ما الذي نعرفه يقينًا عن نشوء كوفيد-19؟

بعد عام من رفض فرضية نشوء كوفيد-19 عن تسرب مخبري في ووهان، يبدل أنتوني فاوتشي رأيه ويدعو إلى بحثٍ موسع فيها.

لدى إجابته سؤالًا وَرَد على بريده الإلكتروني، أفصح رئيس المعهد الوطني للحساسية والأمراض السارية في الولايات المتحدة الأميركية وأخصائي المناعة الطبيب أنتوني فاوتشي، عمَّا يشغله في حياته قائلًا: «ما كان يقض مضجعي هو احتمالية نشوء جائحة مرض تنفسي

 فماذا لو كان هذا الهم الشاغل عند العلماء السببَ وراء وقوع أسوأ مخاوفهم؟ 

بعد أكثر من عام من تسجيل أولى حالات المرض في إقليم ووهان الصيني، وتبنِّي رواية «السوق الرطب» والفصائل المتنوعة من الحيوانات المتزاحمة في أقفاصه، نقرأ تقرير وزارة الخارجية الأميركية الذي يسجل إصابة ثلاثة عمال مِخبريين في ووهان في نوفمبر عام 2019، لا ديسمبر كما تؤكد الرواية الرسمية حتى اليوم. 

يعزز تقريرٌ كهذا من نظرية اختلاق الصين للفيروس. لكن بعيدًا عن اللغة المشككة التي تحاك بها عادةً هذه النظريات، دعنا نحاول الإجابة على سؤالين: ما الذي تشير إليه هذه الإصابات المبكرة بالمرض لدى عمال مخبريين في ووهان؟ وما الذي نعرفه اليوم على وجه اليقين عن أصل مرض الكوفيد-19؟

بداية كوفيد-19 في ووهان 

في عام 2012، استُدعيَ فريقٌ من علماء معهد ووهان لعلم الفيروسات إلى قرية صينية جنوب البلاد بعد وفاة ثلاثة من عمال مناجم دخلوا كهفًا يعجُّ بالخفافيش. كان سبب وفاة العمال فيروس من سلالة كورونا، ويعده العلماء الأقرب إلى الفيروس الذي نعرفه اليوم باسم كوفيد-19.

أثارت الحادثة جدلًا لمن لا يتابع أخبار وأنشطة ودراسات علماء الأوبئة، لكن الحدث في حد ذاته لم يثر شكوك العلماء والمختصين. فسلالات الأمراض المعدية دائمًا ما تكون محل دراسة كجزء من جهود العلماء لمنع حدوث أزمة كالتي يعيشها العالم اليوم.

لكنها أثارت اهتمام وقلق الكثير من صناع القرار في العالم. فقبل خمسة أيام من مغادرته البيت الأبيض بداية هذا العام، رفع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب تصنيف السرية عن صحيفة وقائع تذكر إصابة عمال في مختبر ميكروبيولوجي في مدينة ووهان في الصين. إصابةٌ وقعت في الشهر السابق للشهر الذي تعتمده منظمة الصحة العالمية في تقريرها حول أصل المرض، والذي تتبناه الدول الأعضاء في المنظمة والمتداول في معظم وسائل الإعلام.

الحقيقة خلف شائعات فيروس كورونا

الحقيقة خلف فيروس كورونا الجديد بين أحاديث الناس ووسائل التواصل الإجتماعي كمصدر لنشر الشائعات والمعلومات التي ما زالت تتأرجح بين اليقين و الشك.

2 مارس، 2020

لم يأت هذا الخبر بجديد، لكن كل ما سبق ذكره منذ بدء انتشار المرض لم يؤخذ على محمل الجد كما الحال الآن. فموقف منظمة الصحة العالمية والاتحاد الأوربي والحكومة الأميركية ممثلة بسلطتها الصحية، وغيرها من حكومات وعلماء من مؤسسات بحثية معتمدة لم يتزحزح إلا بعد ظهور هذه الصحيفة. 

وحتى الحكومة الصينية أظهرت ليونة في موقفها الثابت على رفض الاتهامات الموجهة لها بضلوعها المباشر أو غير المباشر في ابتداء الجائحة. فالصحيفة التي أصدرتها وزارة الخارجية الأميركية أجبرت المجتمع الدولي على النظر بعين الاهتمام لاحتمالات أخرى كانت دائمًا محل رفض خلال العام الفائت. 

دور بحوث «الكسب الوظيفي» 

تقوم هذه الاحتمالات على فرضية «التسرب المخبري» التي ترجح وجود فيروس كورونا المستجد في أحد مختبرات ووهان الفيروسية، قبل تسربه مع العاملين فيه إلى عموم سكان المدينة. من هنا، تبدأ تكهنات أخرى حول كنه الفيروس وأصله وسبب وجوده والسبب الذي أدى إلى تسربه: هل كان متعمدًا أم عن طريق الخطأ. 

بغية الوصول إلى أجوبة شافية، تركز جهود رحلة البحث في مرحلتها النظرية اليوم على سبب وجود الفيروس، في إشارة إلى كون الفيروس أصلًا محل دراسة في أحد مختبرات ووهان قبل نهايات عام 2019. 

يعود الربط بين حادثة كهف الخفافيش وانتشار الفيروس بشكله الذي ابتدأت معه الجائحة إلى نقل عينة منه إلى مختبر معهد ووهان لعلم الفيروسات، حيث خضع لبحوث لتطويره في نطاق ما يسمى ببحوث «الكسب الوظيفي». وترمي هذه البحوث إلى التعرف على سلوكيات الفيروس حين تطوره لمعرفة كيفية السيطرة عليه في حال بدأ انتشاره.

ومن أهم العلماء الذين شككوا مؤخرًا في الرواية المتداولة حول أصل الكوفيد-19، أنتوني فاوتشي. إذ رفض مرارًا خلال العام الفائت احتمالية تسرُّب المرض من مختبر فيروسي. لكنه صرح مؤخرًا بعدم اقتناعه بتطور المرض في الطبيعة، داعيًا إلى بحث موسع في فرضية التسرب المخبري.

موقف فاوتشي من البحوث الفيروسية 

تصريح فاوتشي مثيرٌ للاهتمام. فالعالِم الذي ظهرت خلافاته مع رئيسه السابق دونالد ترمب على الملأ، ورفض إعلان ترمب إيمانه بنظرية التسرب المخبري دون دليل يدعمه، له دورٌ مركزي في تمويل مختبرات بحثية تدرس سلالات فيروس كورونا في الصين.

يؤمن فاوتشي بقيمة هذه البحوث العلمية. وفي مقال نشر له ولاثنين من زملائه عام 2012 في صحيفة الواشنطن بوست، تحدث فاوتشي عن أهمية بحوث علماء الأوبئة في منع أمراض معدية ومميتة، للدور الذي تلعبه في التنبؤ بالتطورات التي تتخذها فيروسات الطبيعة في المستقبل. وذلك في بيئة مخبرية محكمة السيطرة يسهل التعامل فيها مع الفيروسات في أسوأ أشكالها المحتملة. 

يشير المقال إلى إجراء علماء أوبئة في أوربا والولايات المتحدة دراسة على فيروسات إنفلونزا هُندِسَت في مختبرات احتواء حيوية. واستطاعوا من خلالها التعرف على آليات محتملة لتطور الفيروس ومدى سهولة إصابته الإنسان.

