إيران والقوى العظمى، الملف النووي في معترك المسارات الدبلوماسية
التراجع عن الملف النووي الإيراني كانت أحد وعود بايدن في حملته، وبعد توليه الرئاسة مالذي سيتغير في موقفه؟ وماهي مواقف دول العالم من الملف؟
مذ تنصيب إدارة الرئيس بايدن في العشرين من يناير الماضي، تتطلع أنظار الساسة والقادة والمحللين إلى تحديد ماهية التعاطي الأميركي مع الملفات الإيرانية الشائكة من الملف النووي إلى تطور الصواريخ الباليستية، وصولًا إلى الأدوار المزعزعة لاستقرار الإقليم.
حقيقة فالرئيس بايدن، وقبل تسلم الإدارة فعليًّا، دومًا ما صرح خلال حملته الانتخابية بنية النكوص عن قرارات الرئيس ترمب الخارجية، لا سيما ما يتعلق بالاتفاق النووي الإيراني. لكن الوعود الخطابية ومظاهر التنازل السياسي الأميركي في سبيل إحياء الاتفاق النووي تبدلت إلى واقع أكثر حذرًا في ظل التكهنات المتزايدة بنية السلطة التنفيذية الأميركية الاستفادة من إرث ترمب وعقوباته المفروضة على طهران.
شدد بايدن في أولى لقاءاته التلفزية كرئيس للولايات المتحدة الأميركية، على ضرورة تحقق الالتزام الإيراني بالبنود المنصوص عليها في الاتفاق كشرط لازم قبل الامتثال الأميركي المحتمل، فضلاً عن رفضه خيار ترغيب إيران في التفاوض عبر مسار رفع العقوبات المفروضة عليها.
السجال الإعلامي حيال العودة إلى الاتفاق النووي
أكَّد بايدن في خطابه خلال مؤتمر ميونخ للأمن الجمعة الماضية عزم بلاده الانضمام إلى دول الترويكا الأوربية (فرنسا وألمانيا وبريطانيا) في مسعى الحفاظ على الاتفاق النووي، لا سيما بعد أن تراجعت إدارته رسميًّا عن قرار الرئيس ترمب إعادة فرض العقوبات الأممية على إيران «السناباك» (Snapback).
أمّا نظيره الإيراني، المرشد الأعلى علي خامنئي، وصاحب الكلمة الفصل في أي قرار سياسي إيراني، فقد شدد سابقًا على عزم بلاده العودة الى الاتفاق النووي مع الأطراف الستة الدولية فقط متى ما رفعت الولايات المتحدة العقوبات المفروضة على طهران. ويأتي هذا التراشق في ظل إقرار إيران رفع معدل تخصيبها لليورانيوم إلى نسبة 20%.
وعلى إثر إقرار البرلمان الإيراني لقانون كان من المزمع أن يوقف كليًّا عمليات التفتيش المسماة «الإجراءات الطوعية» في اليوم الثالث والعشرين من فبراير الجاري، أبرم مدير وكالة الطاقة الذرية الدولية، رافائيل غروسي، اتفاقًا مؤقتًا مع إيران الأحد الماضي، يقضي بإبقاء الوكالة على قدر ضروري من مراقبة الأنشطة النووية الإيرانية لمدة ثلاثة أشهر قادمة.
وبرغم تصريح مستشار بايدن للأمن القومي، جاك سليفان، بوجود مباحثات تبادل أو إطلاق سراح سجناء مع إيران، إلا أن وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، عاد وأكد على أن مضي الولايات المتحدة قدمًا في مسار الدبلوماسية لإحياء الاتفاق مشروط بامتثال إيران الكامل بتعهداتها النووية.
وذهب بلينكن لأبعد من ذلك ليؤكد للحلفاء خلال مؤتمر نزع السلاح يوم الاثنين الماضي، عزم بلاده العمل على إطالة وتشديد الاتفاق النووي، فضلاً عن معالجة سلوك إيران الإقليمي وتهديدها الباليستي.
وبعد يوم من إعلان الاتفاق المؤقت مع وكالة الطاقة الذرية، عاد المرشد الأعلى الإيراني وهدد أن حدود تخصيب اليورانيوم لن تقف عند نسبة 20%، بل ستتخطى هذا الحاجز لأي مستوى تحتاجه البلاد وصولاً ربما إلى 60%.
