوية، ويحل الجدب بصخرة العزة ونواحيها. على الجانب الآخر، نرى أن سيمبا يعيش حياة خالية من الهموم مع تيمون وبومبا بعد هروبه، ويزجي وقته كاملًا بلا تطلعات أو مسؤوليات.
يتغير كل ذلك إثر مصادفةٍ غير محسوبة يلتقي فيها سيمبا بصديقة طفولته نالا، حيث تخبره بكل الخراب الذي حلّ بعد رحيله واعتقاد الجميع بموته، وتطالبه بالعودة لصخرة العزة وتصحيح الأمور. تسبّب هذا اللقاء في صراعٍ داخلي، وصار سيمبا يخير نفسه بين الاستمرار في حياته هذه أو العودة لمسقط رأسه. ينتهي الأمر بعودته لصخرة العزة مع تيمون وبومبا ونالا والانتصار في معركته ضد سكار لاستعادة الملك، ونشاهد في نهاية الفلم عودة الحياة للمملكة ومراسم الاحتفال بولادة كيارا (ابنة سيمبا ونالا) وبداية عهدٍ جديد.
فيما يمكن اعتبار السطور السابقة ملخصًا لا بأس به لأحداث «الأسد الملك»،
لا يمكن إغفال حقيقة أنه إحدى قراءات الفلم الممكنة وحسب. يمكن اعتباره قراءةً رسميةً إن صح التعبير، أي أنها القراءة التي تحاول أحداث الفلم إيصالها. وهذا يعني أن هناك قراءاتٍ أخرى غير رسمية، قراءاتٍ لا تعتمد بالضرورة على سير الأحداث الرئيسة بقدر اعتمادها على أبعاد أخرى.
تنتُج هذه القراءات من تفاعل الفرد مع العمل، أو من الروابط التي تنشأ بين ظروف الفرد وبعض تفاصيل العمل بالأحرى. يُقبل كل فردٍ على العمل السينمائي محملًا بثقافته ومعانيه الخاصة، ويُسقط هذه المعاني على الفلم (والذي ينتج بدوره معانٍ أخرى) بحيث تتشكل الروابط على ضوء ما هو مألوفٌ أو ذو صلة.
من الضروري هنا التفريق بين ما يوحيه العمل -سواءً كان هذا الإيحاء مباشرًا أم لا- وما يستنبطه الفرد، ففيما يرتبط الإيحاء بمحاولة احتكار قراءة العمل من قِبل منتجيه، يقترن الاستنباط بتحرير المضامين المسكوت عنها والخروج بقراءة ذاتية إبداعيّة. يطرح جون فيسك فكرةً شبيهة في كتابه «فهم الثقافة الشعبوية» حين يحلل رواج فلم «رامبو» في أوساط السكان الأصليين بأستراليا.
وفقًا لتحليله، تشكّل عودة رامبو إلى فيتنام وخلافاته مع الرائد الأميركي مارشال مردوك مدخلًا لرؤية الصراع كما لو أنه صراعٌ بين العالم الثالث ودول الاستعمار، إذ تتشكل الروابط بين المشاهدين والفيلم فيما يتعلق بهيمنة النظام الأبويّ الأبيض والفساد السياسي وما إلى ذلك.
بروباقندا العمل السينمائي
من الضروري أخذ مسألة الإيحاءات بشكلٍ جدي ضد كل المزاعم التي تحاول تجريد الأعمال السينمائية (والفنية بشكلٍ عام) من مضامينها السياسية. كل ما ينتجه البشر مُحمّلٌ بالمعاني المُنتَجة ضمن أطرٍ فكرية معينة، إذ يتفاعل الأفراد مع بيئاتهم لإنتاج معانٍ جديدة أو إعادة تدوير بعض المعاني المفرزة مسبقًا. أُعرّف الإيحاءات هنا بكونها رسائل خفية تُعيد تدوير الصور النمطية لغاية تكريسها وتطبيعها.
