بعد الاتفاق الإبراهيمي، هل ستعود الجالية اليهودية إلى السودان؟
تنضم السودان للاتفاق الإبراهيمي، وتثار على الهامش أسئلة حول الوجود اليهودي في السودان، وكيف سيؤثر الاتفاق على الجالية اليهودية في السودان؟
في نهايات شهر أكتوبر الماضي، أعلنت الولايات المتحدة الأميركية موافقة السودان على الانضمام لما سمي بالاتفاقيات الإبراهيمية. لتكون بذلك ثالث دولة عربية تطبّع علاقاتها مع إسرائيل هذا العام. مما يرفع عدد الدول العربية المُطبعة إلى خمس دول، مع توقع ازدياد هذا العدد.
جاءت هذه الخطوة من الحكومة الانتقالية في السودان، بعد لقاءٍ جمع رئيس مجلس السيادة الانتقالي، الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في أوغندا في فبراير من هذا العام.
كما دعا وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، نصر الدين مفرح، في لقاء صحفي له في مطلع نوفمبر، أبناء الجالية اليهودية السودانية إلى العودة إلى السودان، بعد أن غادروها نتيجة ضغوطات مورست عليهم أثناء فترة حكم جعفر النميري. فمن هم اليهود السودانيون؟ من أين أتوا؟ ومتى هاجروا؟ وهل بقي منهم أحد؟
الجالية اليهودية في أم درمان
اختلفت الروايات حول بداية وجود اليهود في السودان قبل الثورة المهدية في نهايات القرن التاسع عشر. ودوّن المبشر النمساوي جوزف أورفالدور الذي زار أم درمان، المدينة التي ارتبط اسمها باسم الجالية اليهودية السودانية بعد أن كانت عاصمة محمد أحمد المهدي، قائد الثورة المهدية ضد الحكم العثماني. وذكر أورفالدور تواجد عددٍ من التجار اليهود هناك.
وفي كتابه المعنون «عشر سنوات في الأسر في معسكر المهدي 1882-1892»، يقول أورفالدور بأن الجالية اليهودية، كغيرها من الجاليات هناك، سكنت في أحياء خاصة بها؛ وأن زواج أبنائها اقتصر على دائرتهم الاجتماعية. كما أن جميع من في المدينة يتحدث العربية بلهجات متعددة.
لكن الباحثة ديزي عبودي، في مقال لها في العدد الأخير من مجلة جمعية الدراسات السودانية البريطانية، نبهت إلى أن تمييز أورفالدور لمجموعة إثنية عن باقي الجاليات القاطنة في المدينة، لا يعني بالضرورة أنها كانت جالية ذات كثافة عددية. فبعد سقوط المهدي ودخول القوات البريطانية المدينة عام 1898، قُدّر عدد اليهود بستٍّ وثلاثين فردًا فقط. وذلك بعد أن أُجبر جميع أفراد هذه الجالية على اعتناق الإسلام خلال فترة الحكم المهدي، ما أكسبهم لقب «يهود المَسَالمَة».
ويقدر الاتحاد الأميركي السفاردي عدد الأسر اليهودية في ذلك الوقت بثمان عائلات. فيما عادت ستٌّ منها للدين اليهودي، مكونة بذلك بداية المجتمع اليهودي الحديث في السودان، والذي أرسى دعائمه أحد أبناء هذه العائلات (Moshe David Passioni) الذي أسماه محمد المهدي موسى داود بسيوني. حيث أسس كنيسًا في منزله، واشترى قطعة أرض فتحها كمقبرة لأبناء جاليته. كما دعا أولَ حاخام مقيم مع هذه الجالية، المغربي سليمان مالكا، الذي باشر عمله تحت سلطة محكمة القانون اليهودي في مصر.
لم يتوقع مالكا أنه سيمضي حياته في هذا المنصب، حيث جاء إلى السودان تاركًا عائلته الصغيرة في طبريا، حتى انتهى بهم المطاف جميعًا في السودان.
نشأة المجتمع اليهودي السوداني
ومن أولى المهام التي عُني الحاخام الجديد بها، إرجاع من اختار من يهود المسالمة إلى دينهم. كما وفر نسخًا من التوراة في الكنيس الذي نقله إلى منزله. واستطاع لاحقًا الولوج إلى عالم التجارة من خلال سوق اللحوم، موفرًا لأبناء الجالية لحومًا مطابقة للشريعة اليهودية.