حيثيات القرار الإيراني
راهنت إيران على عامل الوقت، وكان ديدنها «الصبر الاستراتيجي» منذ انسحاب ترمب من الاتفاق النووي وإعادته فرض العقوبات. لكن منذ تنصيب بايدن رئيسًا، غدا موقفها الرسمي مبنيًّا على قدر من التحوط والريبة تجاه «المآرب والمصداقية» الأميركية.
فالقرارات الإيرانية بالضغط على القوى الدولية وحثها على اتخاذ الخطى الأولى لا ينم فقط عن توجس من الإطار المحدد للمفاوضات القادمة، بل عن محاولة حثيثة منها لرد الاعتبار مقابل ما تعرضت له من خسائر اقتصادية وعسكرية وسياسية وحتى قيادية.
إذ لا يمكن بأي حال إنكار الإنهاك الذي تعرض له الاقتصاد الإيراني جراء السياسات المتخذة من ترمب، فقد فعلت استراتيجية الضغوط القصوى فعلها بصورة غير مسبوقة أبدًا.
فاقتصاد إيران يواجه أزمات مختلفة تشتمل على تراجع سعر العملة الوطنية وتزايد الدين العام، وتفاقم المخاطر التضخمية، وتدهور الأحوال المعيشية. فضلًا عن تقليص العقوبات الأميركية لصادرات النفط الإيرانية بنسب مهولة، وانسحاب الاستثمارات الأجنبية، وتراجع الاحتياطي النقدي، وتزايد معدلات البطالة بشكل لافت.
في خضم كل هذه المعوقات نجد تفاخرًا إيرانيًّا بكون سياسات البلاد الخارجية لم تستند في فحواها على مآلات المعترك الأميركي للانتخابات الرئاسية. إلا أن واقع السياسات المتخذة من الدولة الإيرانية يمكن ترجمته في سياقين مهمين: كسب أوراق تفاوضية، وتحقيق انتصارات داخلية.
الملف النووي: السياقات الإيرانية
يشتمل السياق الأول على قرار إيران رفع معدل تخصيبها لليورانيوم حتى 20%. قرارٌ لم تتخذه إيران حتى غداة مقتل قائد فيلق القدس قاسم سليماني مخافة أن تجد نفسها في حرب شاملة ضد الولايات المتحدة.
لكنها في الوقت الراهن، مع ضمانة اتخاذ إدارة بايدن مسلك الدبلوماسية، ارتأت زيادة نسبة التخصيب لتكسب أوراق تساوم بها في أي مفاوضات قادمة. وينضوي تحت هذا السياق قرار البرلمان تعليق العمل بالبروتوكول الإضافي.
أما السياق الآخر فينطوي على حسابات سياسية داخلية مردها قرب الانتخابات الرئاسية المزمع إقامتها في يونيو 2021. إذ يمني الرئيس روحاني وحكومته النفس بإحياء الاتفاق النووي وإحداث انفراجة محسوبة في الأوضاع الداخلية قبل انقضاء ولايته الثانية مما قد يرفع أسهم التيارات الإصلاحية والمعتدلة في إيران.
لا سيما وأنَّ التيار المتشدد يحظى بأكثرية ساحقة في السلطة التشريعية ويرمي إلى بسط سيطرته أيضًا على السلطة التنفيذية، وقد بات قاب قوسين أو أدنى من تحقيق مرماه.
حيثيات القرار الأميركي
استنادًا إلى برنامجه الانتخابي، يرى الحزب الديمقراطي في اتفاق عام 2015 أداة كابحة للجموح النووي الإيراني ووسيلة ناجعة لحلحلة أحد أعقد المشكلات الدولية خلال العقدين الماضيين.
الاستقطاب السياسي بالداخل الأميركي له تأثير جم على صنع السياسات الخارجية. وضمن إدارة بايدن هنالك رؤىً متضاربة تتمظهر في تطمينات مرسلة لإيران ولو عن طريق الشركاء الأوربيين: كالاتفاق المبرم بين إيران ووكالة الطاقة الذرية، أو مباحثات تبادل السجناء، أو حتى لقاء غير رسمي يعقد بوساطة أوربية.
على كل حال فالتنازل الأميركي مريب لا سيما بوجود امتيازات تفاوضية بالإمكان الضغط بها على إيران للتوصل إلى تسويات مرضية. غير أن التعليل الأميركي داخل إدارة بايدن يختلف حسب توجهات مستشاري الرئيس.
فهنالك أصوات تنصح بالعودة الى الاتفاق الأصلي من ثم محاولة البناء عليه ليتضمن ملفات أخرى. وهنالك من يطالب بعدم إضاعة الامتيازات دون توسيع نطاق الاتفاق. وهنالك من يدفع باتجاه العودة دون شروط.
مع تشديد بلينكن على معالجة ملفات الاستقرار الإقليمي والبرنامج الباليستي الإيراني، وتشديد الإدارة عمومًا على الحفاظ على الاتفاق النووي وتفعيل المسار الدبلوماسي، يتضح اهتمام الإدارة بعدد واسع من الأهداف والمصالح الاستراتيجية:
أولًا تحقيق المكاسب الاقتصادية المحصلة تبعًا لتوقيع الاتفاق عام 2015. ولعب أدوار أساسية على الساحة العالمية ومواجهة المد الصيني والروسي. بالإضافة إلى مشاركة الحلفاء الأوربيين مطامعهم التجارية في الأسواق الإيرانية ومخاوفهم من الصواريخ الباليستية الإيرانية.
أخيرًا، تطمين الحلفاء الإقليميين بضمان عدم تطوير إيران قنبلة نووية. وانتهاج الأسلوب الديمقراطي الأميركي المتعاهد عليه فترة إدارة الرئيس أوباما والرامي إلى التعاطي بدبلوماسية مع النظام الإيراني أملًا في حدوث التغيير المنشود داخليًّا عبر تنامي نفوذ القوى الإصلاحية المتصالحة مع الغرب.
الملف النووي: الموقف الروسي الصيني
أبدت روسيا والصين مواقفهما الرسمية من مسألة إحياء الاتفاق النووي. وشدد كلا البلدين على أن مهمة اتخاذ الخطوة الأولى في سبيل العودة إلى الالتزام ببنود الاتفاق تقع على عاتق الولايات المتحدة الأميركية دون شروط مسبقة.
ولا تخفى على المتابع تجاذبات الصراع بين القوى العالمية الثلاث، ومسألة استخدام الصين وروسيا القضية الإيرانية كورقة ضغط على النظير الأميركي.
واقعيًّا، تهتم روسيا بتحييد إيران عن تطوير قنبلة نووية، بيد أنها لا تكترث بعودة الولايات المتحدة للاتفاق. وعلى النقيض تأخذ الولايات المتحدة بعين الاعتبار في حساباتها فاعلية وجدوى تموضعها كطرف رئيس في الاتفاق ولذا لن تتقوقع على الهامش حسب ما تفضل روسيا.
تجاريًّا لم يكن الاتفاق مربحًا لروسيا، فقد شهدت السنوات الثلاث الأولى عقب توقيعه تنامي التبادل التجاري الأوربي-الإيراني. في الوقت الذي شكّل فيه حظر بيع الأسلحة التقليدية على إيران لمدة خمس سنوات خيبة أمل كبرى للكرملين، قبل أن يُرفع الحظر في أكتوبر الماضي.
وبخلاف سوق الأسلحة، تدرك روسيا حجم المنافسة التي تتكبدها ضد إيران بالذات في تصدير الغاز الطبيعي على الأسواق الأوربية، مع توقيع إيران لاتفاقية خط «أنابيب الصداقة» المفترض مروره عبر العراق فسوريا وصولًا لأوربا، وبالتالي فبقاء العقوبات الأميركية يفضي إلى تحقيق مكاسب اقتصادية روسية.
وتعد الصين المستورد الأول للنفط الإيراني، ولها مشاريعها الاستثمارية في إيران. بل إن التكهنات المتزايدة إزاء توقيع إيران لاتفاقية طويلة الأمد مع الصين تلعب دورًا في تسريع وتيرة الرغبة الغربية -الأميركية الأوربية- لاحتواء إيران والحيلولة دون ارتمائها في أحضان التنين الصيني. وربما كانت فكرة الاتفاقية مجرد استفزاز ومناورة إعلامية أرادت بها إيران المساومة على مخاوف الغرب حيال الأسواق الاستثمارية في إيران.
