الهيمنة والتسويق في صيف أميركا

بعد رحلة عمل في أميركا، يكتب أحمد مشرف ملاحظاته إزاء الهيمنة الأميركية ورأسمالية قطاع المطاعم وضبط النفس والسمنة.

عندما ننظر إلى أي دولة، قد لا نجد توزيع السكان والثروة متعادلًا بين مدنها وولاياتها أو مناطقها الداخلية. وقد يكون بديهيًا أن نجد نُسخًا كثيرة في هذا العالم مشابهة لنموذج مدينة الرياض وجدة والدمام، مدنٌ رئيسة كُبرى تزدحم فيها الطموحات والعوائل والمتعلمون والنازحون إليها من مدنهم الصغيرة جنوبًا وشمالًا، بحثًا عن مستقبل مشرق يليق بطموحاتهم. 

أصبح هذا التباين طبيعيًا لنا نحن السعوديين تجاه مدننا. وهو طبيعي أيضًا في كثيرٍ من دول العالم مع بعض الفوارق. إلا أن الأمر مختلف قليلًا في دولة مثل الولايات المتحدة الأميركية. إذ تقع واشنطن في ولاية فيرجينيا، وهي ليست الولاية الأغنى، ولا تندرج ضمن أكبر الولايات الأميركية اقتصاديًا أو إنتاجيًا، ولا ضمن الولايات العشر الأولى، رغم الثقل السياسي الذي تحمله. 

فوجودها في الخريطة عاصمةً لأهم دول العالم لا يتعدى أن شخصًا ما اختارها لتكون العاصمة. بينما ولاية أخرى ككاليفورنيا مثلًا، يفوق ناتجها المحلي الإجمالي ناتج دول مجلس التعاون الخليجي مجتمعة. ولاية واحدة فقط من الخمسين، لم نذكر معها نيويورك وتكساس وفلوريدا وبنسلفانيا وغيرها التي تكاد تكون دولاً كبرى مستقلة داخل دولة. الدولة التي تُهيمن على العالم، ليس لديها من يهمن عليها داخليًا. القوى موزعة ومستقلة ومتباعدة.

العصريّة: أن تعيش مثل الأميركان

لا يعترف الأميركيون كثيرًا بالجانب العريق للثقافات والأعراق الأخرى. وأحد المؤشرات لهذا الأمر مثلًا تغييرهم وتأثيرهم الكامل على الأطباق التي وصلتهم من الخارج. ففي نيويورك وحدها، يفوق عدد مطاعم البيتزا ما هو موجود في روما. والمثير أن المطاعم في نيويورك اكتسبت شهرتها الواسعة وانتشارها في إيطاليا قبل أن تصبح الطبق الأول للإيطاليين أنفسهم.

تذكر الكاتبة جايلا توريم في تعليق صرحت به لأحد مؤرخي تاريخ البيتزا مارياني: «مثل الجينز الأزرق وموسيقى الروك آند رول، اختار باقي العالم -بما في ذلك الإيطاليون- البيتزا لمجرد أنها أميركية». 

وهنا نستطيع القول بأن الجانب التسويقي، الذي تحوّل فيما بعد إلى جانب ثقافي، يملك تأثيرًا لا يمكن الاستهانة به. فالوجبة الرئيسية في عيد الميلاد عند اليابانيين هي دجاج كنتاكي، واقتناع الشباب اليابانيين بتبني نمط حياة أقرب للأميركيين منه إلى ثقافة الساموراي ليس مدعاة للاستغراب؛ إذ أصبحت العصرية تعني أن تعيش مثلما اختار الأميركيون لأنفسهم.

لم يستطع الأميركيون الاستسلام لفكرة أن هذا المخبوز له أصول وطرق معروفة غير قابلة للتغيير بالنسبة للمهاجرين الإيطاليين الذين وصلوا مطلع القرن الماضي. ففي رحلة عمل قضيتها قبل عامين، قررت على هامشها البحث عن جانب آخر لمفهوم الإبداع. اقتنيت تذكرة الرحلة الميدانية الشهيرة «سكوت لجولات البيتزا» (Scott’s Pizza Tours) التي تجول في أشهر مطاعم البيتزا في المدينة، يقودها رجل يدعى «سكوت».