اهتم الحاخام مالكا بتوفير كل الخدمات الدينية لأبناء الجالية. ومن القصص التي يستذكرها هؤلاء الأبناء في المهجر، ختان المواليد الذكور الذي انشغل به مطوّلًا. إذ لم يسبق له أن حصل على التدريب المناسب لمثل هذا العمل. لكن زيارة النبي إيليا له في منامه، على حد قوله، أرشدته لإجراءات هذه العملية الطبية، وكانت كفيلة بأن تمنحه الشرعية اللازمة لإنجاز هذه المهمة المعقدة.
ومع بدايات القرن العشرين واستقرار الأوضاع السياسية في البلد، تنامى هذا المجتمع الصغير تدريجيًا، وتقاطر الكثير من اليهود من عدة بلدان عربية إلى السودان. كما استقر بعض اليهود الأوربيون، حتى وصل عدد الجالية اليهودية ألف فرد خلال خمسين عامًا.
لكن الاستقرار السياسي الذي أنعش الاقتصاد هناك لم يكن السبب الوحيد في هذا الحضور اليهودي المتزايد، إذ سهّل افتتاح سكة قطار من القاهرة وحتى الخرطوم هجرة الكثير من اليهود هناك.
ومع انتعاش الجالية الاقتصادي جراء تمركز الكثير منهم في التجارة، وفدت أفواج أخرى من يهود مصر ليشغلو مناصب في الإدارة البريطانية هناك. كما عملوا في القطاع المصرفي والمؤسسات التجارية المصرية والأجنبية، بالإضافة إلى شغل العديد منهم مناصب عليا في مجالات حكومية كالصحة والقضاء. وبسبب هذا التوسع في مجالات العمل، انتقل الكثير منهم للعيش في الخرطوم. كما سكنت أعداد قليلة في بورتسودان وود مدني.
المجتمع اليهودي السوداني قبل الهجرة
كان اندماج المجتمع اليهودي في المجتمع السوداني الأكبر واضحًا في تلك الفترة. فيقول الصيدلاني منصور إسحق إسرائيل، أحد أبناء أسر يهود المسالمة التي بقيت على إسلامها، في مقابلة له، بأن «اليهود عاشوا عيشة طبيعية وسهلة جدًا مع الآخرين» وجمعتهم صداقة مقربة مع جيرانهم المسلمين وغيرهم من الجاليات التي تواجدت وقتها في السودان.
وبناءً على المقابلات العديدة التي أجرتها مع أبناء الجالية في المهجر، تخبر ديزي عبودي «ثمانية» بأنهم كانوا يتحدثون العربية السودانية العامية، وخصوصًا يهود أم درمان الذين صار مستواهم المادي مع مرور الوقت أسوأ من يهود الخرطوم. كما تذكر عبودي في مقالها العديد من الإجابات التي تلقتها من أبناء الجالية حول سؤالها إياهم عمن كانوا يقضون أوقاتهم معهم. فتعددت الإجابات بين السودانيين والجاليات الأخرى، إلا أن الكثير منهم ذكر عدم مخالطته للبريطانيين، حيث وصفهم البعض بالغرور.
الحياة الاجتماعية للجالية اليهودية
من الثابت أن الحياة الاجتماعية لليهود في السودان كانت حافلة بالعديد من المناسبات التي كان الكثير منها يقام في المركز الترفيهي لليهود في الخرطوم باستمرار. كما يكشف لنا سجل الزواج الذي يحتفظ بالاتفاقيات التي تبرمها الأسر فيما بينها قبل تزويج أبنائهم وعقود الزواج بعد إتمامها، أن الزيجات منذ العهد المهدي وحتى منتصف القرن العشرين عُقدت بين أفراد الجالية نفسها.
كما تُفصل هذه المستندات في المطلوبات المادية من الخاطب وما يتعهد والدا العروس بتوفيره حال إتمام الزواج. وفي ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي مرت بها مصر في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، كانت تلك المسؤوليات المادية الملقاة على عاتق الخاطب سببًا في اختيار الكثير منهم تأخير الزواج.
أما عن التعليم بين أبناء الجالية، فقد فضّل اليهود والمسلمون على السواء المؤسسات التعليمية الاستعمارية التي تديرها أو تسمح بعملها الإدارة البريطانية هناك. ومن بين هذه المؤسسات مدرسة الوحدة الثانوية للفتيات التي أسستها جمعية كنسية تبشيرية بريطانية، إلا أن مناهجها كانت علمانية بالمجمل. كما تذكر المصادر مدرستين للراهبات في السودان إحداها داخلية، درست في كلتيهما فتيات يهوديات.