وعلى أية حال، تحرص الصين على تجنب الوقوع في مغبة العقوبات الأميركية، وتتطلع إلى زوالها حتى تجمع بين الحسنين: التعامل مع السوق الأميركي، والاستزادة بما يمكن تحصيله من إيران سواءً من منتجات الطاقة أو استغلال فرص الاستثمار ومبيعات التسليح.
الملف النووي: موقف دول الترويكا
منذ انسحاب إدارة الرئيس ترمب من الاتفاق منتصف 2018، لم تكف دول الترويكا الأوربية (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا) عن السعي وراء الحفاظ على الاتفاق النووي. وما انفكت تحاول في الوقت ذاته كبح جموح إيران النووي عبر استخدامها سياسة العصا والجزرة مع حكومتها.
غير أن تحقق الرغبة الأميركية لإحياء الاتفاق تزامنت مع ظهور المخاوف الحقيقية التي تكتنف الرؤية الأوربية، وعلى رأسها البرنامج الصاروخي الباليستي الإيراني. إذ عبَّر وزير خارجية ألمانيا، هايكو ماس، نهاية العام الماضي عن حاجة الدول الأطراف في الاتفاق إلى توسيع نطاق المفاوضات، ليشمل برنامج إيران الصاروخي وتدخلاتها الإقليمية.
وقد صرح الرئيس الفرنسي مؤخرًا بأن أخطاء مفاوضات 2015 لا يمكن أن تعاد وأن الشركاء الإقليميين مثل السعودية لا بد أن يكونوا طرفًا في المباحثات القادمة.
كانت الإدارة الأميركية وضعت أعلى سلم أولوياتها ترميم العلاقات مع الحلفاء الأطلسيين قبل الخوض في أية نقاشات ذات صلة بالملف النووي. ولا شك أنها تستفيد من بعض قرارات إدارة ترمب ضد حلفاء الناتو ودفعهم للمساهمة في تحمل تكاليف الحلف.
وفي سياق موازٍ يعي بايدن وفريقه أهمية توحيد الجبهة مع الأوربيين كخطوة بدء، من ثم المُضي إلى تناول المخاطر التي تهدد مصالح الفريقين، وعلى رأسها التمدد الصيني والخطر الروسي.
مواقف الدول الإقليمية
لطالما أبدت دول الخليج العربية استياءها من الاتفاق النووي لعام 2015، لما يعتريه من مثالب ثلاث جسيمة. الأولى عدم إيفائه بوعد تحجيم المخاطر النووية الإيرانية، لا سيما وأنَّ التسريبات تثبت ضلوع إيران بعمليات تخصيب اليورانيوم داخل منشآت مشبوهة وغير معلن عنها ضمن الاتفاق.
يضاف إلى ذلك استبعاد عنصرين اثنين يهددان الاستقرار الإقليمي من طاولة المباحثات: برنامج إيران للصواريخ الباليستية والتدخلات التخريبية التي تضطلع بها القوات الإيرانية في شؤون بلدان المنطقة.
تفعّل السعودية بالتحديد مساراتها الدبلوماسية لضمان إشراكها والدول الخليجية في المفاوضات القادمة، وكذلك حرصًا منها على حث الأطراف الدولية للتعامل بجدية مع المهددات التي تفرضها إيران في الإقليم.
من جهة موازية، لا شك أن سحب إدارة بايدن لميليشيا الحوثي من قائمة الإرهاب الأميركية يشكل قصورًا في مدى التعاون من الحليف الأميركي ومراعاة ما يقوض أمن السعودية ومحيطها. بيد أن الإدارة الأميركية أكدت أولوية أمن السعودية لديها واستعدادها لتقديم الدعم الاستراتيجي.
وربما تحاول إدارة بايدن الضغط على السعودية في ملف اليمن، في الوقت الذي تلبي فيه رغبة الحليف السعودي حلحلة الأزمة الإيرانية وفق تسوية مرضية لجميع الحلفاء في الإقليم.
