هل ندعو لزمن الطيبين، أم للتخلص من تشوهات الحياة الحديثة؟

هذه الحياة الحديثة تُشعر الإنسان كما لو أن حياته كانت على قل الاستعداد لحدوث الأشياء كما يرغب.

هذه الحياة الحديثة تُشعر الإنسان كما لو أن حياته كانت -ولا زالت- على هذا التهيؤ أو قل الاستعداد أو القابلية لحدوث الأشياء كما يرغب. وبذلك فرضت علينا شكلًا استهلاكيًا من أشكال الحياة، لا يعكس جوهر الحياة أو حقيقتها.  ووهِمَ الإنسان أنه قادر على أن يغلب الطبيعة، أو أن يطوّعها لرغباته حيثما يشاء وفي أي وقت شاء.

أصبح هذا الوهم ممكنًا حين تحولت الحياة في ذهن الإنسان المعاصر إلى مادة. ومن هنا أخضع الحياة لقوانين المادة وجعلها قابلة للاستهلاك والاستعمال، ثم التخلص منها إذا ما فقدتْ قيمتها الاستهلاكية. هذا الاستهلاك الجشع لا يكشف عن جشع الإنسان الحديث وحسب، بل يكشف عما هو أعمق من ذلك. وهو شعور الإنسان أنه قادرٌ على تطويع الحياة من حوله كما يشاء. بل في إحساسه بالقدرة المتناهية بأن يستخرج من الطبيعة ما يشاء.

والمتأمل في حقيقة الحياة يجد أنها تتجلى بين شعورين: شعور الضعف وشعور القدرة، وأن الحياة كامنة بينهما. ليجد الإنسان نفسه في تفاوض دائم مع الحياة بين ما يرغب في تحقيقه وبين الممتنع على الفوز به. أن يعترف الإنسان أن الحياة لا يجري عليها قانون الأشياء أو التملّك. ويجب أن تُخدش نرجسيته بحقيقة أنه عاجز على تطويع الحياة كما يشاء.

إنسان هذا العصر

إنسان هذا العصر يتصرف كأنه إله هذه الحياة أو أنه مسيطر عليها لا متفاوضًا معها.

ولكي تتجلى الحياة كما هي من غير تشوهات، علينا أن نعيش ولو لأيام يسيرة حياة ما قبل المصانع، أو قُلْ حياة الأجداد. تلك الحياة الخالية من مفهوم التسليع والتي نشأت في عمق الطبيعة. قامت تلك الحياة على الجهد العضلي والمهارة النابعة من الخبرة والتفكير. ليست الحياة الحديثة التي اتخذت “الفعالية” أساسًا لها. أي أن الحياة انحسرت في ضرورة الإنتاج الفعّال وتركزت حياة الناس نحو ضرورة العيش في سياق الفعالية.

الحياة الأولى، أو قل القديمة، ليست حياة رجعية، وإنما أصلية وأصيلة؛ لأن الإنسان يكون فيها سيّد حياته وقائدها. هو الذي يُعد طعامه وشرابه من الطبيعة. وهو الذي يبني منزله ويؤوي أسرته. وينسج ثيابه. يأخذ منها كفايته ويحترم الكائنات من حوله.

أما الحياة الحديثة فقد دفعت الإنسان نحو إنتاج المعلومات، ثورة المعلومات استطاعت أن تُزيح العنصر البشري بالآلة. فبدلًا من أن يعمل ألف موظف لإنتاج مادة ما، يزيحهم جهاز صناعي واحد، يقوم بعملهم بشكل أكثر فعالية، وأقل كُلفة مادية. هذه الإزاحة البشرية وإحلال المادة تسبب في ولادة حياة المصانع. فلم تعد الحياة من أجل تحقيق الرغبات الأساسية للإنسان كالمأكل والمشرب والمأوى واللباس، وإنما من أجل الإنتاج المادي والثروة الاقتصادية وإشباع شعور النهم اللامتناهي.

وحينما أزاحت الآلة اليد البشرية، فهذا يشير إلى أن الثروة أيضا تُزيح من أزاحتهم الآلة وتُلقي بهم على قارعة المعاناة وبذلك تنحاز الثروة في أيدي الأقلية من البشر. بمعنى أن ثروة العالم لا تقسم على البشرية بميزان العدالة وإنما بميزان الإزاحة والإحلال. فالأقلية يزيحون الأكثرية كما أزاح جهاز واحد ألف يد عاملة.