لعل أنسب الأمثلة في سبيل توضيح ذلك ورقةُ جاك شاهين البحثية -والمستوحاة من كتابٍ بنفس الاسم- حول تصوير العرب في أفلام هوليوود. يفتتح شاهين ورقته بالمثَل العربي الشهير: «التكرار يعلّم الحمار». يُفهمُ هذا التكرار بوصفه عمليةً تعليميةً تهدف لفرض علاقةٍ تلازمية بين صور أو أفكار مختلفة، حيث يستهدف التكرار لاوعي الكائن.
ففيما يتعلق بتصوير العرب، يقول شاهين أن هذه الأفلام ترسخ فكرةَ وحشية وتخلف العرب وامتلاء ثقافتهم ومجتمعاتهم بالروحانيات والعجائب التي تُمايزهم جوهريًا عن الغرب. ويتحقق الترسيخ عبر ملازمة صورة العربي بالتفجيرات والصراخ والهمجية والتعبد المفرط وما إلى ذلك.
بعبارةٍ أخرى، تستلهم الأفلام الصور النمطية الشائعة في التصورات عن «الآخر» العربي وتُعيد إنتاجها ضمن قالبٍ يبدو كما لو أنه مُجرد من الأغراض السياسية، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى تكريس هذه الصور المتلازمة في لاوعي المشاهدين. وقد درس شاهين أكثر من 900 فلم، واستنتج أن نسبة تصوير العرب كما لو أنهم بشرٌ اعتياديون في أفلام هوليوود لا تتجاوز 5٪.
من الجلي إذن أننا أمام تحدٍّ للتمييز بين ما تحاول الأفلام إيصاله وما يكمن بين سطورها. و ليس «الأسد الملك» مختلفًا عن الأفلام الأخرى فيما يتعلق بخطاباته، إذ تختبئ وراء حبكته الرئيسة أجندة سياسية. سأستعرض في السطور القادمة بعض تأملاتي الشخصية عن الفلم.
طبعنة الاستبداد الموفاسي
قبل الغوص في تفاصيل الطبعنة بحد ذاتها، من الضروري التعرف على نظام موفاسا والأسباب التي تجعلني أصفه بالاستبدادي. بادئَ ذي بدء، يمكن تقسيم الحيوانات في الفلم إلى ثلاثة أقسام:
أولًا، هناك آكلات الأعشاب (وتمثل مصدر الثروة الرئيس)
ثانيًا هناك آكلات لحوم انفرادية (كالفهد في مشاهد البداية)
ثالثًا هناك آكلات لحوم قطيعية (كالأسود والضباع)
يقوم نظام موفاسا على استئثاره مع بقية الأسود بالموارد الغذائية المتاحة ضمن حدود مملكته. وبعبارةٍ أخرى، تقوم شرعية حكم موفاسا على إخضاعه للحيوانات الأضعف وإقصائه لأي أحزاب منافسة.
تحضر فكرة الإخضاع قهرًا منذ بداية الفلم. ففي الحوار بين سكار وموفاسا على أعقاب تغيّب الأول عن مراسم تنصيب سيمبا، يقول سكار بأنه لا يجرؤ على نزال موفاسا لعدم امتلاكه قوة أخيه الوحشية. وبعد إنقاذ سيمبا من محاولة الاغتيال على أيدي الضباع، نجده يبرر ذهابه لمقبرة الأفيال في المقام الأول بأنه يريد أن يكون شجاعًا كأبيه.
تحضر الفكرة نفسها في حوار الضباع قبل التخطيط لعملية اغتيال موفاسا، إذ نجدهم يتحدثون عن هيبته وقوته مقارنة بسكار. ولعل أهم إشارتين في نفس السياق هما إشارة الضبع شينزي إلى تأرجح الضباع في قاع السلسلة الغذائية، وإشارة تيمون لاحقًا إلى تربع الأسود على قمة السلسلة نفسها.
تشير كل هذه الأمثلة إلى استنتاجٍ وحيد: تحكم الأسود بجبروتها وتُخضع من عداها، ولا تُشركُ في الحكم أيًا كان.
لكن هذا التحليل لا يُجيب إلا على الشق الثاني المتعلق باستبداد نظام موفاسا، ماذا عن طبعنته؟ أستخدم هذه المفردة لوصف التطبيع بناءً على الطبيعة (nature)، أي اعتبار أمرٍ ما اعتياديًا بحجة أنه طبيعي وأنه موجودٌ في الطبيعة بهذا الشكل. ليس من الصعب استنباط حضور هذه الفكرة من دقائق الفلم الأولى.
يُستفتح الفلم بالإنقليزية وبدبلجتيه العربيتين بأغنية دائرة الحياة. يشرح موفاسا مفهوم دائرة الحياة لابنه في معرض حديثه عن حدود المملكة التي سيحكمها سيمبا يومًا ما. بحسب موفاسا، ثمة توازنٌ وترابطٌ دقيقان بين المخلوقات الحية، وعلى الملك أن يفهم وأن يحترم جميع المخلوقات سواء كانت صغيرة كالنملة أو ضخمة كالظبي.
وردًّا على استفهام سيمبا حول أكل الأسود للظباء، يقول موفاسا أن المخلوقات متصلةٌ في دائرة الحياة العظيمة، إذ أن الأسود تأكل الظباء بالفعل، ولكنها حين تموت تتحول للأعشاب التي تتغذى عليها تلك الظباء وغيرها من الحيوانات، مما يعني أن الحيوانات تتغذى على بعضها بطريقةٍ أو بأخرى.
لا أقول أن على الأسود تغيير حميتها الغذائية، ولكن أقول بأن تبرير النظام الاستبدادي استنادًا إلى الطبيعة ليس إلا حيلةً قديمة. من الضروري التفريق بين افتراس الأسود لغيرها من الحيوانات داخل نظامٍ معين كما يفعل موفاسا وحزبه، وافتراسها لها في حالة تكافؤ إن صح التعبير. فقوة الأسود الجسدية وكونها لاحمة لا يعطيها الحق في إخضاع بقية الحيوانات والاستئثار بمصادر الغذاء، ناهيكم عن تنصيب أنفسهم قضاةً وحُلَّالًا لمشاكلها (يمكن هنا الاستشهاد بالأخبار التي حملها زازو لموفاسا عن آخر المشاكل بين الأفيال والطيور وقرود البابون وغيرهم).
كل استنادٍ إلى الطبيعة لتمرير فكرةٍ معينة هو في جوهره خطابٌ سياسي بالمعنى العام، أي أنه خطاب يتعلق بتوزيع المصالح بين الجماعات وما يرتبط بها. وبشكلٍ أدق، يمكن القول بأن طبعنة أي فكرةٍ محاولةٌ لتجريدها من أي سياق بشري وجعلها كما لو أنها موضوعيةٌ قائمةٌ بمفردها. تتجاهل هذه الطبعنة حقيقة أن إنتاج المعاني مرتبط دومًا بالذوات والسياقات الاجتماعية، وعليه فكل استنادٍ للطبيعة ليس إلا انتصارًا لجماعاتٍ وأيديولوجيات محددة.
الفلسفتان السيمبائية والسكارية
أشرت في مقدمة المقالة إلى أن كلا النظامين السياسيين في «الأسد الملك» -وأعني بهما نظامي موفاسا وسكار- اضطهاديان. ما الذي أعنيه بذلك؟
فيما يتعلق بالظل الأغلب من المخلوقات، لم يتسبب تغير النظام السياسي في أي تغييرٍ عدا ازدياد عدد الحيوانات المفترسة في المنطقة المحيطة بصخرة العزة. بقيت بنية النظام كما هي فيما يتعلق بعلاقة الأسود مع غيرها من الحيوانات، مع فارق اعتلاء الضباع للسلسلة الغذائية مزاحِمة الأسود.
