كيف أصبحت كردستان العراق من أعقد ساحات الصراع التركي الإيراني
يكتب سليمان الوادعي عن طموح كردستان العراق والتصعيد الذي يطالهم والمواجهات الإقليمية.
في لقاء تلفزيوني مع قناة «رووداو» في إقليم كردستان العراق، طالب سفير طهران لدى العراق، إيراج مسجدي، تركيا باحترام القانون الدولي والسيادة العراقية، وبالكف عن تدخلاتها العسكرية في قضاء سنجار بإقليم كردستان. أتى تعليق السفير إثر الغارات العسكرية التركية ضد مواقع حزب العمال الكردي (PKK) في شمال العراق.
وفي تصعيد مضاد، استدعى الجانب التركي سفير طهران لدى أنقرة، محمد فارزماند، احتجاجًا على ما بدر من السفير الإيراني في بغداد. وتعالت تكهنات إعلامية بدخول القوتين الإقليميتين في حرب باردة.
كيف غدت كردستان العراق ساحة صراع بين تركيا وإيران أعقد -في تشابكاتها- من ساحات الصراع الأخرى في سوريا وأذربيجان؟ وما حقيقة الشقاق التركي الإيراني في معرض الأزمات مع الجماعات الكردية؟ وما مدى احتمالية وقوفنا على أعتاب تغيرات محورية في مشهد التحالفات الإقليمية، إذا ما انهارت التفاهمات التركية-الإيرانية؟
حيثيات التصعيد التركي الإيراني
جاء تنديد السفير الإيراني بانتهاك تركيا سيادة الأراضي العراقية عقب شنّها عملية عسكرية في العاشر من فبراير الماضي، بقصد تحرير ثلاثة عشر أسيرًا تركيًّا كانت تحتجزهم قوات حزب العمال الكردي. أطلق على العملية اسم «مخلب النسر 2» واستهدفت منطقة قارا بقضاء العمادية التابعة لمحافظة دهوك بإقليم كردستان.
لم تؤت العملية التركية أكلها، بل اتهمت أنقرة حزب العمال الكردي بقتل الأسرى خلال العملية. وردّ الحزب بأن القصف التركي لكهف في جبال قارا هو ما أودى بحياة كل الأسرى.
تفاقمت حدة التوتر الدبلوماسي بين الطرفين، وشهدت العلاقة بينهما توترات متلاحقة من بعد مآلات الصراع الأذربيجاني-الأرميني. ناهيك عن الاعتقالات المتوالية في الداخل التركي لعملاء إيرانيين يُعتقد بضلوعهم في عمليات تصفية معارضين سياسيين من أبناء جلدتهم.
آخر تلك الاعتقالات اعتقال المسؤول الإيراني، محمد رضا نصر زاده، في إسطنبول شهر فبراير الماضي، بحجة تورطه في اغتيال المعارض الإيراني مسعود مولوي وردنجاني عام 2019.
استفز وزير الداخلية التركي، سليمان صويلو، الطرف الإيراني بتصريحه أن إيران توفر ملاذًا آمنًا لما يقرب من خمسمئة إرهابيّ، الأمر الذي دفع طهران لاستدعاء سفير تركيا لديها، دريا أورس، وتسليمه احتجاجًا وإنكارًا رسميّين لما ورد عن وزير داخلية بلاده.
التعاون التركي الإيراني ضد الطموح الكردي
ما يسترعي الانتباه أن لدى كلٍّ من تركيا وإيران استراتيجيات متشابكة ومعقدة، عند التعاطي مع الأزمات التي تفرضها تطورات الحالة الكردية في المنطقة. إذ تتأثر الدولتان بانعكاسات الحالة السياسية والأمنية التي تفرضها نسب المكون الكردي ضمن تركيبة البلدين الديمغرافية.
فالإثنية الكردية تشكل ما يقرب من 15-20% من مجمل سكان تركيا، أي ما يعادل قرابة العشرين مليون نسمة. بينما في إيران، تشكل هذه الإثنية 13-17.5%، أي قرابة عشرة ملايين إلى اثني عشر مليون نسمة من مجموع سكان إيران.