الرياضة، الحركة، العيش

هذه الحياة الحديثة التي قامت على إنتاج المعلومات عطّلت السلوك البشري الطبيعي القائم على الحركة وضخمت من سلوك التفكير. إذ إن إنتاج المعرفة لا يتطلب الجهد العضلي.

ولذلك تجد أن الأغلبية من البشر يعانون من داء “اللا حركة”. بل وتُنفق أموال اقتصادية هائلة لعلاج هذا الداء في العالم والذي يُسمى اليوم بداء الجلوس. ذلك لأن أهم قيم الحياة الحديثة: تفضيل الراحة وتعزيز المُتعة.

انظر على سبيل المثال الهندسة المدنية المسؤولة عن تصميم المدن. لم تكترث هذه المعرفة بالتنظير حول أهمية حركة الإنسان في المدينة.

كل الذي نتج عن هذا التخصص الأكاديمي هو كيف يتم تسهيل حركة الأشياء وكيف يتم تفعيل إنتاجيتها بما يكفل تحقيق الثروة الاقتصادية. فنشأت الجسور، والطرق السريعة، وخطوط القطارات، ومسارات الباصات، من أجل حمل البشر “الجالسين” إلى أماكنهم.

اكتشف بعد ذلك الإنسان أن نسبة الأمراض قد ارتفعت مما تسبب في انخفاض معدلات الإنتاج، فكانت أهمية حث الإنسان على الحركة وتشجيعه على النشاط حاجة ماسة للاقتصاد العالمي.

الإنسان القديم

ولك أن تنظر إلى الفرق الشاسع بين الإنسان المعاصر والإنسان القديم الذي لا يستطيع أن يعيش من غير حركة أو جهد بدني. حاجته للحركة كحاجته للتنفس. ولذلك لم يكن لدى الإنسان القديم وعي بأهمية الرياضة. بل إن مفهوم الرياضة مفهوم حديث نشأ في عصر الحياة الحديثة المشوهة. إذ أن هذا المصطلح “الرياضة” ذو علاقة مباشرة مع المرض والضعف والخوف.

أي أن الإنسان مدفوع ومحفَّز نحو الرياضة من أجل الهروب من المرض وعدم الوقوع في مستنقع الضعف. بينما “الحركة” لدى الإنسان القديم مرتبطة بالحياة والحيوية والمشاركة. فما يسميه الإنسان الحديث “رياضة”، يسميه إنسان ما قبل حياة المصنع “عيشًا”.

إذ إن الحركة هي أساس الحياة. فعلى سبيل المثال، حينما كان يرغب الإنسان في الأكل، فهو بحاجة للحركة. أي أن يغادر منزله نحو الصيد لكي يفوز بوجبة شهية. وحينما ينتهي من وجبته فشعوره بالسعادة في إطعام أسرته لا يُضاهى.

ومن هنا لا يعرف الإنسان القديم الوحدة. ولكن الإنسان الحديث الذي يعاني من داء الجلوس اكتشف مؤخرًا أن خوفه من المرض لا يكفي ليدفعه نحو ممارسة الرياضة. وبعبارةٍ أخرى، فلم تعد الصحة الجسمانية كافية لإقناع الإنسان بأهمية الرياضة، فبحثَ عن مفهوم آخر أكثر إيجابية من المرض والصحة يبرر به أهمية الرياضة في غير سياق المرض أو الخوف من الضعف، فخرجت لنا الفكرة التي روجتها الحياة الحديثة وهي أن الرياضة سبب من أسباب السعادة.

 ونكتشف هنا رغبة الإنسان الحديث في فك العلاقة بين الرياضة الصحة وبدلًا من ذلك ربطها بالحياة والحيوية. فأتى بمحاولتين بائستين.

المحاولة الأولى

هي ربط الرياضة بالهرمونات التي تفرزها أجسادنا نتيجة للحركة ودلل على ذلك بالدراسات الحديثة. وقدم مفسرًا جديدًا لأهمية الرياضة بأن هذه الهرمونات مسؤولة عن شعور السعادة. ومن هنا تم تخفيض مفهوم الحياة إلى المكنزمات البيولوجية فسقط الإنسان في وحدته الكئيبة وشعر بحاجته أن يتحرك من أجل تفاعلات كيميائية داخل جسده تمنحه السعادة.