أما معظم الأولاد فقد كانوا يدرسون في «معهد كمبوني» (Comboni College) الذي سيّره قساوسة إيطاليون. كما ذكر الصيدلاني إسرائيل في مقابلته أسماء عدة طلبة يهود ارتادوا عدة كليات في جامعة الخرطوم.
توالي الهجرات
لم يكن المجتمع السوداني بجميع أطيافه بمعزل عما يحصل في المنطقة. إذ يذكر متحف الشعب اليهودي بجامعة تل أبيب أن أولى علامات ظهور الصهيونية في المجتمع اليهودي السوداني كانت عام 1934، حين زار الخرطوم الكاتب البولندي ناحوم سوكولوف، أحد زعماء الحركة الصهيونية في تلك الفترة. وفي العام نفسه، تأسس فرع لـ«منظمة بناي بريث» (BnaiBrith) -أو أبناء العهد- التي تذكر في موقعها اليوم دعم وحماية إسرائيل كأحد أهدافها المعلنة.
وبعد إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948، وجد الكثير من أفراد الطبقة الدنيا من الجالية اليهودية فرصة لتحسين معيشتهم هناك، وساعدهم في ذلك ميسورو الحال الذين دفعوا تذاكرهم.
وخلال عدة سنوات، أخذت أشكال التمييز ضد اليهود هناك بالظهور، خصوصًا أن السودان كانت إحدى الدول العربية التي أرسلت قواتها لمحاربة إسرائيل في حرب النكبة، وبعدها في حرب العدوان الثلاثي عام 1956 وحرب 1967 التي تلاها مؤتمر اللاءات الثلاث في الخرطوم.
وفي ذات العام الذي غزت فيه إسرائيل وبريطانيا وفرنسا مصر، أقيمت مسابقة ملكة جمال الخرطوم التي فازت بها فتاة يهودية سُحب منها اللقب، قبل أن تتمكن من المنافسة على لقب مصر بعد اكتشاف ديانتها. وخلال المظاهرات التي لفت مدن السودان في تلك السنوات، تعرضت بيوت اليهود للتخريب، كما اعتقل شبان يهود بتهم متعددة قبل إطلاق سراحهم. فيما نشرت الصحف أسماء بارزة في المجتمع اليهودي، متهمة إياهم بالتجسس لصالح إسرائيل.
هل سيعود يهود السودان إلى أراضيهم؟
وعلى الرغم من أن هذه الاتفاقية تنتظر موافقة ومصادقة أول حكومة منتخبة في السودان -والتي يتضح اليوم رفض الشارع وأحزاب سياسية كبرى لها– يبدو أن لا علاقة بين دعوة وزير الأوقاف وإرساء العلاقة بين إسرائيل والسودان.
لكن التطورات الجديدة قد تشجع الجالية اليهودية وأبناءها على العودة فعلًا إلى السودان. حيث يتمنى السبعيني منصور إسحق إسرائيل «أن يأتي اليوم الذي يتمكن مع بقية أقاربه من اليهود الذين انقطعت اتصالاته بهم […] من الاجتماع مجددًا في السودان». لكن الشيخ أزهرى النجار يرى أنها دعوة متسرعة. فحسب ما يرى، لم تكتمل أركان الدولة المدنية أساساً حتى الآن.
أما ليلي دويك، إحدى أبناء الجالية اليهودية السودانية في لندن، والتي هجرتها السودان عام 1964، فتقول بأنها لا تعلم إن كان أيٌّ من أبناء جاليتها سيرجع للسودان للاستقرار فيها، وهي نفسها تشتهي زيارة السودان، لا العيش هناك.
وهذا ما توافق عليه ديزي عبودي في إجابتها لثمانية. إذ لا تظن -هي التي ينتمي أجدادها إلى الجالية اليهودية السودانية- أن من ولد وترعرع في السودان عازمٌ اليوم على العودة لمسقط رأسه. إذ تقدم عمر من تبقى منهم اليوم. أما عن جيلها، فتقول بأن حياتنا في الدول التي ولدنا وعشنا فيها حتى قبل إطلاق هذه الدعوة حياةٌ مستقرة إلى حد كبير.
لكنها تكرر رغبة دويك في زيارة السودان بنية السياحة، لرؤية ما تبقى من آثار الجالية اليهودية هناك. وهو بالفعل ما تسنى لها فعله في يناير الماضي.