أميركا إسرائيل وإيران
تواصل أميركا دعم إسرائيل دعمًا غير مشروط، وتكتفي من إيران بأفضل المتوقع. وبين السياستين، تتفاقم الفوضى في الشرق الأوسط.
من عادة الدول الإفصاح قليلًا عن المنطق الذي يحكم سياستها الخارجية، وإخفاء المصالح الحقيقية المتوارية خلف تلك السياسات. وتنطبق هذه القاعدة على كل الدول، لكن تختلف درجة التطبيق فيما بينها درجةً وحجمًا، وليس نوعًا.
إذ تمارس كل الدول تقريبًا سياستها في مساحةٍ كبيرة من الغموض، أو بالأحرى تمارس التضليل بين مبررات سياستها الخارجية ومصالحها المعلنة، وبين المبررات والمصالح الحقيقية وراء تلك السياسة.
من أبرز وأوضح الأمثلة على ذلك إسرائيل التي لا تكف عن ترديد السلام هدفًا لها، لكنها منذ نشأتها قبل ثلاث وسبعين سنة لم تتقدم بمبادرة سلام واحدة، بل اقتصر دورها من هذه الناحية على رفض كل مبادرات السلام العربية وغير العربية. وفوق ذلك لم تتوقف عن التوسع والاستيطان ومصادرة أراضي الفلسطينيين. ولا يتفوق على إسرائيل في هذا المجال سوى إيران التي تقول عكس ما تفعل على الأرض.
لكن هناك الولايات المتحدة الأميركية، الدولة الأعظم التي تختلف عن غيرها في الحجم والثراء والقوة والدور، وقبل كل ذلك وبعده في المسؤولية. إذ تتمثل المرتكزات المعلنة لسياسة واشنطن الخارجية في الحفاظ على مصالحها ومصالح حلفائها وشركائها، ودائمًا في إطار القانون الدولي ودعم الاستقرار في العالم ودعم الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان.
سياسة الكذب العمد الإسرائيلي
من حق أي دولة تقديم مصالحها على كل شيء. الإشكال هو: كيف، وإلى أي مدى، يمكن انسجام مصالح الدولة مع القيم الأخلاقية والسياسية التي تلزم نفسها بها، مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان وحق الدول الأخرى بالسيادة؟
أمامنا مثال دعم واشنطن اللامحدود وغير المشروط لإسرائيل، مثالٌ عمره الآن من عمر إسرائيل. ففي ثمانينيات القرن الماضي نصَّبت أميركا نفسها وسيطًا لحل الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ومذاك زادت مساحة إسرائيل من الأرض، ولا تزال على حساب الفلسطينيين، وترفض السلام.
تطالب واشنطن العرب والفلسطينيين بالتنازل، لكنها لا تريد، أو لا تستطيع، طلب أي تنازل من إسرائيل، إذ لواشنطن مصالح تقتضي وجود إسرائيل في الشرق الأوسط. Click To Tweet
فضلًا عن أن علاقتها الخاصة باليهود وبإسرائيل لا تسمح لها بالضغط عليها، أو لا تريد حتى الآن أن تسمح لها بشيء من ذلك.
حقيقةً تتعمد أميركا الغموض في هذا الموضوع. وهو بالنسبة لها غموضٌ بنَّاء يحميها من نقد أصدقائها، كما يعفيها من تحمل المسؤولية المباشرة علنًا وأمام الرأي العام الأميركي. وتماشيًا مع هذا المنطق دائمًا ما يتردد في دهاليز السياسة الأميركية وإعلامها مقولة استحالة تحقيق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين لأن كليهما يرفض تقديم التنازل المطلوب لتحقيق هذا السلام. وهذا نوع من الكذب العمد.
فالفلسطينيون اعترفوا بإسرائيل، وتنازلوا عن حقهم وفق قانون التقسيم الدولي الذي يعطيهم ما لا يقل عن 47% من الأرض، مع ذلك تنازلوا وقبلوا بقيام دولتهم على المتبقي وهو 22%. لكن ما انفكَّت إسرائيل ترفض بشكل معلن ومتعمد تقديم تنازلٍ مقابل يقضي بقبول حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة على هذا المتبقي من الأرض.
ثم تنازلت سبع دول عربية واعترفت بإسرائيل وطبَّعت معها، وأيضًا من دون تنازلٍ مقابل. كل ذلك ما زاد إسرائيل إلا تعنتًا وصلفًا. مع ذلك تتعمد واشنطن وضع العرب وإسرائيل في كفة واحدة فيما يتعلق بالتنازل في سبيل السلام. لكن كذب واشنطن المتعمد هو كذب الدولة الأعظم. ومن يملك الجرأة على مواجهة تلك الدولة بحقيقة ممارستها الكذب العمد؟
قبول أميركا بأفضل المُتوقَّع الإيراني
لأن الدول لا تكشف عن حقيقة منطلقاتها ومبررات سياساتها، يأتي من يتولى ذلك من خارج مؤسسة الدولة الرسمية، وهذا ما حصل على يد الكاتب والصحفي الأميركي توماس فريدمان. ففي الخامس عشر من يونيو كتب فريدمان مقالًا في النيويورك تايمز، لا عن موقف أميركا من إسرائيل، بل من إيران. مقال فريدمان بعنوانه اللافت «أفضل المتوقَّع من إيران سيئٌ جدًا» مقالٌ اعتذاري يهدف إلى تفسير قرار بايدن بالعودة للاتفاق النووي مع إيران، رغم انخفاض سقف ما يمكن توقعه منها.
وقد عززت الانتخابات الرئاسية الأخيرة انخفاض هذا السقف عندما اختار النظام مرشحه فيها، إبراهيم رئيسي، وهندس الانتخابات ليفوز فيها، معززًا التوقعات بوراثته خامنئي في منصب المرشد. ورئيسي متهم بانتهاكات فاضحة لحقوق الإنسان، وهو على قائمة العقوبات الأميركية. بعبارة أخرى، وجهت طهران تحديًّا سافرًا لواشنطن باختيارها رئيسي وهو على قائمة عقوباتها محل روحاني الذي يؤمن بالحوار معها. كأن الإيرانيين قرأوا ما سيكتبه فريدمان من مسار مفاوضاتهم غير المباشرة مع الأميركيين في فيينا.
فتفسير فريدمان بسيط: إيران بلد كبير يستحيل اجتياحه، ونظامه السياسي غامض يستحيل إسقاطه من الخارج، ودوافعه الظلامية من الخطورة بمكان يستحيل تجاهلها، وشعبها موهوب يستحيل إنكار حقه في امتلاك القدرات النووية. لذلك، يقول فريدمان، عندما تتعامل مع إيران ضع في الحسبان أن الحل الأمثل ليس متاحًا، وأن النظام الإيراني لن يتغير. الخيار الوحيد الممكن محاولةُ الحصول على أفضل صفقة متاحة مع إيران.
بعبارة أخرى، حاول الحصول على ما يمكن تحقيقه بفرض العقوبات أو رفعها، أو من خلال حربٍ سرية، لكن تجنب إسقاط النظام بالقوة. ويعترف فريدمان بتناقض موقفه هذا من القضية التي أمامه، ويبرر تناقضه باستحالة وضع حد نهائي لسلوك إيران المؤذي. وهذا تبريرٌ مضلل. وإلا بماذا تتميز إيران عن غيرها من الدول بحيث تعجز الدولة الأعظم عن وضع حد لسلوكها؟
جهل أميركا بحقيقة المشروع الإيراني
يجيب فريدمان بأن استراتيجية بايدن ترتكز على ثلاثة أهداف: منع إيران من امتلاك سلاح نووي يفرض على العرب وتركيا امتلاكه بما يهدد الاستقرار العالمي، ثانيًا معالجة الوضع الداخلي الأميركي، وأخيرًا مواجهة التمدد الصيني. والصدام مع إيران، حسب فريدمان، أو ممارسة الضغط عليها سيعرقل تحقيق هذه الأهداف. كيف؟ لا أحد يعرف.
هنا تصل سخرية طرح فريدمان ذروتها. إذ يقترح الخروج من هذا المأزق بتولي دول الخليج العربية وأميركا إغراء بشار الأسد بإخراج إيران مقابل تعويضه بثلاثة أضعاف ما يحصل عليه من إيران، والسماح له بالبقاء في السلطة حتى المدى المنظور. وهذا اقتراحٌ يائس وساذج. فإيران لا تقدم للأسد مساعدات مالية، لكنها تتحمل تكاليف حماية نظامه. وهي تفعل ذلك كاستثمار في مشروعها المذهبيّ في المنطقة. وتحتاج الأسد لأنه ينتمي لأقلية علوية وسط أغلبية سنية كبيرة في سوريا، ووسط هيمنة سنية عربيّة.
أما بقاء الأسد في السلطة بعد أحد عشر عامًا من الثورة فقد تحقق بمساعدة الروس والإيرانيين، فما الذي يمكن للخليجيين والأميركيين ضمانه من هذه الناحية؟
هل تعود علاقات الرياض مع سوريا؟
الأهم من ذلك أن علاقة الأسد بإيران ليست سياسية فقط، وليست مرتبطة بمصالح سياسية مؤقتة، بل علاقة مذهبية أيديولوجية بهدف تمكين سلالة حكم مذهبية جديدة في الشام بدأت قبل نصف قرن مع حافظ الأسد. وبالتالي هي علاقة ترتكز إلى مشروع إيران المذهبي، حيث يمثل الأسد ونظامه أحد الأعمدة التي يستند إليها. من هنا فهي علاقة مصالح وقدر مشترك، العلاقة الوحيدة التي جربها نظام بشار منذ عهد والده حافظ الأسد، ويثق بها وبنتائجها، ويمكنه الاعتماد عليها.
هذا هو الشرق الأوسط
يكشف مقترح فريدمان، بل مقالته كلها، عدم استيعابه حقيقة دور إيران في المنطقة ولا أهدافها ولا طبيعة العلاقة التي تربطها بحلفائها الإقليميين، وأولهم الأسد. وعدم إدراك طبيعة دور إيران وأهدافها على هذا النحو يبدو مربكًا حقًا. بل سيكون الأمر اسوأ لو تبين أن أعضاء إدارة بايدن يشتركون بهذه الدرجة أو تلك مع هذه الرؤية التبسيطية لأحداث المنطقة.
يبرر الكاتب مقترحه الذي يعترف أنه أناني وساخر بقوله: هذا هو الشرق الأوسط. والمشاكل، كما يقال، لها حلول، لكن المآزق ليس لها إلا الخوازيق. والغريب أن هذا الشرق الأوسط يتسع في عرف الأميركيين لمشاريع إسرائيل وإيران ومغامراتهما، وما عدا ذلك ليس إلا خوازيق يجب تجنبها.
فهل لاحظت عزيزي القارئ لماذا تتفادى الدول الإفصاح عن حقيقة نواياها وأهدافها؟