دليلي الإرشادي لعمل المرأة في بيئة مختلطة
تطلَّب الأمر عشر سنوات حتى أنتقل إلى بيئة عمل مختلطة، وسنوات إضافية من الخبرة والتجارب حتى أخرج بدليل إرشادي يوجه مساري فيها.
وجدتني في بداية حياتي العملية بحاجة دائمة لأخذ توصية والديّ قبل قبولي بأي وظيفة، إذ لم أرد الاصطدام بهما بينما تلحُّ عليَّ الحاجة إلى الاستقلال الماديّ. وهكذا وجدت في الخيارات الأبسط والأقل طموحًا وإثارة للجدل ضمان قبولهما خياري دونما نقاش.
عملت في مركز تدريب للسيدات وقدمت دروسًا خصوصية لطالبات الجامعة وكتبت في صحيفة ودرَّست اللغة العربية لغير الناطقات بها. والقاسم المشترك بين كل تلك الوظائف غياب العنصر الرجالي غيابًا تامًا، أو وجوده في نطاق محدود.
بين تجربتي الجامعية وتجربة العمل في بيئة نسائية منغلقة ثم الانتقال تدريجيًا إلى فريق عمل مختلط، أشعر أحيانًا كمن عاش حيوات متعددة. واليوم أفكر في كل السبل التي اتبعتها لأنجح أو أحاول النجاح في بيئات العمل المتنوعة، وكل ذلك دونما دليل عملي أو ناصح يرشدني حول كيفية التعامل معها.
سأعمل في بيئة مختلطة!
احتجت لأكثر من عشر سنوات حتى أقدم على خطوة الانتقال إلى العمل في مجال جديد. وتزامنت هذه الوظيفة مع انتقالي إلى مدينة جديدة وتغيرات على المستوى الشخصي. أجريت المقابلة مع فريق من الموظفين وفورًا حصلت على الوظيفة. عدت إلى مدينتي لأخبر أبي: سأعمل في شركة!
تستحضر كلمة «شركة» في ذاتها نمط عمل ونظام علاقات وتواصل يختلف عن المدرسة أو المعهد مثلًا، أو العمل الحرّ الذي كان يمنح أبي نعمة تواجدي في البيت طوال اليوم. كنت هيأت نفسي قبل إبلاغه لكل الصراعات التي ستولدها هذه النقلة، لكن لا شيء مما توقعته حصل.
وتذكرت حينها قصة من ماضيّي المهني حين خضت نقاشًا طويلًا مع أبي ولاحظت امتعاضه عندما أخبرته بأن عملي يتطلب الحديث هاتفيًا مع موظفي الإدارة العليا في جهة تعليمية، «لماذا؟ أليس هناك بريد إلكتروني؟ أو مراسلات خطية؟»
كلما تذكرت هذه القصة أبتسم.
إذ من منطلق موقفه معي حينذاك توقعتُ رفضه القاطع لوظيفتي الجديدة، أو على الأقل اقتراحه عليَّ اشتراطات تصيِّر الذهاب لمقر العمل بشكل يومي معضلة شخصية. لا أعلم حقيقةً ما الذي جعل الأمر مختلفًا هذه المرة، هل تقدمي في العمر؟ أو طبيعة العمل وموقعه؟ في الحقيقة لم أخض هذا النقاش مع أبي أو مع أيِّ شخص آخر.
بعد عام من العمل عن بعد، أعود إلى نظام العمل التقليدي
وربما لم نخض النقاش المتوقع لأني انتقيت كلماتي بعناية وتحدثت بنبرة محايدة عن العمل والمهام والزملاء. لأنتقل بعدها إلى الحديث عن الاجتماعات وضرورة عقدها في مكانٍ واحد سواء مع الموظفين أو العملاء.
ما الذي تعلمته حينها؟ أن موضوع العمل في بيئة مختلطة مربك ومثير للجدل بسبب جدّيته واختلاف الناس عليه، وسمحت لهذا الارتباك بالتسلل إليّ وفي طريقتي بالتعاطي معه. لكن حين تعاملت معه بعفوية وثقة أصبح الأمر مقبولًا لديّ، وبالمحصلة لدى والديّ.
العثور على صوتي
كانت الميزة الوحيدة التي وجدتها في الانضمام لأول وظيفة ببيئة مختلطة تعلُّمي كلَّ شيء من الصفر. كيف أتحدث وكيف أقدم عملي وكيف أتواجد في مكان واحد مع الرجال دون الاختناق بصوتي أو ارتباكي حدَّ الشلل.
كنت أعجب مثلًا، بعد انتهاء اجتماع مرهق، كيف يتحدث الزملاء مع بعضهم بعضًا عن برامجهم المفضلة أو مكان قضائهم العطلة القادمة. وجدت في هذه الأحاديث جزءًا من تواصل إنساني عميق يخفف عنا أعباء المهام.
وبالطبع لم يكن طريق تعلمي معبدًا بالورود حتى وإن ظننت ذلك في البدء. ففي السنوات القليلة الماضية تنقلت بين الوظائف وتعرضت لمواقف تعاملت معها بالمعرفة تارة وتارةً أخرى بالحدس.
تخلصت من خجلي المربك، واخترت الوقوف في المنتصف بين العزلة التامة والاندماج الكلي مع الفريق. لكنني تنبهت لأنواع مختلفة من التمييز داخل مكان العمل. أحدها رسمي كتوزيع الموارد والمناصب بشكل عادل وعدم تمكيني من الوصول إليها. وآخرٌ غير رسمي يظهر في تفاعل الزملاء مع العمل الذي أؤديه وكيفية تواصلهم معي.
كنت واعية بأفضلية كونك رجلًا ضمن فريق الرجال والفرص التي تبنى مع روابطهم الاجتماعية خارج ساعات العمل. لكن كوني امرأة يعني بالضرورة غيابي عن تلك المساحات حيث تمتد الأحاديث خارج ساعات العمل كالاستراحات وجلسات القهوة. وتعني هذه العزلة الإجبارية أن جزءًا من النص سيكون مفقودًا وسيقع عليَّ عبء أكبر لملء هذا الفراغ والبقاء في الدائرة.
حدود المقبول والمرفوض
منذ بدأت العمل في بيئة مختلطة لم أجد منطقة واضحة تمامًا فيما يخص التعامل مع الجنس الآخر. وجدتنا جميعًا رجالًا ونساءً نتعلم التحرك في مساحات ترتبط بقواعد جهة العمل نفسها، ودينامية الفريق الذي نعمل ضمنه.
فمثلًا، هل إطراء زميلك للمشروع الذي عملتِ عليه مقبول؟ هل تعليقه على شحوب ملامحك مقبول؟ هل الأنشطة التي تقيمها أماكن العمل خارج الساعات ملزمة لك؟ هل نقبل الهدايا من الزملاء في المناسبات الشخصية؟ كثير من الأسئلة لم أجد لها إجابة لدى الآخرين لكن وجدتها لديّ. وصرت أقيس قبولي للتفاعلات الإنسانية على اختلافها بمقدار القبول أو الانزعاج الذي تتركه في نفسي.
ليس ثمة دليل واضح يرشدك إلى كيفية التعامل مع مواقف كهذه، إذ تقتصر الأدلة الوظيفية على إخبارك بمكان جلوسك وشروط الزيّ وطرق التواصل.
فمثلًا في إحدى وظائفي السابقة طلب مديري المباشر معلومات حسابي على إحدى منصات التواصل الاجتماعي كي يشارك معي المواد المرتبطة بالعمل. لم أرفض وتعاملت مع الموضوع بعفوية. لكن عندما فكرت بالأمر لاحقًا انزعجت، إذ بإمكانه مشاركة المواد على البريد الالكتروني الرسمي.
وتأكد انزعاجي لدى مشاركتي الزميلات في حديث واكتشافي أنهن لم يشاركن حتى رقم هاتفهن الشخصي مع مديرهن المباشر أو زملائهن، واكتفين فقط بالتواصل عبر قنوات العمل الرسمية.
أدرك أنها تفضيلات شخصية، ووددت أحيانًا لو أني اتبعتها. لكن غياب الدليل الإرشادي والخبرة وضعاني في مساحة التفاوت هذه.
دليل تجاربي الإرشاديّ
بعد سنوات من تجربة العمل في بيئة مختلطة، ورؤية الآلاف من رفيقات التجربة يبدأن العمل كل يوم، أفكر في الدليل الشامل الذي سيكتمل بمشاركة تجاربنا. وبناءً على خبرتي فهذه النصائح التي أمررها للرفيقات:
ارتبطي بدائرة قوية وداعمة من النساء الناجحات سواء داخل المنظمة التي تعملين بها أو خارجها. ولا تستسلمي للصور النمطية التي وُصِمنا بها مثل كوننا عاطفيات وحبنا تأجيج الخلافات وانحيازنا غير الواعي نحو الشللية.
اطلبي الإرشاد واختاري قائدًا حقيقيًّا يوجه جهودك حتى إن لم يكن مرتبطًا بك إداريًا وبشكل مباشر. تصوريه يمثل الجانب المقابل من المسألة وبذا سيساهم في توضيح الصورة الأشمل لك.
ادخلي في تحديات بنيّة الاستكشاف والفضول. فمن شأن ذلك تعزيز ثقتك في نفسك وتطوير مهاراتك.
حددي أهدافك وراجعيها باستمرار، وتأكدي من معرفة مديرك المباشر أو قائد الفريق بها وتقديمه الدعم والملاحظات.
تعلمي ذاتيًّا ودونما حاجة للرجوع إلى جهة العمل. يذكرني ذلك بدخولي مسارات وظيفية جديدة تمامًا وانشغال الجميع في محيطي عن تقديم أي توضيح أو توصية لي.
توقفي عن الرغبة في الوصول إلى المثالية، وكُفِّي عن محاولة تغيير صفاتك بحثًا عن الانتماء.
عبري عن رأيك بشكل بنَّاء وكوني حاسمة في قراراتك.
قد تواجهين تمييزًا واضحًا وعدم تقدير لإمكانياتك، مع ذلك حاولي قدر الإمكان ألا تضيعي الوقت في إلقاء اللوم على أحد، وألا يؤثر سلبًا على يوميات عملك.
إن واجهت أي سيناريو جديد دونما دليل إرشادي أو خطة عمل ثقي بحدسك وقيسي على تجاربك الأخرى لتحديد خطوتك.
قولي «نعم» في وقتها، و«لا» في وقتها، ولا تقيدي نفسك بالحاجة الدائمة لإرضاء الآخرين.
بمجرد انضمامي إلى بيئة عمل مختلطة انتعشت طاقتي الإبداعية. وزاد من نجاحي الحالي حرص جهة العمل على مساعدتي وزملائي في تجاوز الاختلافات غير المرئية، ودعمنا بشكل لا محدود. Click To Tweet
واليوم لا أندم على شيء، فكل التجارب منحتني ولا تزال خريطة النجاح في عملي وتحقيق ذاتي.