ويجري التعاون بين البلدين في سياق معارضة قيام دولة كردية مستقلة على مشارف مناطقهما الحدودية، خشية أن يشعل الجنوح الكردي نحو الاستقلال في العراق حماسة الداخل الكردي في البلدين للّحاق بركب الدولة الكردية الجديدة.
عام 2019، وقّع الطرفان الإيراني والتركي مذكرة تفاهم لتعزيز التعاون الأمني على الشريط الحدودي بين الدولتين. ليتبع هذا التنسيق قيامهما بعمليات مشتركة في شهر مارس 2019 ضد المقاومة الكردية في جبال قنديل العراقية.
ففي السابع عشر من يونيو 2020، شنت تركيا حملتها البرية-الجوية الموسومة بـ«عمليات مخلب النسر» ضد مقاتلي حزب العمال الكردي، ونشرت قوات خاصة في شمال العراق. وتزامنت تلك الحملة التركية مع هجمات عسكرية شنتها قوات الحرس الثوري الإيراني على معاقل حزب الحياة الحرة الكردي (PJAK)، المناوئ لإيران والمتمركز في كردستان العراق.
مقتضيات الأمن الحدودي والمصلحة الجيوسياسية التكتيكية جعلت من الورقة الكردية منطلقًا أمنيًا يُستغل من الطرفين، لتعميق المشتركات السياسية في وجه التصادمات الناجمة عن الملفات الإقليمية الأخرى. لكن أهمية منطقة قضاء سنجار تفرض واقعًا مغايرًا عكس ما يأمله الموقعون على اتفاقيات التعاون بين البلدين.
وضع سنجار في المعادلة الكردية-الكردية
يقع قضاء سنجار ضمن محافظة نينوى من إقليم كردستان، في المثلث شمال غرب العراق بمحاذاة كل من تركيا وسوريا، ما يمنحه أهمية استراتيجية كبيرة. فقبل عام 2014، كانت سنجار منطقة تتنازع عليها الحكومة المركزية العراقية وحكومة إقليم كردستان، وذلك قبل سقوطها في قبضة تنظيم الدولة الإسلامية، ما عرّض سكانها الإيزيديين للتنكيل والاغتصاب والقتل.
وبفضل مقاتلين أكراد من سوريا وكردستان العراق، وبدعم من التحالف الدولي، تحررت المنطقة في نوفمبر 2015. ومذ ذاك، تبسط الجماعات الكردية سيطرتها على جبال المنطقة. أما المناطق المحيطة بالقضاء، فانتشرت فيها فصائل من الميليشيات الشيعية التي ساهمت في معارك تحرير العراق ضد تنظيم الدولة الإسلامية.
يؤرق تمركز حزب العمال الكردي شمال العراق الجانب التركي. ومنذ عقود وهو يحاول، عبر مراكز عسكرية وضعها بالداخل العراقي، اجتثات قوى الحزب التي تركن إلى وعورة التضاريس في منطقة جبال سنجار، إضافة إلى تمركزها في جبال قنديل، إما للاختباء أو إثارة القلاقل ضد الحكومة التركية.
يعد حزب العمال الكردي ماركسيًا متطرفًا في عين نظرائه الأكراد، لا سيما الأحزاب الحاكمة في إقليم كردستان العراق. ولأن سنجار تتبع مناطق الحكم الذاتي الخاضعة لسيطرة حكومة الإقليم، فالحكومة لا تنظر بارتياح إلى تواجد حزب العمال الكردي فيه. وعليه، تعقّد الوضع في سنجار، وغدت عودة النازحين الإيزيديين الى ديارهم صعبة، نظرًا إلى ضعف وجود الحكومة المركزية ومنظمات الإغاثة الدولية.
وتفاقم العداء الكردي الكردي عقب استفتاء الاستقلال عام 2017، بين الحزب الديمقراطي الكردستاني مقدم الاستفتاء والطامح للاستقلال، وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني المشكك في تلك الطموحات. على إثره، غدا الأخير متمتعًا بعلاقات أفضل مع حزب العمال الكردي والمجموعات الكردية السورية الأخرى ذات التوجه الثوري المماثل لحزب العمال، كحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD).
عوائد التعاون بين تركيا وحكومة إقليم كردستان العراق
سبق أن رفضت تركيا التعامل مع حكومة إقليم كردستان (KRG)، وعارضت بسط سيطرتها على المناطق النفطية المتنازع عليها في كركوك، إلا أنها عادت ووطدت علاقاتها مع حكومة الإقليم.
مكّنتها هذه السياسة من نيل دعم الحزب الكردي المهيمن، الحزب الديمقراطي الكردستاني (KDP)، ضد حزب العمال الكردي. بل إن حاكم الإقليم، نيجيرفان بارزاني، وضع اللوم على حزب العمال الكردي كونه من حرّض تركيا على انتهاك السيادة العراقية.
ولا يخفى أن إقليم كردستان العراق يقع ضمن المشروع الإقليمي التركي المزعوم لاستعادة الامبراطورية العثمانية. غير أن التعاون ما بين الحكومة التركية وحكومة الإقليم، بغض النظر عن الاعتبارات والمحركات الأيديولوجية، ذو عوائد مربحة للطرفين.
فالحرب ضد حزب العمال الكردي تأتي على رأس أولويات تركيا. ثم تليها المصالح الاقتصادية، سواء اقتصاد الطاقة أو زيادة التبادل التجاري، فضلًا عن الفرص الاستثمارية للشركات التركية. Click To Tweet
بالمقابل، تجد حكومة الإقليم منفعتها في سياق تعميق الشراكة مع تركيا، كون الأخيرة عضو في حلف الناتو، وحليفة الغرب الديمقراطي الليبرالي في المنطقة، والقوة العسكرية والاقتصادية المحاذية. يوفر ذلك للإقليم قدرة على مواجهة مشكلات التفكك الهيكلي لبنية الأمن في العراق والمنطقة، ويفتح لها آفاقًا للازدهار والاستقرار.
أهمية جبال سنجار في مشروع إيران التوسعي
تنطوي الاستراتيجية الإيرانية في الإقليم على تعظيمٍ بالغ لأهمية جبال سنجار، إذ تقع في الشمال الغربي العراقي بمحاذاة الحدود السورية، ما يعني توظيفها لصالح العبور السلس للميليشيات الإيرانية والإمداد العسكري عبر الحدود. وبالمقابل، ترى إيران في العمليات العسكرية التركية تحديًا صارخًا للسيطرة الإيرانية.
تناهض الميليشيات الشيعية الموالية لإيران، والمنتشرة بالقرب من سنجار، تطلعات حكومة إقليم كردستان واستفتاء الانفصال الذي أقامه الحزب الديمقراطي الكردستاني. وتجد الميليشيات مشتركات براقماتية مع المجموعات الكردية المسيطرة على منطقة قضاء سنجار، بالتحديد حزب العمال الكردي والمجموعات المقربة منه.
أضف إلى ذلك متاخمة جبال سنجار للحدود السورية، ما يدفع أطرافًا عديدة إلى محاولة السيطرة عليها. فالتهديد الحقيقي لتركيا يكمن في التقارب الإيراني- ممثلاً في ميليشيات الحشد الشعبي الولائية- مع حزب العمال الكردي في كردستان، وصولًا إلى المناطق الكردية في سوريا.
فإيران تستغل تحركات حزب العمال الكردي لصالحها، إما بالدعم أو توفير الغطاء، نكاية في الدولة التركية ودحرًا لمخاطر توسيع نفوذها. ويتأتى لها تحقيق مبتغاها من خلال تفويض الميليشيات العراقية الشيعية الموالية بالأدوار ذات الطابع الصدامي مع تركيا.
تعقيدات المصالح التركية الإيرانية في سنجار
تشير تقارير متفرقة إلى اجتماع قيادات فصائل الحشد الشعبي نهاية فبراير الماضي، عصائب أهل الحق والنجباء وكتائب حزب الله، مع قيادات الحرس الثوري لمناقشة ما وصفوه بـ«نية تركيا اقتحام قضاء سنجار» وبحسب الإعلام التركي المحلي، فإن الحشد الشعبي أرسل ثلاثة فصائل مسلحة، أي قرابة خمسة عشر ألف مقاتل، إلى منطقة قضاء سنجار لمجابهة التدخلات التركية.
كذلك، أبدت الفصائل والنخب القيادية الشيعية اعتراضها على اتفاق حكومة العراق المركزية مع حكومة إقليم كردستان، الموقع في أكتوبر الماضي بشأن قضاء سنجار. إذ يقضي الاتفاق بإخلاء المنطقة من كلّ القوات المسلحة، بما فيها الحشد الشعبي وحزب العمال الكردي.
فالسيطرة على قضاء سنجار تمنح الأفضلية العسكرية للميليشيات الشيعية وحزب العمال الكردي، نظرًا لتوافر الممرات الآمنة لنقل المقاتلين من العراق إلى سوريا، وتسهيل عمليات إمداد السلاح بين الدولتين.
إجمالاً، تعج الساحة العراقية بالمعضلات الأمنية المهددة لإيران وتركيا، لكنّ منطقة قضاء سنجار، وما تمثله من امتياز استراتيجي، تكشف عن تعقيدات حاسمة بين الطرفين التركي والإيراني. فالأول تعتلي سلّم أولوياته المشكلةُ الأمنية التي يخلقها حزب العمال الكردي، بينما يكترث الآخر بإمدادات السلاح وتنقل ميليشياته الولائية عبر الحدود العراقية السورية.
حرب باردة أم مشكلة دبلوماسية عارضة؟
تستند تفاهمات العلاقة التركية الإيرانية على مبدأ تقليص الخلاف في دوائر الصراع بينهما في سوريا والعراق وناقورنو كاراباخ. وذلك بغية الحفاظ على مشتركات تعاونية، والحيلولة دون تكالب الظروف الخلافية والمتغيرات الدولية والإقليمية ضد مصالحهما الوطنية.
وبلا شك، يظل ديدن القوتين الإقليميتين التنافس على بسط النفوذ في المنطقة. لكنّ المعتركات السياسية والاقتصادية والفكرية خلال سنوات العقد الماضي دفعت الجارتين إلى تعظيم سبل التعاون بينهما. لم يرتقِ التعاون إلى شراكة استراتيجية، لكنه حال دون المواجهة والتصعيد العسكري المباشر.
أهم أسباب التقارب التركي الإيراني، وحرص الدولتين على إخماد الصدامات في ساحات الصراع المختلفة، الرغبةُ في إرساء تحالف إقليمي مضاد لمعسكر الند، الذي يقوض مصالحهما الجيوسياسية ويعرقل مساعيهما لمد النفوذ الأيديولوجي والسياسي في الإقليم. أي معسكر السعودية ومصر والإمارات والبحرين وغيرهم.
لذلك عندما ترسل تركيا إشارات ودية تجاه مصر والسعودية وبعض دول الخليج الأخرى، مثلما جاء على لسان المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين، فهو نذير كافٍ لإيران بأنَّ تغييرًا ستشهده خارطة التحالفات في الإقليم. وبأنَّ الهوة في التفاهمات التركية الإيرانية ستزداد عمقًا عما اعتدنا عليه في السنوات الأربعة الماضية.
تتزايد التوترات التركية الإيرانية تباعًا، بدءًا من الساحة السورية، وما تنطوي عليه معارك إدلب من مواجهات مباشرة، إلى ساحة إقليم كاراباخ، وما خلفه انتصار أذربيجان من تواجد القوات التركية على الأراضي الأذربيجانية المتاخمة للحدود الإيرانية.
أما الساحة العراقية، فلا تبدو أقل توترًا من سابقاتها. بل تنذر بمناكفات سياسية حادة في العلاقة التركية الإيرانية، تتبعها تحولات جديدة في تحالفات الإقليم. ورغم خطورة الوضع الراهن في جبال قضاء سنجار، فلن يفضي الوضع إلى مواجهة عسكرية مباشرة، ولن يفضي كذلك إلى قطيعة كاملة في العلاقة بين الجارتين.