ولم تتحقق الحياة من خلال الرياضة. فحينما كانت الحركة للإنسان القديم أساس المشاركة بأن يأكلون ويلبسون مما يصيدون أو يسكنون ما يبنون، فإن الإنسان الحديث يمارس الحركة من أجل ارتفاع الاندروفين أو الإيريسين لكي يشعر بنشوة الحياة. هذا هو الفرق بين الحركة والرياضة.

الحركة تعني المشاركة والرياضة تعني الوحدة. ألا ترى تلك المباني الضخمة المليئة بالبشر الذين لا يتحدثون إلى بعضهم البعض إلا ما دعت الحاجة إلى ذلك، لتراهم قد أطبقوا على آذانهم أصفادًا إلكترونية (السماعات) ينصتون لموسيقاهم الصاخبة التي تدفعهم نحو الاستمرار. وعليك أن تنظر إلى تلك الأجهزة المخصصة للتمارين والتي تؤكد على أن يكون إنسان بمفرده على جهاز واحد وفقط يركض في مكانه وحيدًا ولا يسمع من حوله.

المحاولة الثانية

المحاولة الثانية التي قدمها الإنسان المعاصر كمفسر لأهمية الرياضة هو الربط بين الرياضة وما يسمى بالجنسانية. بمعنى، أن ممارس الرياضة يحول جسده إلى مادة يطوعها كيف يشاء لينتج جسدًا جذابًا للأنظار ويحفز الشهوات الجنسية.

فالذكور على سبيل المثال تجدهم في هذه الحياة الحديثة التي تُمجّد الراحة يبنون تلك العضلات، ليس لأن الحياة مليئة بالمشاق وتتطلب ذلك الجهد العضلي بل لأن الحياة الحديثة أصبحت مليئة بالمُتع الجنسية. فتلك الصورة الجسدية التي تحققها الرياضة تكفل له أن يفوز بأجود الملذات. أمّا الفتيات لا يمارسن الرياضة من أجل القوة وإنما من أجل الجمال. ذلك الجمال اللافت للأنظار أو قل الجذّاب.

ومن هنا تكون جاذبية الرجل في عضلته التي ترمز للقوة، وجاذبية الفتاة في الرشاقة التي ترمز للجمال. وبذلك حُفِّزَ الإنسان المعاصر غرائزيًا نحو ممارسة الرياضة لتصبح الرياضة في حقيقتها لا تعني من قريب أو من بعيد أي معنى من معاني الحركة.

تشوهات الحياة الحديثة

لست هنا أدعو للعودة للحياة القديمة بل للتخلص من تشوهات الحياة الحديثة.

وليس النظر بسلبية مُطلقة نحو الحياة القديمة سوى شكلٍ من أشكال تشوّه ذهن الإنسان المعاصر. ثم بالرغم من جمال بعض جوانب الحديثة إلا أن تشوّه الحياة فيها يتخلل كل جزء منها. حينما ترى هذه الإنجازات الطبية، والأكاديميات المرموقة، والصناعات المساعدة للإنسان لا تكاد تتقبلها إذا علمت أنها لم توجد إلا من أجل الاستثمار في وجعك ومرضك واستهلاك وقتك، من أجل أن تزيد من ضخامة ثروة المؤسسات.

سترى أن الإنسان ترس صغير في تلك المؤسسات ولو وُجد جهاز إلكتروني يقوم بعمله لتمت إزاحته من أجل الفعالية في الإنتاج والمحافظة على الثروات. وأن التعليم أُسس وبُني من أجل التنافس الاقتصادي في العالم وليس من أجل تعليمك الحكمة التي تعود عليك وعلى أسرتك بالنفع.

بل إن الإنسان الحديث لا أسرة له إلا عمله الذي يعمل فيه. ويقضي جلّ وقته خارج منزله يعمل، ثم يعود هو وأفراد أسرته ليخلدوا للنوم استعدادًا لليوم الجديد. وأصبح يوم الإنسان ليس له، وإنما للمؤسسات والمنظمات التي تديرها دول العالم.

ومن هنا كان الحنين لقيم الحياة القديمة أو لحياة خالية من التشوّهات.

استمع لحلقة ثمانية ¾:

الإنسانالتقنيةالذكاء الاصطناعيالصحةالمجتمعالمستقبل
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية