كلنا معرضون للاحتيال السيبراني
كثيرًا ما نسمع قصص الاحتيال السيبراني ونظن أنفسنا أذكى بكثير من الوقوع ضحايا لها، بينما في الواقع كلنا معرضون للاحتيال.
لا يمر يومٌ علينا إلا ونقع على قصة من قصص الاحتيال السيبراني. ومع كل حيلة جديدة، تنتشر التحذيرات في وسائل التواصل الاجتماعي ورسائل الواتساب من الوقوع ضحية لها، مع ذلك لا نصدق أننا قد نكون الضحية القادمة. وربما هذا ما ظنته ماريا تشافيز.
ففي مطلع 2017 عادت الكندية ماريا تشافيز توربيد إلى منزلها لتجد زوجها مُنتحرًا في القراج. كان فريد توربيد، قبل وفاته المأساوية، يعيش حياةً أقرب للمثالية. فهو رجل أعمال ناجح ومعروف، وزوجٌ محب لأكثر من عشرين سنة، وأبٌ لأربعة أبناء. كان انتحاره بالنسبة لعائلته ومعارفه شيئًا غريبًا غير متوقع. هل كان مكتئبًا دون أن يلاحظوا؟ هل كان له سر دفين أو خطيئة قديمة تعذبه؟
إلا أن رسالة الانتحار التي تركها لعائلته، وسِجِلَّ رسائله في برنامج سكايب، وضَّحتا كيف كانت مأساة فريد أقل تعقيدًا.
كان فريد على تواصل مع جوليان ويلينقتون، شخص يدّعي أنه مدير حسابات في شركة استثمار وتداول عملات. استطاع جوليان إقناع فريد باستثمار مدخراته، أكثر من مئتي ألف دولار أميركي، في شركته. عندما اكتشف فريد أن جوليان في الواقع مُحتالٌ إسرائيلي، وأن شركته غير مرخصة للتداول في كندا، أرسل له الرسالة التالية: «أنا تحت رحمتك الآن جوليان.. أرجوك قل لي أن هذا غير صحيح.»
فريد ليس الشخص الوحيد الذي تعرّض للاحتيال المالي السيبراني، وفي واقع الأمر كلُّنا معرضون للاحتيال السيبراني.
أنت الضحية القادمة
الاحتيال ليس ظاهرة حديثة، بل موجودة منذ القدم. في الماضي كانت عمليات الاحتيال تُنفَّذ من أفراد أو مؤسسات صغيرة وغالبًا ما تحصل وجهًا لوجه. أما اليوم فمعظم عمليات الاحتيال تجري في الفضاء السيبراني. وبفضل الإنترنت أصبحت أسهل وأكثر نجاحًا.
فنحن البشر كائنات اجتماعية ذكية جدًا ومعقدة، لكن رغم ذكائنا وتعقيدنا الاجتماعي نظلُّ عرضة للوقوع في مصيدة سوء التقدير. إذ تشير دراسات علم النفس السيبراني إلى ميلنا نحو بناء ثقة أعلى في الأشخاص عبر الإنترنت أكثر من الحياة الواقعية. وتشمل هذه الثقة كلًا من الصداقة السيبرانية والعلاقات الرومانسية السيبرانية وحتى الاحتيال السيبراني.
كم مرة تظهر لك إعلانات بدائية تبدو كإعلانات سرقة، فتقول في نفسك: من يصدقهم؟! في واقع الأمر، إن رأيت إعلانًا ساذجًا يتكرَّر مرارًا وتعده إعلانًا فاشلًا لن يصدقه أحد، فهذا يعني أن الإعلان حقق المطلوب منه. وإلا لماذا لا يزال مستمرًا؟
فوفقًا للتقرير الصادر من مكتب التحقيقات الفدرالي الأميركي عام 2020، تُقدَّر خسائر عمليات الاحتيال الاستثماري بأكثر من 336 مليون دولار. كما شهد زيادة تُقدَّر بثلاثمائة ألف شكوى عن العام 2019. بهذا يمثِّل الاحتيال ثالث أكثر الجرائم الإلكترونية تكلفة.
تتطلب هذه الزيادة في الخسائر والشكاوى التعامل بجدية مع احتمالية وقوعك ضحية. لهذا من الضروري التحوُّط من الحيل والمبادئ النفسية المستخدمة في الاحتيالات من خلال الفضاء السيبراني، لا سيما احتيالات الاستثمارات.
حيلة العقل الجمعي
حين نشاهد أشخاصًا يفعلون شيئًا ما أو يقولون شيئًا ما، سيزيد احتمال تقليدنا تصرفاتهم. مثلًا، إن كنت من محبي مشاهدة المسلسلات الكوميدية فحتمًا تعرف تلك الضحكات المزعجة بين كل نكتة ونكتة. تشير إحدى الدراسات أنه عندما يصحب النكتة غير المضحكة صوت ضحكات في الخلفية فمن المرجح أكثر أن تُضحِكَ الجمهور.
هكذا تؤثر ظاهرة العقل الجمعي في أفكارنا وقراراتنا، وبوسعنا رؤية ملامح هذه الظاهرة بشكل ملحوظ في وسائل التواصل الاجتماعي. كذلك تلعب الظاهرة دورًا في رسم ملامح الأيديولوجية وما نتبناه من معتقدات وسلوك.
فكيف إذن يستغل المحتال هذه الظاهرة؟
ينفذ المحتال محاولات عدة لإغراء الضحية نحو الاستثمار معه بغية تحقيق أحلامه وطموحاته وكسب العوائد الخيالية التي قد تصل، بلا مبالغة، إلى 100%. فمن المحتالين من يضمن هذا الربح الخيالي.
للوهلة الأولى يبدو الأمر غير معقولًا، لكن:
سيحاول المحتال إقناع الضحية. وعندما يشعر أن الضحية اقتنع ولو قليلًا، حتى وإن راودته الشكوك، يبدأ المحتال باستخدام ظاهرة العقل الجمعي كورقة إغراء. وتأخذ الورقة هذا الشكل: «استفاد المئات من الاستثمار في شركتنا وحققوا أحلامهم معنا.» Click To Tweet
ثم يرسل وسائط فيديو أو صورًا لرسائل واتساب لأشخاص ممتنين للشركة وعوائدها وينصحون بالاستثمار فيها وكيف درَّت عليهم أرباحًا خيالية. هنا يصبح المستهدَف أضعف إذ رأى أناسًا مثله أصبحوا أغنياء فجأة من دون أي مجهود، فيفترض أنَّ ما رآه آمنًا ومضمونًا.
يتكرر الأمر ذاته في الإعلانات التي تقود لهؤلاء المحتالين. فيصيغون إعلاناتهم على هيئة خبر صحفي، وتجد أسفل الإعلان تعليقات مزيفة توحي بأنها آراء للقراء. هكذا يزول الشك الذي قد يتلبسك في البداية، وتقول لنفسك: «هل كل هؤلاء مخطئون؟»
طُعْم «النُّدْرة»
يستند مبدأ الندرة على أن الأشياء تصبح لها قيمة أكبر متى ما كانت نادرة أو محدودة. وعندما يكون لديك منتج ما ولم يتبقَّ إلا القليل منه ستفسره الناس على أنه فعلاً منتج جيد لأن الكثير من الناس اشتروه. ونرى شواهد تطبيق هذه الحيلة في تسويق العديد من المنتجات حولنا: «آخر قطعة من هذا المنتج!»، «متبقي غرفة واحدة في هذا الفندق!»، «عدد المساهمين معنا محدود!»
وهنا يكمن الطُّعم في احتيالات الاستثمار، بادعاء محدودية المستثمرين. فإن لم تستثمر معهم ستضيع الفرصة منك وينالها غيرك. وهكذا يجد الضحية نفسه تحت ضغط التصرف بسرعة، فإذا أغلق الهاتف أو المحادثة ستضيع الفرصة من يده إلى يد شخص آخر.
الضغط بمبدأ «الاتساق»
يرتاح الناس إلى تطابق صفاتهم مع المبادئ التي يدَّعونها، بالمقابل يُنظَر إلى الشخص الذي لا تتطابق معتقداته أو كلماته مع أفعاله كشخص ذو وجهين. هذا ما يُدعى بمبدأ «الاتساق»، وكثيرًا ما يدفعنا إلى التصرف بطرق تتناقض بوضوح مع مصالحنا الخاصة.
وقد أجرى عالم النفس توماس موريارتي دراسة رائعة حول عمليات السرقة في شواطئ نيويورك بغية معرفة مدى استعداد الناس للمخاطرة بأنفسهم لإيقاف جريمة.
نفذ أحد الباحثين التجربة ففرش البساط المخصص للشاطئ على بعد متر ونصف تقريبًا من أي شخص عشوائي. استلقى عليه وراح يستمع مسترخيًا للموسيقا من مذياعه الخاص، وبعد دقيقتين نهض الباحث وتمشى في الشاطئ. سرعان ما اقترب باحث آخر وتظاهر بسرقة المذياع فالتقطه وحاول الهرب. كانت النتيجة نهوض أربعة أشخاص فقط من أصل عشرين لمحاولة إيقاف اللص.
رغب توماس في إعادة التجربة بطريقة مختلفة قليلاً ليرى إن كانت ستختلف النتائج. فطبق التجربة ذاتها على العدد نفسه، عشرين شخصًا. لكن قبل نهوض الشخص المسترخي للمشي على الشاطئ طلب بلطف من زميله المستلقي جانبه الانتباه لممتلكاته الشخصية. واختلفت النتائج بشكل كبير جدًا.
نهض تسعة عشر شخصًا من أصل عشرين وركضوا خلف اللص للامساك به أو على الأقل لاستعادة المذياع.
فإن كان الاتساق حافزًا أساسيًا لسلوكنا، كيف يلعب هذا الحافز دورًا في تعرضنا للاحتيال؟
فلنفترض أنَّ شخصًا أجاب استبيانًا وذكر فيه اهتمامه بالعملات الإلكترونية، فمن المتوقع إذن تطبيق الادعاء الذي ذكره سواء كان مهتمًا فعلًا أم لا. ثم ورده اتصالٌ من هذا النوع: «مرحبًا هل أنت مهتم بالعملات الإلكترونية؟ معك فُلان من شركة أغنياء الشرق الأوسط.»
إن أجاب الضحية بنعم في أول المحادثة، أو سبق أن جاوب على استبيان سابق بنعم، سيستخدم المحتال مبدأ الاتساق في المحادثة. وسيزيد من إصراره على الضحية والضغط عليه حتى تتطابق أقواله مع أفعاله فلا يبدو ذا وجهين.
فلترة الضحايا المحتملين
من المعروف أن إعلانات تداول الفوركس واستثمارات الاحتيال بشكل عام إعلانات بدائية سهلة الكشف. هذه السهولة تعتبر نقطة قوة للمحتال وليست نقطة ضعف.
إن كنت من مستخدمي الإنترنت في التسعينيات حتما تتذكر رسائل الإيميل من الأمير النيجيري الذي يدعي انتماءه للأسرة الحاكمة وثروته رهينة الحرب أو الفساد أو الاضطرابات السياسية الراهنة. ويحتاج الأمير البائس منك معلومات بطاقتك البنكية أو تحويل مبلغ بسيط من المال لتغطية بعض النفقات (ضرائب أو رسوم بنكية) لاستخراج حقوقه. وبعد حصوله على ثروته ستحصل على بعضٍ من ملايينه مقابل أتعابك.
قد تبدو القصة ساذجة ومضحكة وسهلة الكشف وهذا هو الهدف: «فلترة» الأشخاص الشكاكين، وبذلك لن يتواصل مع الأمير النيجيري سوى المقتنعين بالقصة. ورغم قِدَمِ هذه الخدعة فلا تزال تحدث حتى اليوم بشخصيات وقصص جديدة.
كيف تحمي نفسك من الاحتيال السيبراني؟
من المغري التفكير بالمشكلة باعتبارها مشكلةً نظامية أو قانونية يقع حلها في يد الجهات الحكومية أو البنوك، وفي سن قوانين أكثر صرامة أو أنظمة أكثر تعقيدًا. لكن في الواقع مهما فُرضت قوانين وحدود تقنية فالاحتيال لن يتوقف.
فالتوعية ستفقد جزءًا من فعاليتها. وكَشْف حيلة معينة والتحذير منها لن يوقف المحتالين من الانتقال إلى شكلٍ آخر واستهداف أناس خارج نطاق لعبة الاستثمار. وهذا ما حصل مع حيلة التوظيف التي انتشرت قبل عدة أشهر.
من تخصص هندسة زراعية إلى الأمن السيبراني
برأيي يكمن الحل الأكثر فعاليةً في التحوّط من هذه الحيل، وأيضًا في الرضى حيال ما تملك.
فريد توربيد، الرجل الذي قتل نفسه، كان شخصًا ناجحًا بكل المقاييس. فامتلاكه لمائتي ألف دولار (أكثر من نصف مليون ريال سعودي) في سن التقاعد حلمٌ لأشخاص كثر. إلا أن العالم اليوم يُبهِتُ الأحلام الصغيرة ويغري بما هو أكبر منها. ففي أذهان العديد من الناس ما عاد مقبولًا أي شيء أقل من الثراء الفاحش.
أضاع فريد مدّخراته كاملةً لطمعه بزيادة رصيده، فوقع بذلك في الفخ البشري الأول في الاحتيال.