هل هذا هو التغيير الوحيد فعلًا؟ نعم ولا. هو التغيير الوحيد خارج دائرة الحكم نفسها، ولكن داخل الدائرة هناك تغييرٌ آخر على مستوى فلسفة الحكم أيضًا. ليس من السهل تكوين صورةٍ حقيقية عن فلسفة الحكم في عهد موفاسا، إلا أننا ندرك من الحوار الأول أنها فلسفة قائمة على التمييز الحاد بين الطغمة الحاكمة وبقية الكائنات. يتجلى ذلك في جملة سكار:
ومن غير أخي الذي تنزّل إلينا من عليائه ليختلط بالعوام
وبالإضافة لذلك، الصورة التي ينقلها لنا سيمبا عن سلطة الملك كفيلةٌ بإعطائنا لمحةً بسيطة عن فلسفة موفاسا. في نفس المشهد الذي يتعرف فيه سيمبا على حدود مملكته، يستنكر عدم قدرته على الذهاب للمنطقة المظللة قائلًا:
اعتقدتُ أن الملك يستطيع فعل ما يشاء
يمكن ملاحظة بقية الإشارات في رحلة سيمبا ونالا وزازو إلى مقبرة الأفيال،
خصوصًا في كلمات الأغنية التي رافقت تخلصهم من زازو. يؤمن سيمبا بسلطة الملك المطلقة القادرة على تغيير العادات، كما يؤمن بسلطة إصدار الأوامر للجميع بلا سلطةٍ فوقه. بل ويقول بصراحةٍ أنه سيتدرب شخصيًا على النظر باستعلاء، مشيرًا إلى أن جميع المخلوقات ستكون تحت إمرته مستقبلًا. حدا المستقبل المرعب الناتج عن فلسفةٍ كهذه بزازو إلى التعليق على كلام سيمبا قائلًا:
إذا كان هذا هو المنحى الذي سينحوه النظام الملكي، فأخرجوني من الحسبة والخدمة ومن أفريقيا
قد لا يصح عزو كل أفكار سيمبا لأبيه بطبيعة الحال، ولكن نسبة الفضل كاملًا للشبل الصغير أمرٌ غير معقول. لم ينشأ مفهومُ أن يكون الأسد ملكًا والصفات التي عليه أن يتحلى بها في مخيلة سيمبا بمعزلٍ عما كان يراه ويعقله.
على الجانب الآخر، نرى أن فلسفة سكار السياسية أكثر حكمةً وتعقيدًا مما قد تبدو. في بداية الفلم، نرى سكار يخاطب الفأر الذي اصطاده عن ظلم الحياة وعن إقصائه من ولاية العهد بعد ولادة سيمبا. ومن منطلق المظلومية هذا، يخطط سكار مع الضباع لاغتيال كلًا من موفاسا وسيمبا كي يتقلد الحكم بنفسه. يطرح سكار فلسفة في أغنيته استعدوا.
في مطلع الأغنية،
يتحدث سكار عن أهمية تحالف رؤاه السياسية مع إمكانيّات الضباع. تكمن أهمية خطابه السياسي في أن قضية خلافة الملوك أمرٌ تطال عواقبه الجميع، ولذا على الضباع أن يصغوا لخطابه بانتباه. يعدهم أولًا بعهدٍ جديد ما إن يتقلد الحكم وينال حقه، بعهدٍ لا يجوعون فيه أبدًا.
وفوق كل ذلك، يعدهم بالعديد من الجوائز، سوى أنهم لن يحصلوا عليها إلا عبره هو. من الضروري التنويه هنا إلى أن الضباع يعتبرون سكار واحدًا منهم -بحسب تعبير الضبع بانزي-، أي أنه سيظل مستضعفًا ومظلومًا ما دام نظام موفاسا قائمًا، ولذا فالتحالف مع سكار وتنصيبه ملكًا متوائمٌ في الحقيقة مع مصالحهم بقدر ما يصب تحالفه معهم في صالحه.
من الجلي إذن أن كلا النظامين قائمان على نفس البنية الأساسية. يكمن الفارق الوحيد في أن سكار يوسع دائرة الحكم لتشمل الضباع، أما فيما يتعلق بالحيوانات الأخرى فالظروف ما تزال سيئة.