أعلنت إسرائيل -آخر وأهم الحلفاء الأميركيين في المنطقة- على لسان سفيرها للولايات المتحدة، جيلاد إردان، من أن البلاد لا تعتزم أن تكون جزءًا من استراتيجية إدارة بايدن إذا ما قررت الأخيرة العودة إلى الاتفاق. ويهدد رئيس الوزراء الإسرائيلي باتخاذ عمليات عسكرية أحادية ضد البرنامج النووي الإيراني، متى ما انسدت السبل أمام الجهود الدبلوماسية.
من وجهة النظر الإسرائيلية، ترتكب الإدارة الأميركية الجديدة بنكوصها عن قرارات ترمب حماقتين عملياتية واستراتيجية. إذ ستفقد بهذا كل الامتيازات القادرة على تغيير النهج والسلوك الإيراني. كما أنها تفتح المجال لانتشار الأسلحة النووية دون تحييد للمخاطر العسكرية الناجمة.
مسارات التعاطي الأميركي مع إيران ومستقبل الاتفاق النووي
يكتظ الداخل الأميركي بالمسائل التي لن يسعف الوقت بايدن لحلها جميعًا. فهناك المعضلة الصحية التي خلفتها جائحة كورونا، وهنالك الانقسام العرقي والمجتمعي الذي يتأجج في العام الواحد أكثر من مرة، وغيرها من المسائل التي تتمظهر كقضايا وجودية لا يظن المواطن الأميركي بأن القفز عليها لمعالجة المسائل الدولية أمر صائب.
لكن بكل حال، تتحاور وزارة الخارجية الأميركية على قدم وساق مع حلفائها ونظرائها كي يتسنى لها وضع خطة عملية يمكن اتباعها، لا سيما فيما يخص الملف النووي الإيراني.
ووفق ما نملك من معطيات، نلخص الاحتمالات الممكنة في خمسة سيناريوهات للتعاطي الأميركي مع إيران ومستقبل الاتفاق النووي. ومثول هذه السيناريوهات واردٌ، وإن كان بعضها مرجحًا بنسب متفاوتة، نبدأها من الأقل ترجيحًا فالذي يليه.
مسار انهيار الاتفاق النووي وظهور الحاجة للخيارات العسكرية
ينطلق من تعنُّت الجانبين الإيراني والأميركي-الأوربي عن العودة إلى الاتفاق إلا بتحقيق مطالب متناقضة. يقوم هذا التنبؤ على أن الحليفين الأطلسيّين يسعيان لضم ملفي التدخلات الإيرانية الإقليمية والصواريخ الباليستية ضمن الاتفاق. مما ينجم عنه رفض إيراني وتزايد في معدلات تخصيبها لليورانيوم، وصولًا إلى مرحلة التنابذ والعداء، ومن ثمّ النظر في خيار الضربات العسكرية.
ويعزز لمسارٍ كهذا ضغوط الحلفاء الإقليميين، لاسيما إسرائيل وطرحها للخيار العسكري في حال تخاذلت الإدارة الأميركية، وأبدت ميلًا للعودة إلى الاتفاق النووي برفع العقوبات المفروضة. غير أن تحقق هذا السيناريو لن يكون بأي حال على المدى القريب أو المتوسط، ولو حدث فسيكون بعد استنفاد كل السبل السلمية، خصوصًا مع تبدي الرغبة الأميركية العارمة في تفعيل المسار الدبلوماسي.
مسار الامتثال مقابل الامتثال
يتنبأ بعودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي دون شروط مسبقة. ومفاد هذا السيناريو عودة الجانب الإيراني إلى التعهدات النووية المنصوص عليها في الاتفاق، مقابل عودة وامتثال الجانب الأميركي بالتزاماته في ضوء الاتفاق ذاته قبل انسحاب ترمب منه.
هنالك احتمالات معززة لهذا المسار، منها الرغبة العارمة لدى الجانب الأميركي في تحقيق تفاهمات مناقضة لما كان عليه الحال وقت إدارة الرئيس ترمب. لا سيما مع احتمالية سيطرة قوى متشددة على الحكومة الإيرانية ترفض ظاهريًّا المفاوضات مع الغرب.
