بايدن يريد اليمن ورقة تفاوضية جديدة
يهاجم بايدن في تصريحاته السعودية لأسباب سياسية حزبية وشخصية، ويظهر أنه يستخدم ورقة اليمن لبناء تفاوضات جديدة.
من الواضح أن المرشح الديمقراطي جو بايدن، أثناء الانتخابات الرئاسية في نوفمبر الماضي، كان مشحونًا بموقف حاد تجاه السعودية. يتضح ذلك من اللغة الفجة التي استخدمها آنذاك للتعبير عن رفضه بيع الأسلحة إلى السعودية. وصفها حينها بأنها «دولة منبوذة» (a pariah state)، مضيفًا أنه إذا ما فاز في الانتخابات، سيتعامل مع السعودية على هذا الأساس.
وعدا أنَّ هذا وصفٌ لا يليق، ولغة غير مسبوقة في قاموس العلاقة بين الدولتين، فأقل ما توصف به أنها كانت لغة بذيئة في حق دولة حليفة للولايات المتحدة. ربما كان بايدن يعبر بذلك الموقف عن تعالٍ ساذج لكسب انتخابي، لكنه موقف شعبوي يفتقد لحكمة الدبلوماسية في التخاطب بين الدول. فإذا كانت السعودية دولة منبوذة، فحليفتها، الولايات المتحدة، تكتسب الصفة ذاتها.
مع كل ذلك يبقى السؤال: لماذا ذهب المرشح الديمقراطي إلى هذا الحد البذيء في التعبير عن موقفه تجاه الرياض؟
ازدواجية المعايير في السياسة الخارجية
ليس مقنعًا القول إنّ إنسانية بايدن كانت الدافع لموقفه هذا بسبب انتهاكات حقوق الإنسان في السعودية، وبداعي حرب اليمن وما خلفته من مأساة إنسانية. فإذا كان الأمر كذلك حقًا فلماذا يلتزم بايدن الصمت حيال جرائم النظام الإيراني في الداخل، وجرائمه من خلال ميليشياته المذهبية في كل من العراق وسوريا ولبنان، واليمن أيضًا؟
هُجّر نصف الشعب السوري في المنافي، ودمرت أغلب المدن والقرى السورية على رؤوس أهلها، وتجاوز عدد القتلى نصف مليون حسب إحصاءات الأمم المتحدة وحدها. كل ذلك بفعل تحالف جيش النظام السوري والروس والحرس الثوري الإيراني وميليشيات إيران، خاصة حزب الله.
ورغم كل ذلك وقّعت إدارة الرئيس باراك أوباما، ونائبه جو بايدن، اتفاقًا نوويًّا تجاهل كل ما ترتكبه إيران من انتهاكات وجرائم داخل وخارج حدودها.
وحاليًا يسعى الرئيس بايدن للعودة إلى هذا الاتفاق دون معرفة إن كانت هذه العودة ستخضع لشروط إيران، كما حصل في عهد أوباما. ثم ماذا عن ميليشيا الحوثي ذاتها، التي تنتمي لنفس منظومة الميليشيات الإرهابية بمذهبيتها، وترعاها وتسلحها إيران في المنطقة؟ لقد نفذت هذه الميليشيا المسلحة انقلابًا على الدولة بهدف ربط اليمن بالمشروع المذهبي الإيراني، وفرضت حربًا على الشعب اليمني، وتنكل بكل معارضيها في الداخل.
فبأي مسوغ قررت إدارة بايدن رفع اسمها من قائمة الإرهاب، وباتت السعودية تنتمي، في عرف الرئيس، لقائمة الدول المنبوذة؟ كل ذلك دون ذكرٍ لجرائم إسرائيل ضد الفلسطينيين، التي لم تتوقف منذ أكثر من ثلاث وسبعين سنة، ويعتبرها بايدن من باب الدفاع عن النفس. في حين دفاع السعودية عن نفسها أمام ميليشيا مذهبية تنتمي لمشروع مذهبي مدمر في المنطقة، تقوده وتموله إيران، يجعل منها دولة منبوذة.
من هنا مشروعية السؤال عن السبب الحقيقي وراء موقف بايدن الجديد والمفاجئ تجاه الرياض؟ وهل يمثل هذا الموقف بداية جديدة ومختلفة للعلاقات السعودية الأميركية؟
عداء بايدن الحزبي والشخصي ضد ترمب
منذ عام 1945 عرفت العلاقات السعودية الأميركية منعطفات وخلافات في المواقف والرؤى، كما شهدت تفاهمات وتوافقات. لكن لغة التعبير عن كل ذلك ظلت دائمًا ضمن حدود الدبلوماسية التي تقتضيها علاقات الدول، خاصة بين دولتين تربطهما علاقة تحالف تمتد لأكثر من سبعين سنة.
حتى أثناء ذروة الخلاف السعودي الأميركي حول الصراع العربي الإسرائيلي عندما اندلعت حرب أكتوبر سنة 1973، وأقدمت السعودية على فرض حظر للنفط على الولايات المتحدة بسبب دعمها لإسرائيل عسكريًا أثناء الحرب، لم تنحدر اللغة بين الدولتين كما حصل من المرشح، وليس الرئيس بعد، بايدن. فما الذي حصل؟
الأرجح أن حدّة لغة بايدن إنما تعود في مبتدئها إلى حدة التنافس في الانتخابات حينها، ما عزز حدة امتعاض بايدن من العلاقة الودية التي كانت بين الرياض وخصمه الجمهوري ترمب. وإذا صح ذلك، وهو الأرجح، فهذا يعني أن السعودية وجدت نفسها ضحية للصراع الأيديولوجي بين الجمهوريين والديمقراطيين منذ أن فاجأ ترمب الجميع بفوزه الرئاسي في 2016.
كأن بايدن في هذا السياق أراد بتصريحه المعادي إيصال رسالة للسعوديين بأنهم سيدفعون ثمن موقفهم مع ترمب.
هذا على المستوى الحزبي والشخصي. وامتدادًا لذلك، وعلى المستوى السياسي للإدارة الجديدة، سارع بايدن بعد فوزه بالرئاسة إلى ترجمة موقفه من السعودية إلى سياسة على الأرض. صحيح أن مصطلح (pariah) تراجع، بما يوحي أن موقفه تراجع أيضًا من خانة العدواني إلى السلبي، لكن اختيار بايدن لملف اليمن تحديدًا كموضوع لسياسته الجديدة يؤشر إلى ما لا يقل سوءًا.
ويعرف الرئيس بايدن، وكذلك فريق إدارته، مدى خطورة هذا الملف وحساسيته بالنسبة للسعودية. فتنطوي السياسة التي أعلنها خيارًا لإدارته على قرارات أقل ما توصف به أنها ليست ودية وغير مسبوقة أيضًا في تاريخ العلاقة بين البلدين. وهذا ما تعبر عنه العناصر الأربعة لهذه السياسة.
عناصر سياسة بايدن تجاه حرب اليمن
أول هذه العناصر رفع جماعة الحوثيين من قائمة الإرهاب، وهو ما يمنح هذه الجماعة شرعية انقلابها على الدولة، وارتهانها المذهبي لإيران كأحد أذرعتها في المنطقة.
العنصر الثاني تعيين مبعوث خاص لليمن. وهذا يحدث للمرة الأولى، والهدف منه إيجاد مسافة واضحة بين الموقفين السعودي والأميركي تجاه الوضع هناك، بما يتعارض مع مصلحة السعودية. وبما يتعارض، قبل ذلك وبعده، مع علاقة التحالف بين الرياض وواشنطن فيما يخص المنطقة عمومًا، وتحديدًا فيما يخص مواجهة سياسات إيران المزعزعة للاستقرار، بما في ذلك تهريبها السلاح للحوثيين بشكل مكثف ومنتظم.
العنصر الثالث تعيين روبرت ماللي مبعوثًا خاصًا لإيران. والسيد ماللي معروف بميله المسبق لخيار التقارب مع إيران على حساب علاقة واشنطن مع الدول العربية، بما فيها السعودية.
واللافت في هذا السياق أن ماللي نفسه نشر -قبل تعيينه بأيام وبالاشتراك مع ستفين بمبر- مقالًا في مجلة «فورين أفيرز» يحمل عنوان «شريكٌ في المجزرة: كيف مكنت أميركا من اندلاع الحرب في اليمن» يكشف ذلك الميل دون مواربة. بل إن إدارة بايدن تبنت بعض مقترحاته في هذا المقال. وأحد هذه المقترحات رفع اسم الحوثيين من قائمة الإرهاب.
يتكامل العنصر الرابع مع العناصر السابقة بشكل لافت، وهو وقف إمداد السعودية بأسلحة هجومية قد تحتاجها في حربها مع ميليشيا الحوثي. وأتبع بايدن ذلك بترديده أن على السعودية وقف هذه الحرب، وكأن إيقافها يعتمد عليها وحدها دون غيرها. وهذا موقف للضغط على السعودية بتهمة غير معلنة بأنها المسؤولة وحدها عن الحرب في اليمن، وأن الحوثيين وإيران من ورائهم، في نظر بايدن، لا مسؤولية لهم فيها.
بايدن يعيد تاريخ أوباما
بعد أيام من إعلان هذا الموقف الأميركي، بادرت السعودية إلى إعلان مبادرة لوقف الحرب في اليمن، والبدء في مفاوضات بين الأطراف اليمنية لإحلال السلام. وسارع الحوثيون برفض المبادرة، مع صمت إيراني لافت، حيث تركت إيران الأمر لوكلائها في صنعاء. كانت هذه حركة سياسية لافتة تنطوي على رسالة موجهة لإدارة بايدن قبل غيرها.
مرة أخرى، كيف يمكن تفسير موقف الإدارة الجديدة في هذه الحالة؟ هذا الموقف تكرار لما فعله باراك أوباما عندما استخدم الملف السوري ورقة تفاوضية مع الإيرانيين، بهدف التوصل للاتفاق النووي سنة 2015، والمعروف باسم «خطة العمل الشاملة المشتركة» (JCPOA). وهي ورقة اقتضت غض الطرف عن مآسي دور إيران وميليشياتها في سوريا والعراق، تفاديًا لصدام مع طهران يعرقل التوصل لهذا الاتفاق.
والآن تكشف عناصر سياسة بايدن تجاه اليمن والسعودية سعيه إلى توظيف الملف اليمني كورقة تفاوضية أخرى مع إيران. وهذه المرة للعودة إلى الاتفاق بعدما خرج منه ترمب، ومع التعديلات التي اتضح أن الاتفاق يصبح ناقصًا دونها، ولا يعالج قضايا أخرى كبيرة تهدد استقرار المنطقة.
منها عشرات الميليشيات، وبرنامج الصواريخ الباليستية، وتدخلات إيران في أربع دول عربية من منطلق مذهبي، والمدى الزمني القصير للاتفاق الذي بعده يحق لإيران امتلاك سلاح نووي. هذا فضلًا عن أن البرنامج النووي، في ظل الاتفاق الحالي وبرنامج الصواريخ الباليستية، سوف يؤدي إلى سباق تسلح خطير في المنطقة.
حرب اليمن كورقة تفاوضية جديدة
السؤال هنا: إذا كان هدف التعديلات التي يريد بايدن إضافتها للاتفاق معالجة تلك القضايا الكبيرة، فلماذا يريد توظيف اليمن ورقة تفاوضية لإغراء إيران، وليس للضغط عليها لقبول تلك التعديلات؟ الإغراء يعني كما حصل مع أوباما في التغاضي عن التدخل الإيراني في اليمن. والضغط، بدلًا من ذلك، على السعودية وتحميلها وحدها مسؤولية وقف الحرب هناك.
وهذه سياسة تنسف فكرة التعديلات على الاتفاق، أو تجعل منها تعديلات محدودة في حجمها وفعاليتها، في محاولة شكلية لإرضاء أغلبية مجلس الشيوخ خاصة الجمهوريين، الرافضين العودة للاتفاق من دون تعديلات. إشكالية بايدن هنا أنه لا يريد أن يبدو وكأنه يصادق على مشروعية إخراج الولايات المتحدة من الاتفاق على يد عدوه السياسي ترمب. وفي الوقت نفسه، لا يستطيع العودة للاتفاق من دون أية تعديلات.
والمخرج من هذه الإشكالية كما يراه فريقه السياسي المعني بالملفين اليمني والإيراني ــ فريق لم تعرفه واشنطن في الإدارات السابقة ــ يتمثل في محاولة كسب تعديلات ليست جوهرية في مفاوضات العودة مع إيران. فيحيّد بذلك معارضة الكونقرس، ويضغط على السعودية حتى يحيد معارضتها المحتملة هي الأخرى.
هكذا يتضح أن موقف بايدن وإدارته من السعودية إنما جزء من سياسة قديمة-جديدة تجاه إيران وملفها النووي. الجديد فيها الموقف السلبي تجاه السعودية وعلاقته بالصراع بين الجمهوريين والديمقراطيين، والقديم محاولة العودة للاتفاق من دون الصدام مع الإيرانيين كما فعل أوباما من قبل.