ورغم غياب الفيروس المخبري في الطبيعة، ترافق هذه الدراسات مخاوف من إمكانية ظهوره طبيعيًا، وهو ما يستحيل التنبؤ بتوقيته وموقعه. لكن هذه الدراسات تزود العلماء ببصمة جينية تمكنهم من التعرف على فيروسات جديدة لدى ظهورها والحد من انتشارها، عن طريق مشاركة المجتمعات المهددة بالإصابة بها بوسائل الوقاية. ومن ضمن تلك الوسائل تصنيع لقاحات في مدة قياسية. 

يطرح كُتَّاب المقال السؤال: هل تفوق منافع هذه البحوث مخاطرها؟ فيقرُّون بأنَّ الإجابة ليست بالبسيطة. فحتى هذه البحوث -التي عادة ما تستخدم حيوان ابن عرس لقربه الجيني من الإنسان في تفاعله مع أمراض الإنفلونزا- قد تأتي بتوقعات مغايرة لكيفية تفاعل البشر الفعلي مع شكل شديد العدوى من إنفلونزا الطيور. 

رغم هذا كله، أتت هذه الدراسات ببيانات جديدة استطاعت رفع جاهزية الجهات الصحية المختصة في مكافحة الإنفلونزا. وحتى لا تنقطع هذه الفائدة الجمة، يوصي المقال بالتأكد من مهنية واحترافية الفرق العلمية المضطلعة بهذه البحوث، وإجرائها في مختبرات خاضعة لإجراءات أمنية شديدة.

أسوأ جواب على «ماذا لو؟»

بداية هذا العام، كتب الصحفي والروائي الأميركي نيكلسن بيكر تحقيقًا حول نظرية التسرب المخبري لمرض الكوفيد-19. واستهلَّ مقاله بذكر النموذج المثالي لدراسة تعتمد «الكسب الوظيفي»، مكررًا رأي فاوتشي وغيره من العلماء. ثم طرح السؤال: ماذا لو؟

في الرابع والعشرين من أغسطس عام 1978، أصيبت جانت باركر، مصورة طبية في جامعة بيرمينقهام الطبية في بريطانيا، بمرض الجدري. أي بعد عام من تشخيص آخر حالة به العام السابق في الصومال، وقبل إعلان منظمة الصحة العالمية عن خلو العالم من المرض بعد حملة تطعيم مكثفة حول العالم. 

اتضح أن سبب الإصابة ضعف نظام التهوية الذي نقل لباركر المرض من مختبر يحتوي على عينة احتُفِظ بها لأسباب بحثية، مما أدى إلى وفاتها. فجاء رد الفعل سريعًا بعد تشخيصها بالمرض بغية احتوائه، وأخضعوا المخالطين للفحص والتطعيم. وهكذا استطاع الأطباء والعلماء منع وقوع وباء محتمل.

سبقت هذه الحادثة حادثتان أخريان خلال الأعوام العشر التي سبقتها، بجهوزية أقل من المستوى الذي جاءت عليه ردة الفعل لتسرب 1978، ونتجت عنهما عشرات الإصابات وحالتا وفاة. كانت تلك الحوادث أفضل الاحتمالات لأسوأ جواب ممكن على سؤال «ماذا لو؟». لهذا ظلت هذه البحوث محل جدل عالميّ، بين ترجيح منفعتها والقلق من احتمالات خروجها عن السيطرة، خصوصًا مع تكرار التسرب العرضي في دول أخرى مع أمراض أخرى

لكن التسريب المتعمد لمرضٍ معدٍ بغرض استخدامه كسلاح بيولوجي يظل الاحتمال الأسوأ. إذ سبق وقوعه تاريخيًّا في أميركا الشمالية، حين أهدى المستعمرون البريطانيون قبائل السكان الأصليين بطانيات موبوءة بفيروس الجدري. وكذا لدى إطلاق مئات المستعبدين الهاربين ممن أصيبوا بمرض الجدري حتى يقبض عليهم الثوار. 

وفي سوريا، تعكف وزارة الدفاع، بمساعدة من روسيا، على تطوير عدة أسلحة بيولوجية من ضمنها مرض الجدري. إضافةً إلى أسلحة بيولوجية أخرى وُثِّق استعمالها بشكلها الغازي على الشعب السوري خلال السنوات الأخيرة الماضية.

موقف الصين الرافض للتعاون 

نعود إلى سؤال ما إذا كان الكوفيد-19 تسربًا عرضيًا أم سلاحًا بيولوجيًّا. عملًا بشفرة أوكام، يبدو التسرب العرضي الجواب الأرجح في ضوء ما نعرفه اليوم. فالاقتصاد الصيني يعتمد بشكل كبير على الاقتصاد العالمي الذي تعرض لخسائر فادحة منذ بداية الجائحة وإلى الآن في ظل أزمة اللقاحات. وحتى لو ثبتت نظرية التسرب المخبري، سيظل صعبًا إثبات تهمة التعمد. لكن هذا الترجيح لا ينفي كليًّا سيناريو السلاح البيولوجي.

إلى اليوم، ترفض الصين التعاون الكامل، موقفٌ لا يبدو أنه سيتبدل عن قريب. وردودها باتهام مماثل لندها الأميركي ممكن تفهُّمه في سياق تخوفها من القادم، في حال ثبتت نظرية التسرب المخبري غير المتعمد. إذ قِس ما سيحدث بما حدث مع اتهام الصين بعجزها سيطرتها على المرض في بدايات الأزمة، ورفع مرضى وشركات قضايا على الحكومة الصينية

لكن الصين ليست وحدها من أراد قمع فكرة التسرب المخبري. فبعد إعداد صحيفة الوقائع، أوصى مسؤول السياسات البيولوجية في وزارة الخارجية الأميركية كريستوفر بارك بذلك، تأكيدًا على التمويل الأميركي لأبحاث الكسب الوظيفي.

اللايقين في آراء العلماء 

بعد تصريحه لـ«سي.إن.إن» باعتقاده أن الكوفيد-19 صنع في مختبر، تلقى الرئيس السابق لمراكز مكافحة الأمراض في الولايات المتحدة، الدكتور روبرت ردفيلد، تهديدات بالقتل وصار منبوذًا. وعلق قائلًا «توقعت هذا من الساسة وليس من العلماء.»  Click To Tweet

وقَّع بيرنارد رويزمن مع مجموعة من علماء الفيروسات العام الماضي عريضة في إحدى أهم المجلات العلمية ترفض نظرية نشوء الكوفيد-19 عن بحوث «الكسب الوظيفي». لكنه اليوم يشكك في هذا الرأي ويطالب بتحقيق موسع آخر، قائلًا «لن يعترف الصينيون بارتكابهم شيئًا بمنتهى الغباء.»

ما نعرفه اليوم في ظل المستجدات الأخيرة، أننا -وكما الحال مع أمور أخرى تتعلق بهذه الجائحة- لا نعرف شيئًا على وجه اليقين. فاحتمالية تسرب فيروس معدل مخبريًا من المختبر إلى الشارع، ثم انتشاره بشكل موسع من السوق أمرٌ وارد. وكذلك احتمالية ظهور المرض بشكل طبيعي دون تدخل بشري.

لكن يبقى مهمًا الوصول إلى جواب مقنع حتى نتمكن من إيقاف جائحة أخرى قد تهدد مستقبل البشرية. والفاصل في هذا الموضوع تعاون الصين التام مع منظمة الصحة العالمية، أو غيرها من جهات مستقلة، ومشاركتها كل البيانات التي حجبتها

وحتى ذلك الحين، سيظل العالم يتساءل كيف فشلت الصين في إدارتها بدايات المرض: هل انتقل من حيوان إلى إنسان في «سوق رطب»؟ أم خرج موظفٌ بفيروس معدَّل من حدود المنشأة التي يعمل بها ولم يعد؟

الصحةفيروس كوروناووهانالثقافة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية