يوليسيس بطلٌ بألف وجهٍ أدبيّ
تحكي «يوليسيس» جيمس جويس عن مسار ستيفن ديدالوس الشبيه بنظيره تيليماخ في الأوديسا. فكلاهما يبحثان عن أب ينتمي إليه ويحدد هويته
حتى أقرأ «يوليسيس» لجيمس جويس، كان لزامًا عليّ أن أتخذ قرارًا بفتح أكثر الروايات غموضًا في الأدب الغربي. وصفٌ لا يعود فقط لشائعات أطلقها من قرأ العمل بالفعل، بل كذلك إلى ثرثرات من لم يفعل، فالجميع يتهيّب ولوج عالم «يوليسيس» خشية الغرق فيه.
لكن الأمر كان فعلًا كما أراده جويس: تيهًا في عوالم لا برّ لها. فالرواية ما تزال تستفز الكثير من التفسيرات والتأويلات وما تزال تثير شهية الأقلام، حتى بعد مرور قرن على نشرها.
فتحتُ إذن «يوليسيس» وكلي يقين أن وقتها قد حان، وأني ربما بحاجة لتيه يغرقني في شيء يبعدني عن عالمنا الواقعي وما يحدث فيه من إكراهات وتحديات. بحثت عن الخيال فوجدت شيئًا يبعدني عن العقل لكنه يقربني من الحقيقة. فأجمل الأشياء، كما يقول أندريه جيد، هي تلك التي يقترحها الجنون ويكتبها العقل.
وبهذا الجنون العاقل، كتب لنا جيمس جويس أوديسا معاصرة تتقاطع بشكل كبير مع أوديسا هوميروس. فقد شكلت الملحمة القديمة وعاءً قدم من خلاله جويس تنظيره المتفرد للكتابة الأدبية، والذي في اعتقادي لا يضاهيه في الكمال سوى فلوبير ورائعته مدام بوفاري، أو بروست وسباعيته التي يبحث فيها عن زمنه المفقود.
منشأ يوليسيس
وتحكي «يوليسيس» جيمس جويس عن مسار ستيفن ديدالوس الشبيه بنظيره تيليماخ في الأوديسا. فكلاهما يبحثان عن أب ينتمي إليه ويحدد هويته. ثم مسار ليوبولد بلوم اليهودي التائه كيوليسيس هوميروس بعيدًا عن بيته وزوجته. وطيلة رحلتهما، التي تستمر يومًا واحدًا في مدينة دبلن مع فسيفساء من الشخصيات المتباينة، يضع كلٌّ منهما أمام القارئ قطعًا متشظية من وعيه وملاحظاته وتفاعلاته مع المكان والمواقف.
وهذا ما يجعل من قراءة «يوليسيس» مستحيلة إذا لم نعد إلى البداية ونحاول فهم كل هذه التقاطعات بين «يوليسيس» جويس و«أوديسا» هوميروس. إذ يقول إيتالو كالفينو في معرض تعريفاته للعمل الكلاسيكي:
«الكلاسيكيات هي الكتب التي تصل إلينا حاملة آثار قراءات سابقة على قراءتنا وجالبة في أعقابها الآثار التي تركتها هي نفسها على الثقافة أو الثقافات التي عبرت بها (أو على اللغات والعادات، بمزيد من البساطة). كل هذا يصدق على الكلاسيكيات، حديثها ومعاصرها. فأنا حينما أقرأ “الأوديسا” أقرأ نص هوميروس، لكن أنى لي أن أنسى المغامرات التي أصبح يوليسيس معنى لها على مدار القرون، وأنى لي ألا أتساءل عما لو كانت تلك المعاني محمولة في حشايا النص، أم هي قشور على النص أو انحرافات عنه، أم امتدادات لخيوطٍ فيه؟»
أوحى إليّ حديث كالفينو بضرورة احترام شجرة العائلة في الأدب. وفي الكلاسيكيات، بعيدًا عن قضية التأثير والتأثر، تخرج شخصية يوليسيس هوميروس كتجربة إبداعية متفردة تراكمت عبر السنين لتخلف لنا نحن القراء أوديسات متعددة عوض أوديسا واحدة. السؤال الأول إذن والذي أعتقد أن الإجابة عنه لن تساعدنا فحسب على فهم عمل جويس، بل كل الأعمال التي نجد فيها صدىً للملحمة القديمة: لماذا يوليسيس؟ ولماذا كانت رحلته ثيمةً لطالما شغلت الكتّاب؟
يوليسيس نموذج البطل الأدبي
في نهاية السبعينيات، اكتشفت هوليوود الخلطة السحرية لكتابة السيناريوهات بعدما اعترف المخرج جورج لوكاس أنه اعتمد بشكل كبير على عمل جوزيف كامبل «البطل بألف وجه» في كتابة وإخراج فلمه «حرب النجوم» سنة 1977. وضع كامبل نظرية «الأسطورة الواحدة» التي تقوم على أن للبطل نسقًا واحد ومسارًا واحدًا، عبر محطات حدّدها كامبل، مما يمنحنا في النهاية حكاية واحدة. وأظن هذا ما اعتمده جورج لوكاس في عمله السينمائي.
وعَرفت هذه النظرية انتقادات كثيرة لن أتناولها هنا، لكنها نبهتني لما فعله الأدب قبل السينما وكامبل بزمن طويل وعلى نحوٍ تراكمي عبر السنين. يوليسيس البطل الأوحد للأوديسا، بعد أن كان بطلًا ضمن أبطال الإلياذة، صنع منه هوميروس -بوعي أو بدونه- دليلًا للشخصية الأدبية.
فهو كبطلٍ يتمتع بمقومات متفردة عن باقي أبطال نظرية كامبل وعن باقي أبطال هوميروس تحديدًا. ولعل الاختلافات التي لاحظها المختصون بين الإلياذة والأوديسا بصفتهما عملين لمؤلف واحد تنحو في هذا الاتجاه. فالاختلاف يجعل من الأوديسا قفزة نوعية في السرد وفي خلق الشخصيات والبنية، فكانت محل نقاش واسع بين الدارسين حول مدى نسبتها لهوميروس، ومن اللافت للنظر أن نجد بعضهم ينسبها لإمرأة.
وبعيدًا عن هذه الجدالات، فأوليس أو عوليس أو يوليسيس أو أوديسيوس، مهما اختلفت التسميات وأصلها وتعريبها، شخصية وجدت لنفسها وعاءً يضمها في شيء يشبه ما يوصف حاليًا في عالم التلفاز بـ«المسلسلات المتفرعة» (spin-off).
فقد خرج يوليسيس وحيدًا من ملحمة الإلياذة بعد انتصار اليونانيين وتدمير طروادة، انتصار لعب فيه بطلنا دورًا مفصليًّا. لكن حين عاد المنتصرون اليونانيون إلى بلادهم، مُنع يوليسيس من العودة بسبب غضب بوسيدون إله البحر. فتحكي الأوديسا ما لقيه هو وأصحابه من مصاعب حتى عاد إلى إيثاكا منهكًا عجوزًا بعد انقضاء عشر سنوات أخرى على الحرب.
ولن نستطيع تحديد مقومات هذا البطل إلا بالعودة إلى الملحمتين معًا وتتبع مساره فيهما، حتى نرى ما الذي جعله ملهمًا للكتّاب، و«نموذجًا» لباقي الشخصيات الأدبية اللاحقة.
يوليسيس الداهية
ولأن الشيء يعرف بضده، أرى أن عقد مقارنة بين يوليسيس وأخيل ضرورة ملحة. فأخيل المحارب الشرس الذي رغب بشدة أن يصنع لنفسه مجدًا لا يلقاه المحارب الإغريقي إلا بالموت النبيل، أو كما يصفه اليونانيون بـ(kalos thanatos). موتٌ يؤهله ليحظى بمكانة «النبيل الشريف» (Anēr agathós) الذي دفع حياته رفضًا للعار والجبن، ومجدٌ يقربه من صف الآلهة ويبتعد به عن صف البشر.
وهذا ما أكده يوليسيس في الأوديسا حين نزل إلى عالم الأموات «هاديس» والتقى بشبح أخيل: «إني أغبطك يا أخيل من أعماقي؛ فقد عشت في هناء وعز، ويبجلك الناس كأحد آلهتهم.»
وفي مقابل الموت النبيل وقلب الأسد نجد في الطرف الآخر يوليسيس الثعلب الماكر واسع الحيلة، والذي وصفه أخيل في ذات المقابلة بأنه «رجل الدهاء والخدع». ولعل هوميروس قد حدّد مسبقًا ما يفصل البطلين، فيفتتح الإلياذة ببيت: «غن يا ربة الشعر غضبة أخيلليوس بن بيليوس المدمرة»، أما الأوديسا فيفتتحها ببيت: «غن يا ربة الفن عن الرجل الرحالة الذي هام يجوب الآفاق بعد أن دمر مدينة طروادة.».
يملك يوليسيس في جعبته تدبيرًا وتصريفًا لكل مأزق يقع فيه دون الحاجة للمواجهة الحتمية كما يفعل أخيل. وكلما تقابلت الشخصيتان برز مدى هذا الاختلاف في الغاية والوسيلة.
ففي النشيد التاسع من الإلياذة، وبعد ابتعاد أخيل عن الحرب بسبب مشاحناته مع أقاممنون، يرسل هذا الأخير بعثة يترأسها يوليسيس حتى تسترضيه وتقنعه بالعودة. حاول يوليسيس إقناع أخيل بالكلمة والخطابة مذكرًا إياه بوصايا أبيه، ثم إغوائه بوعود أقاممنون.
لكن كلمات يوليسيس لم تجد أذنًا صاغية، بل زادت غضب أخيل، فلا الكلمة ترضيه ولا دهاء يوليسيس يؤثر في عناده وفوران دمه. واجهه أخيل بقوله صراحةً ما يؤمن به عوض المراوغة والتباس الكلمات: «قال أخيل: يا أذيس المؤنس لي فاسمع فإنني لا ألابس، لي مقال لن أحولن عنه فعِلهِ واطرحنّ عنك الوسواس». وكأن أخيل هنا يتهم يوليسيس بالكذب والتحايل، ليحضرني مشهد في فلم «طروادة» حين يجيب يوليسيس أخيل: «لك سيفك ولي كلماتي.»
يوليسيس الشهوانيّ
يلتقي البطلان مجددًا في النشيد التاسع عشر، ويُظهر اللقاء ملمحًا آخر يميزهما عن بعضهما البعض. ففي هذا المشهد يفور غضب أخيل ويقرر العودة إلى الحرب منتقمًا لمقتل صديقه الحميم فطرقل (باتروكلوس). يوقفه يوليسيس محاولًا تهدئته وينصحه بالتريث ويدعوه إلى الغداء، فالرجال بحاجة إلى الطعام. رفض أخيل الدعوة غاضبًا، وأقسم ألا يذوق طعامًا قبل أن يثأر لصديقه «فالقوت والمشرب لن يدخلا فمي وما إن خضت تلك الوهاد.»
الغضب والحمية والعصبية جوهرُ أخيل وغايته، الغضب الذي دفع أخيل للانتقام رغم إدراكه أن غايته تلك ستقترن بحتفه. غضبٌ يقابله دهاء يوليسيس وحسيته التي لاحظناها باهتمامه المفرط بالطعام.
ويشكل هذا التناقض بينهما توصيفًا لما أتى به أفلاطون من تقسيم لمكونات النفس البشرية إلى ثلاثة مستويات. العقل والذي يسكن الرأس ويتميز به الحكام والفلاسفة. ثم التيموس الذي يستوطن أعلى الصدر والقلب، والذي يضخ الدم ويدفع صاحبه نحو حتفه غير آبه بشيء سوى الاعتراف بالذات وبلوغ النبالة والكرامة مُظهرًا القوة والشجاعة، وهذا التيموس يملكه المحارب الذي يذود عن وطنه وأهله وأصحابه كما يجسده أخيل. بينما يبقى للبطن والجهاز التناسلي المستوى الأخير ويمثله يوليسيس بتحفظ معقول.
نصطدم بهذه الثنائية بشكل أكثر وضوحًا وتجسيدًا وتصويرًا لدى جيمس جويس. فأول لقاء للقارئ ببلوم كشخصية ترمز ليوليسيس كان وهو يأكل بشهية أحشاء الحيوانات والطيور.
البطل العاشق للحياة
ليست حسية يوليسيس واستغلال ذكائه سوى طريقة ملتوية لبلوغ غايته. فهو يجيد بلوغ ما يريد بتجنب ما لا يريد، أي الموت الذي طلبه أخيل ووجده. رغم أن أخيل أبدى ندمًا في الأوديسا على هذا الاختيار في مشهد لقائه السابق بيوليسيس في هاديس، حيث تمنى أن يعود أجيرًا على الأرض عوض أن يكون ملكًا بأرض الموتى. ففي النهاية لم يرفع به الموت إلى الألوهية بقدر ما جعله شبحًا تائهًا في هاديس.
أما يوليسيس فقد رغب في الحياة ورغب في الاستمتاع بها كما يليق بأي بشري. وهذا ما سنقف عليه أكثر من مرة في الأوديسا وهو يجابه في رحلته مختلف الإغراءات والمحاذير والشهوات التي يتعرض لها أي إنسان، واستطاع بالتجربة أن يعالجها. رافضًا في الوقت ذاته الخلود الذي منحته إياه كاليبسو مقابل بقائه معها؛ فالخلود لم يكن أبدًا مطمع يوليسيس. وهذا ما يجعله بطلًا واقعيًّا يشبه ويقترب من كل البشر.
لم يختر يوليسيس السيف سلاحًا كما فعل أخيل، بل اختار الرمح الذي يجعله يتريث ويتأمل ويتموضع جيدًا قبل تسديد ضربته. وهذا لا يجعل منه محاربًا أقل شجاعة من أخيل أو هيكتور، وإن كنا غالبًا ما سنراه خلفهما. ففي النشيد السابع من الإلياذة، اختير أجاكس لمواجهة هكتور ولم يؤتَ على ذكر يوليسيس، لكن الحرب لم تنتهِ إلا بخدعته الشهيرة: حصان طروادة.
وهكذا، في النهاية، غلب الدهاء القوة. وكأن يوليسيس صدى للمتنبي -كما ذكر محمد لطفي جمعة في دراسته المميزة عن جيمس جويس– وهو ينشد:
الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المحل الثاني.
يوليسيس الحكّاء
ما يميز يوليسيس عن أخيل وهكتور وباقي الأبطال الهومريين أنه كان واضح الغاية: كانت غايته من بداية الإلياذة وحتى نهاية الأوديسا العودة إلى إيثاكا. ولم تسعفه سوى الكلمة والبلاغة والتعامل مع المواقف بما تتطلبه، فلا يتسرع ولا يتهور.
«صبرًا يا قلبي»، هكذا كان يحدث نفسه دائمًا. وعند بلوغه أرض الفياشن عاريًا متسخًا بعد صراعه مع الأمواج، ورغم رغبته في التحدث إلى نوسيكا، إلا أنه بقي مختبئًا يراقبها ويراقب الوضع، وحين اكتشفت أمره اختلق لها قصة تبرر حديثه وشكله.
يوليسيس إذن حكاءٌ بليغ. وعقل الحكاء، كما وصفه جوناثان غوتشل في كتابه «الحيوان الحكاء»، يتكيف تكيفًا تطوريًّا يتيح لنا أن نعيش حياتنا بترابط ونظام، حياة يحكمها هدف ويجعلها أكثر من ارتباكٍ هامس وساطع. ويوليسيس هو من يتولى حكي القصة، وهذا ما جعل البعض يراه كذابًا. فيرى أفلاطون في محاورته عن الكذب «هيبياس الأصغر» أن ما يميز يوليسيس عن أخيل هو وعيه وإدراكه لأكاذيبه وإرادته في خلقها.
وهناك من أوصله إلى مرتبة «الكذب المرضي» (Mythomanie). فجان جينو في روايته «ميلاد الأوديسا» يعتقد أن يوليسيس اختلق أكذوبة وحسب يبرر بها غيابه وخيانته لزوجته بينيلوب. أما دانتي من جهته، فيبدو معجبًا بسحر كلماته وجعل من لسانه شعلة باحثة عن المعرفة وإن كان هذا البحث يغضب الآلهة.
لكن الملفت في حكاية يوليسيس قلة حضور الآلهة في الأوديسا عكس الإلياذة، فشكَّل ذلك قطيعة مع الآلهة أو على الأقل بداية هذه القطيعة. فجاء يوليسيس نوعًا جديدًا من الأبطال لا يتوق للمجد بقدر ما يتوق للعيش، بما يحمله هذا العيش من احتمالات ممكنة يصل إليها، كما قلنا، بالتجربة.
البطل المنفيّ
فتحت تجربة يوليسيس شهية الفلاسفة والكتاب الذين وجدوا تقاطعات كثيرة بينها وبين الفرد المعاصر. فيوليسيس، كأي بشري عادي، حاول مستميتًا الخروج من حياة بائسة سيئة إلى حياة أكثر تناغمًا، إن لم أقل حياة سعيدة. رغم أن السعادة والتناغم ليسا هدفًا في ذاته، بل ما تمنحه التجربة للإنسان من فرصة للتفكير في وجوده الخاضع لسلطة القدر والمصير والعنف.
لم تكن رحلة يوليسيس رحلة مغامرة وبحث عن كنز مادي، إذ أُجبر على الرحلة. كما لم يبحث عن كنز بقدر ما بحث عن العودة إلى الوطن وعن هويته المفقودة. فقد تشتت يوليسيس الرجل وفقد في تيهه مكانته ملكًا لإيثاكا وأبًا لتيليماخ وزوجًا لبينيلوب ومحاربًا أثينيًّا. أصبح كما وصف وسمّى هو نفسه في إحدى محطات رحلته: «لا أحد».
لم يكن هذا الـ«لا أحد» من البداية مجهولًا، بل أصبح كذلك بسبب المنفى. فالمنفى شكَّل جوهر رحلة الأوديسا وسؤالها الأساسي «هل من عودة ممكنة؟» السؤال الذي حاول كونديرا الإجابة عنه مستحضرًا يوليسيس في روايته «الجهل»، لإبراز العنف الذي يمارسه المنفى على الفار من وطنه وإن كانت الإكراهات مختلفة. استخدم كونديرا منفى يوليسيس مثالًا يبرر من خلاله إخفاق المهاجر وفشله ويأسه.
فحسب كونديرا، لم تمنح إيثاكا يوليسيس ما كان ينتظره بعد فترة طويلة من الغياب، وهو المتعب من الرحلة والمنهك من الذكرى والمواجهات. بل جعلته يأسى على ما فقده قبل الخروج منها وما فقده بعد العودة إليها. وهذا حال بطليْ «الجهل» إيرينا وجوزيف بعد عودتهما إلى تشيكوسلوفاكيا بعد عشرين سنة من الغياب. معضلة العودة هذه ربما هي ما حثَّ الكثير من الكتاب على اقتراح نهايات أخرى للقصة يدفعون فيها يوليسيس إلى الخروج مجددًا من إيثاكا.
يوليسيس الإنسان
بهذا تكون الأوديسا هيأت نموذجًا كلاسيكيًّا لكاتب كجيمس جويس يرغب في تأليف ملحمة عصرية بطلها إنسانٌ عادي. وهو نموذج جذاب بسبب ما يميزه من براعة ناجحة محسوبة وصقل ظاهر ممتع.
استطاع يوليسيس أن يضع من خلال محطات رحلته مفاهيم تربط إنسان الماضي مع إنسان الحاضر، وتستحضر واقع الإنسان في مواجهة خوفه والرضا بالحدود التي تصل إليها شجاعته وذكاؤه. Click To Tweet
فهو في النهاية إنسان وُضع قسرًا في منظومة تعاني. ويساعدنا يوليسيس على تهدئة قلقنا بعض الشيء في مواجهة تلك المنظومة، لكنه في الوقت ذاته يجعلنا ندرك مدى سطوة العنف الرمزي الممارس على الفرد في مواجهة التاريخ. فالتاريخ بدوره ليس سوى تيه وتحدٍّ يعود ويتكرر دون أن ننتبه لهذا التكرار.
«ففي المستقبل وهو شقيق الماضي قد أرى نفسي كما أنا أجلس هنا الآن لكن بواسطة انعكاس من ذاك الذي سأكونه آنذاك.»، هكذا تحدث ستيفن ديدالوس.