من شأن هذا المسار التسريع في عملية الوصول إلى تفاهمات مبدئية، خصوصًا وأن التيار الإصلاحي ممثلًا في الرئيس روحاني ما يزال في سدة الحكم. ولا شك أن هذا السيناريو أكثر السيناريوهات تحقيقًا للمصالح والمطامع الإيرانية كونه لا يتطرق إلى ملفي زعزعة الأمن الإقليمي والصواريخ الباليستية.
مسار الرضوخ الإيراني بُغية الخلاص من وقع العقوبات المفروضة
يعتقد برضوخ الجانب الإيراني للمطالب الدولية بتضمين ملفات أخرى مقوضة للأمن والاستقرار الإقليميين. والتوصل إلى تسويات تشمل عزوف إيران عن التدخل في شؤون الدول المجاورة، بما في ذلك الكف عن دعم الميليشيات المسلحة والجماعات تحت الحكومية، وقبولها تقييد البرنامج الصاروخي الباليستي مقابل رفع العقوبات الأميركية بالكامل.
لا يتحقق مثل هذا السيناريو إلا باستغلال الإدارة الأميركية لأوراق العقوبات المفروضة من إدارة ترمب كأدوات ضغط تستمر لزمن طويل. فضلًا عن ضرورة تحقق الإجماع من الأطراف الدولية المتفاوضة مع إيران بما في ذلك روسيا والصين رغم شدة التعقيد المصاحب لمسألة الإجماع في ظل المناكفات الراهنة بين هذه القوى والولايات المتحدة. ويعد هذا السيناريو الأكثر تحقيقًا لمصالح الدول الإقليمية والولايات المتحدة وأوربا.
مسار الإبقاء على العقوبات مع تقديم مساعدات صحية ومالية إلى إيران
أما هنا فيعتقد بتشبث الإدارة الأميركية بالإرث والامتيازات التفاوضية التي خلفها الرئيس ترمب مما يفضي إلى الإبقاء على العقوبات المفروضة أملاً في إرغام إيران على إشراك ملفات متفرقة سواءً نووية من مثل (أحكام الغروب التي تنقضي قريبًا)، ومسائل تحجيم التهديدات التي يخلقها البرنامج الصاروخي الإيراني، وصولًا إلى قطع سبل التدخلات الإيرانية الإقليمية أو تجيير مخاطرها.
تشتمل المعونات على المساعدات الصحية لا سيما لقاحات الجائحة العالمية. وكذلك المساعدات المالية بإلغاء التجميد والرفض الذي أقامه الرئيس ترمب ضد طلب إيران الحصول على قروض نقدية من صندوق النقد الدولي، أو تقديم قروض مالية عبر قنوات مالية عالمية موثوقة. ويرجح مثول هذا السيناريو على المدى القريب.
مسار الرفع الجزئي للعقوبات مقابل التنازل الإيراني بُغية التباحث حول ملفات أخرى
يجادل هذا المسار بعودة الأطراف المعنية إلى الاتفاق تحت تسوية الرفع الجزئي للعقوبات، مقابل عزمٍ إيرانيٍّ بالتفاوض مع الأطراف الدولية وإيجاد تسويات شاملة للمهددات النووية والباليستية الإيرانية. فضلًا عن امتناع إيران عن إمداد الميليشيات المتطرفة والجماعات الحكومية بالعتاد والمال والدعم السياسي.
ستحقق أطراف عدة مكاسب سياسية واقتصادية حيوية منها انتشال الاقتصاد الإيراني من مغبة التدهور المتزايد وإتاحة المجال أمام بعض الشركات الأوربية والأميركية بالعودة إلى تنفيذ عقودها المبرمة مع إيران. بينما تستمر المفاوضات حيال الملفات الشائكة بين الطرفين مثل البرنامج الصاروخي الباليستي.
ويرجح مثول هذا السيناريو على المدى القريب والمتوسط، رغم أنه لا يفي بكل الوعود الأميركية تجاه حلفائها.
إجمالاً تسعى الولايات المتحدة إلى إحياء المسار الدبلوماسي مع إيران، ولديها خيارات عدة في ظل امتلاكها امتيازات تفاوضية صارمة أهمها العقوبات المنهكة للاقتصاد الإيراني. بالمقابل تراجعت إيران عن تعهدات نووية، وعلقت التزامها ببنود البروتوكول الإضافي بغية كسب أوراق تساوم بها على طاولة المفاوضات.