الرجل الأبيض وتنميط الآخر
أختم المقالة بفكرةٍ أخيرة حول التنميطات العرقية المتضمنة في الفلم. يدرك كل مشاهد أن لون بشرة سكار داكن مقارنةً بغيره من الأسود. التمييز بناءً على لون البشرة أو الاعتقاد بارتباط لون البشرة بخواص عقلية وثقافية أساسَا التمييز العرقي والعرقية. من خلال أحداث الفلم، يتلازم لون بشرة سكار مع تصويره كشر مطلق وداعٍ للضلال، حيث يكرس هذا التلازم فكرة الارتباط البيولوجي بين لون البشرة والصفات الثقافية.
تتواجد فكرةٌ شبيهة فيما يتعلق بلكنات الضباع (شينزي وبانزي على وجه التحديد)، يستطيع أي مشاهد للفيلم بالإنقليزية ملاحظة الفوارق بين لكنة الأسود والضباع، برغم تحدثهم جميعًا باللغة نفسها. ففيما يتحدث الأسود بلكنةٍ بيضاء أو أقرب للبيضاء، نرى أن الضباع تتحدث بلكنة تنتمي لأعراق مختلفة.
يصاحب هذا التباين في اللكنات تباينٌ في التفكير ومستوى المعيشة، ولذا ليس من المستغرب أن ينقلب رخاء صخرة العزة وخضرة أشجارها وخصوبة أراضيها وإشراقة الشمس عليها تحت حكم الأسود (البيض)، إلى أرضٍ جدباء قاحلة شاحبة تضيق بأهلها تحت حكم سكار والضباع. تكرس هذه الفكرة التلازم بين الرخاء تحت حكم البيض والشدة تحت حكم غيرهم، إذ أن لهذا التلازم نظائره في واقعنا.
ومن الضروري ألا ننسى لكنة زازو الإنقليزية كذلك، خصوصًا أنه يلعب دورًا رئيسًا في نظام موفاسا بوصفه مستشار الأسد الملك. هذا التلازم بين الاستشارة والحكمة القيادية مع لكنة الإنقليز هو الآخر ليس اعتباطيًا. هل يمكن القول أن وجوده يرسخ فكرة دعم الإنقليز للأنظمة الديكتاتورية في مستعمراتها بأفريقيا؟
وإذا لم يكن كل ذلك كافيًا،
فلعل صورة رافيكي شاهدٌ أخيرٌ مناسب. رغم دور رافيكي الثانوي في الفلم، فإنه يلعب دورًا ضمنيًا مهمًا في تكريس فكرة التمايز الجوهري بين الثقافة الأوربية والغربية بشكلٍ عام وغيرها من الثقافات. يبدو رافيكي كما لو أنه حكيمٌ أو شامانٌ تقليدي يتعامل بالسحر والأرواح في عالم الأسود البراقماتي العقلانيّ.
يشير جاك شاهين في ورقته البحثية إلى ثيمة شبيهة فيما يتعلق بتصوير ثقافة العرب أو الشرق بشكلٍ عام، حيث تُصوَّر تلك الثقافات بأنها عجائبية وغرائبية وروحانية لا تدرك كنه العالم ولا تستطيع تسخيره. تشبه صورة رافيكي في الأسد الملك هذا التصوير، إذ يمثل هنا مجتمعه الأفريقي التقليدي العجائبي.
حاولتُ في السطور السابقة طرح قراءةٍ بديلةٍ لما يحاول الفلم الإيحاء به. لكل فلم أبعادٌ تتجاوز سينمائيته، وكلٌّ منا قادر على تقديم قراءات بديلة للعمل على ضوء تجاربه الخاصة. تحليلي للأسد الملك لا يعني أني لم أستمتع بمشاهدته قبل أيام أو أنني لم أستمتع باللعبة المستوحاة منه على جهاز السيقا قبل أشهر، وما هذه إلا مجرد محاولةٍ للغوص فيما يكمن وراء الظواهر على ضوء تجربتي الخاصة. كلي أملٌ بأن تثير هذه التأملات مثيلاتها.