من يقتل لاعبي كرة القدم؟
اكتظت الأعوام الأخيرة بجداول مباريات كرة القدم بين بطولات الأندية والمنتخبات حدًا أصبح يتهدد اللاعبين بخطر الإصابة أو حتى الموت.
هل تتذكر يومًا استيقظت فيه باكرًا دونما سبب واضح؟ لحظاتٌ أولى من التشوش الكامل قبل نهوضك من السرير إثر قوة لا مرئية ترغمك على الاستفاقة سريعًا. ورغم أنه يوم إجازتك يخبرك إحساسٌ دفين ألا تعود للنوم، لتكتشف بعد دقائق قليلة السبب: اليوم سيخوض فريقك المفضل في كرة القدم مباراة هامة.
ربما في قرارة نفسك ترى شعورك نوعًا من التفاهة، ثم تعود وتفكر في رتابة الحياة سببًا كفيلًا لتعلقك مع ملايين آخرين بكرة القدم. فمباراة ممتعة ستنقذك من تلك الرتابة لأيام.
لم تغب تلك المتعة عن أعين القائمين على صناعة هذه الرياضة. وهكذا كثرت المباريات وتلاحمت المواسم حتى أتت النتيجة مفاجئة للعشاق المتيمين بالكرة، إذ أصبحت كرة القدم أقل متعة، وفي نظر البعض لعبة قاتلة.
أسبوعٌ في العام بلا كرة قدم
شهدنا قبل عامين السباق المجنون بين فريقي ليفربول ومانشستر سيتي للفوز بالدوري الإنقليزي. وانتهى السباق حينذاك بفوز الأخير بفارق نقطة واحدة عن غريمه.
بعد نهاية ذاك الموسم بأيام قليلة توجه عدد من لاعبي الفريقين للالتحاق بقوائم المنتخبات الوطنية المشاركة في كأس الأمم الإفريقية حيث أقيمت المباراة النهائية بين السنغال والجزائر. وقبل النهائي الإفريقي بأربعة أيام بدأ فريق مانشستر سيتي الجولة التحضيرية للموسم الجديد في الصين.
ما يعني أن اللاعب کرياض محرز لم یکد ينته من موسمه الكروي حتى بدأ موسمًا جديدًا. كذلك لاعب ليفربول السنقالي ساديو ماني إذ أنهى موسمه مثل محرز يوم التاسع عشر من يوليو ثم حلَّ بديلًا في المباراة الأولى لليفربول في الموسم الجديد في التاسع من أغسطس.
أي أن فترة الراحة السنوية لهذا اللاعب لم تصل إلى ثلاثة أسابيع، الحد الأدنى لأي لاعب كرة قدم على الإطلاق. وينطبق هذا على العديد من اللاعبين. على سبيل المثال لعب الكوري هيونق مين سون لاعب توتنهام ثمانٍ وسبعين مباراة من أغسطس 2018 إلى أغسطس 2019.
وفقًا لاستبيان أجراه «اتحاد اللاعبين المحترفين العالمي» (FIFPRO) أكد لاعبو كرة القدم الدوليون حاجتهم في المتوسط إلى استراحة خمسة أسابيع بين المواسم، لكن المتوسط المتاح حاليًّا ثلاثة أسابيع فقط. تضخمت رزنامة مباريات كرة القدم لحدًّ أصبحت فيه أقرب لمشروع متواصل على مدار العام. وهو الأمر الذي يؤثر فنيًا دون شك على قدرات اللاعبين.
وعقَّب المدير الفني لليفربول الألماني يورقن كلوب على الأمر قائلًا: «يبدو أنه لا يمكن لأحد أن يتخيل أسبوعًا في العام بدون كرة قدم، نحن بحاجة إلى تهدئة هذه الوتيرة.»
أما بيب قوارديولا كان أكثر حدة في تصريحاته: «سنقتل لاعبينا عاجلًا أم آجلًا، لا يمكننا الاستمرار في ذلك لفترة طويلة.» وأوقع اللوم على جدول المباريات الدولية الذي اقتحم الجدول المحلي للاعبيه.
من المسؤول عن قتل اللاعبين؟
يُعرَف عن السيد بيب قوارديولا سياسته الخاصة بتدوير اللاعبين وعدم الاعتماد على قوام أساسي للفريق. ويؤكد الكثيرون وقوف سياسته وراء فشل السيتي في تحقيق بطولة دوري أبطال أوربا تحت قيادته إلى الآن رغم التألق المحلي.
ودومًا ما يدافع الإسباني عن تلك السياسة مؤكدًا أنَّ اللاعبين بشر وليسوا آلات. ولا وجود للاعب يطيق تحمُّل هذا الضغط، ليس فقط جسديًا بل عقليًا.
لا تضع الفيفا والاتحادات القارية للاعبين أولوية، هذه حقيقة لا يمكن إنكارها. زادت عدد الفرق المشاركة في بطولة أوربا 2020 لتصبح أربع وعشرين فريقًا بزيادة ثماني فرق عن بطولة أوربا 2016. بينما يتصاعد الحديث عن زيادة عدد فرق كأس العالم 2026 لثمانٍ وأربعين فريقًا بدلًا من اثنين وثلاثين. بينما يرفض الكاف مقترح لعب بطولة أمم إفريقيا كل أربعة أعوام ويصمم على لعبها كل عامين.
وتسوق الفيفا واتحادات الكرة القارية تلك التغيرُّات تحت شعار إتاحة لعب كرة القدم وتطويرها في كل بلاد العالم. لكن المحرك الأساسي لزيادة عدد الفرق واللاعبين تحصيل أموال أكثر من بث المباريات.
ماذا عن الأندية؟
هذا ما أغفلته دومًا تصريحات بيب. فإن كان بيب يتهم الفيفا والاتحادات بقتل اللاعبين لماذا قَبِل إذن بسفر فريق السيتي إلى الصين ليعقد جولته التحضيرية للموسم الجديد؟ ويعلم بيب جيدًا مدى الإرهاق الذي سيتعرض له اللاعبون.
الأمر ببساطة أنه كلما زاد عدد المباريات التي تلعبها الأندية زادت أرباحها. فقد باع برشلونة أكثر من 100 ألف تذكرة عندما لعب في ميشيقان حيث بيعت تذاكر الملعب بالكامل. ودعنا لا ننسى ما تعنیه تلك المباريات الخارجية من زيادة في قاعدة المعجبين بالنادي وبذلك زيادة مبيعات قمصان لاعبيه.
قديمًا كانت جداول ما قبل الموسم تضمُّ عددًا قليلًا من المباريات الودية ضد فرق الهواة المحلية. لكن خلال الأعوام الماضية أصبحت الجولات التحضيرية في أميركا وآسيا مصدر دخل أساسي للأندية.
فمثلًا تقدَّر مكاسب مانشستر يونايتد بما يزيد عن 10 ملايين جنيه إسترليني من رحلته الصيفية إلى أستراليا والصين وسنغافورة.
بالطبع يُكافأ لاعبو كرة القدم بسخاء على معاناتهم أكثر من أي جيل سبقهم. لكن جزءًا كبيرًا من راتب لاعب كرة القدم مرتبط بالحوافز المتعلقة بمشاركته في المباريات وعدد الأهداف والألقاب والوفاء بالتزامات الرعاة. ودون شك هذا يعني ضغطًا بدنيًا وذهنيًا أكبر.
هل «القتل» هنا لفظٌ مجازي؟
نشرت شبكة «ريسيرش قايت» (ResearchGate) بحثًا يحلل تأثير لعب مباراتين في الأسبوع على الأداء البدني ومعدل الإصابة لدى لاعبي كرة القدم من الذكور. وفقًا للنتائج لم يتأثر الأداء البدني على الإطلاق بينما لوحظ ارتفاع في معدل الإصابة لدى لعب مباراتين في الأسبوع مقابل مباراة واحدة (25.6 مقابل 4.1 إصابة لكل 1000 ساعة).
تناول البحث معدل الإصابات خلال موسمين لاثنين وثلاثين لاعب كرة قدم محترف في فرق تشارك في بطولات الأندية الأوربية. وأكَّد أن وقت التعافي بين مباراتين والمحدَّد باثنين وسبعين إلى ستٍّ وتسعين ساعة ليس طويلاً بما يكفي للحفاظ على معدل إصابة منخفض.
وتابع بحثٌ آخر الإصابات في دوري أبطال أوربا لألف وخمسمائة لاعب في سبعٍ وعشرين ناديًا من عشر دول خلال أحد عشر موسمًا بين عامي 2001 و2012. كانت النتيجة أن معدل الإصابة في المستوى الأعلى لكرة القدم 25 لكل 1000 ساعة، وبهذا يتطابق البحثان فيما يتعلق بارتفاع معدلات الإصابة.
رغم اهتمام الأندية مؤخرًا بالعلوم الرياضية وعادات التغذية والنوم فيما يتعلق باستشفاء لاعبيها، يضع توالي المباريات اللاعبين تحت إرهاق لا يمكن التغاضي عنه. Click To Tweet
وهكذا، أصبحنا بصدد ظاهرة حديثة نرى فيها اللاعبين يتساقطون تباعًا في الملاعب بإصابات تكاد تودي بحياتهم وتنهي مسيرتهم الكروية.
لا أحد ينسى مشهد سقوط الدنماركي كريستيان إريكسن إثر سكتة قلبية مفاجئة داخل أرض الملعب. فهل حدث ذلك نتيجة للإرهاق المتراكم؟ وهل تعبير «قتل اللاعبين» الذي استخدمه بيب قوارديولا ما عاد تعبيرًا مجازيًا؟
الإجابة: نعم. قد لا تُعد إصابات كرة القدم في أساسها قاتلة، إذ يؤكد الدكتور ريتشارد تيل، استشاري في الفيزيولوجيا الكهربية، أن ما حدث لإريكسن مثلًا حالة نادرة وعلى الأرجح يعاني من حالة خلقية لم تُكتشف حتى الآن.
كما يؤكد الطبيب الألماني باول كيندرمان أن زيادة حالات الإصابة بالجلطة القلبية بين لاعبي كرة القدم مؤخرًا مجرد صدفة. لكن أكد على شيء آخر أكثر خطورة: كل رياضة مجهدة تُعد خطرة إذا لم يتمتع الرياضي بصحة جيدة.
كيف يستجيب الجسد للإجهاد المفرط؟
إن كنت تعتقد أنَّ الأمر مرتبط فقط بلعبة جماعية مثل كرة القدم يتنافس فيها اللاعبون للتفوق على الخصم، فدعني أعرفك إذن على اللاعبة الأولمبية سيمون مانويل. سباحة أميركية وأول سيدة سوداء تحقق ميدالية أولمبية في السباحة بعد نيلها الميدالية الذهبية في سباق مائة متر سباحة حرة في أولمبياد ريو 2016.
أخفقت البطلة الأولمبية في الوصول لأولمبياد طوكيو 2020 بعد فشلها في مسابقات السباحة الحرة تحديدًا. فوجئ الجميع بالخبر إلى أن أُعلن عن معاناة سيمون مانويل من متلازمة الإفراط في التدريب.
لماذا نحتاج الطب النفسي في كرة القدم؟
وتحدث متلازمة الإفراط في التدريب عندما يتجاوز حمل التدريب قدرة الجسد على التعافي. إذ يؤدي الضغط على الجسد بشكل مبالغ فيه إلى الشعور بآلام العضلات والتعب وسوء الحالة المزاجية وسوء الأداء. في الفيلم الوثائقي «وزن الذهب» (The Weight of Gold) من إنتاج شبكة «إتش بي أو سبورتس» يؤكد نخبة من اللاعبين الأولمبيين مواجهتهم موجات من الاكتئاب والرغبة في الانتحار خلال مسيرتهم الاحترافية.
وفي بحث موسع نشرته شبكة «ديفا بورتل» (Diva Portal) تحت عنوان «الإجهاد بين نخبة الرياضيين المتنافسين» نجد تعريف نموذج الاستجابة للإجهاد شارحًا نفسه.
ففي المرحلة الأولى «الإنذار» يكون الجسد في حالة صدمة ويحاول التكيف مع الضغوطات. في المرحلة الثانية «المقاومة» يحاول الشخص التعامل مع الضغوط والتغلب عليها ليخلق حالة توازن. إذا لم يتحقق ذلك تقع المرحلة النهائية «الإرهاق»، وتكون باستنفاد الموارد واحتمال تسببها بالمرض أو حتى الوفاة.
الإجهاد المميت الذي ألفناه
لا يقتصر الأمر على الرياضة فقط. ففي بحث نُشر في السابع عشر من مايو أشار باحثون من مؤسسات عالمية، بينها منظمتا الصحة العالمية والعمل الدولية، إلى موت ثلاثة أرباع مليون شخص كل عام بسبب العمل لساعات طويلة. وينطبق البحث على العمل لأكثر من أربع وخمسين ساعة في الأسبوع.
وحظي منشور على لنكد إن كتبه السيد جوناثان فروستيك البالغ من العمر خمسًا وأربعين عامًا بانتشار واسع. إذ وصف فيه معاناته إثر ساعات العمل الطويلة.
كان فروستيك، الموظف في بنك «إتش إس بي سي»، جالسًا بعد ظهر يوم أحد يستعد لأسبوع العمل المقبل حين شعر بضيق في صدره وصعوبة في التنفس. بصعوبة وصل إلى غرفة النوم محاولًا الاستلقاء، ولم ينقذه سوى زوجته باتصالها فورًا برقم النجدة.
وأثناء تعافيه من تلك النوبة القلبية قرر إعادة هيكلة نهجه في العمل. ولمس منشوره وترًا حساسًا مع مئات الأشخاص الذين تبادلوا تجاربهم في العمل الزائد وتأثيره على صحتهم.
المال قتل المتعة
إذا قررت الهروب من ضغط العمل إلى مشاهدة كرة القدم فدعني أؤكد لك أن كرة القدم، هي الأخرى، تحولت من لعبة ممتعة إلى رياضة مجهدة حد الموت. فالسعار حوَّلها إلى صناعة لا تتوقف في بحثها عن الأموال يقابله بحث الجماهير الدائم عن المتعة. تقلصت المتعة ولم تتقلص الأموال بل زادت، والضحية اللاعبون بالطبع.
لذا أرجوك حاول الابتعاد عن هذا الإجهاد المتراكم، وحاول أيضًا ألا تكون حلقة في سلسلة لا ترحم أحدًا. وإذا استيقظت مرة أخرى من النوم متحمسًا لحضور مباراة فريقك، حاول العودة للنوم متناسيًا سحر كرة القدم. فقليلٌ من الرتابة لن يقتل أحدًا.