تتضمن الرحلة ستة محلات بيتزا موزعة في مانهاتن؛ تتنوع ما بين متاجر البيتزا النابولية التقليدية التي تتميز بعجينتها الرفيعة ورقع جبنة الموزاريلا الطازجة المطعّمة بأوراق الريحان، ومتاجر البيتزا الصقلية كالتي في شارع «برينس ستريت» (Prince Street)، ذلك الشارع الذي يتميّز ببيتزا ضخمة الحجم ومستطيلة الشكل.

وتحولت ثلاثة متاجر أخرى مع الوقت إلى متاجر بيتزا إيطالية-متأمركة. أما المحطة الأهم، فكانت مطعم «بيتزا لومباردي» (Lombardi’s Pizzeria)، الذي افتتح عام 1924 ولا يزال يستخدم الفرن نفسه، ويحارب لإبقاء موروثه الأصيل.

إهمال الموروث الثقافي  

في محاولة للحفاظ على هذا الموروث الثقافي ومنح بعض الامتياز والثقة للحريصين على ذلك، قادت غِيرة الإيطاليين على طبقهم -خصوصًا القادمين من نابولي- لتأسيس «منظمة بيتزا نابولي الأصيلة»، وهي منظمة تدرب كل من يرغب في الالتزام بتعاليم النابوليين في إعداد البيتزا. وتعطي شهادات معتمدة لكل مطعم يستعمل طُرقهم الأصيلة في ذلك.

ولكن سكوت أوضح بأن أهالي نيويورك لم يكترثوا لوجودهم. ولم تعط معظم المطاعم لهم بالًا، لإقناعهم أن كل شيء في هذا العالم قابل للتطوير والتعديل، بما في ذلك البيتزا. ويظل المطلب الأهم الحصول على بيتزا لذيذة أيًا كان مصدرها أو تاريخها أو ما عُدِّل فيها. 

يقود هذا الإهمال التام للجانب العريق إلى فهم سلوك الأميركيين -كأفراد وشركات وحتى على المستوى السياسي- بأن روح الابتكار والتسويق لا تخضع للماضي سوى في جوانب ضيقة؛ فالكلمة الأخيرة ترجح دومًا الأفضل في الحاضر، ليقنعوا العالم بعدها بسهولة. 

فالبطاطس المقلية (French Fries) أو «المقليات الفرنسية» -وهي الترجمة الحرفية للكلمة، ليس لها أي علاقة بالفرنسيين؛ إذ ابتكرها البلجيكيون. ولأنهم يتحدثون اللغة الفرنسية، سوّقها الأميركيون تاريخيًا على أنها «مقليات فرنسية». وكأن لسان حالهم قال «لا يهم، كلهم واحد، كلهم يتحدثون الفرنسية». لكن تدخّلات الأميركيين وتعديلاتهم التي تكاد تؤخذ كمسلّمات كونية لم تقتصر على قائمة الطعام، وامتدت لما هو أبعد من ذلك. 

انطلاق الرحلة

في يوليو الماضي، سافرتُ مع أسرتي إلى عددٍ من الولايات الأميركية.

كانت المحطة الأولى مدينة «سان أوغستين»، مدينة صغيرة وجميلة في أقصى شرق أميركا، وأول بقعة وضع الإسبانيون رحالهم فيها. ويبدو أن نظرة ساكنيها لماضي مدينتهم التي تقلّبت بين يدي أكثر من مُحتل صارت مثارًا للترفيه اليوم أكثر منه للحساسية. فتجد انتشار الكثير من الأعلام للدول التي احتلّتهم خلال القرون الماضية.

وارتبط عدد من متاحف القراصنة والمشعوذين ومتاحف وعروض ترفيهية ثقافية ارتباطًا تهكميًا بالمحتل: «ماما.. هذا الببغاء المفروض يكون مرعب مو مضحك صح؟» تعلّق إحدى بناتي على إحدى العروض التي حضرناها، والتي تحكي اكتشاف الأسبان للمدينة عام 1565.

ولأنها على الشرق، فقد كانت مرتعًا لكل دولة أخرى تأتي من أوربا بنية توسِّع أراضيها وممتلكاتها خارج الوطن. مثلها مثل المدينة الجنوبية الشهيرة «نيو أورلينز»، التي انتقلت مثل اليتيمة بين الفرنسيين ثم الإسبان والفرنسيين مرة أخرى. حتى أمر الرئيس آندرو جونسون بشرائها مع بقية أجزاء ولاية «لويزيانا» بمبلغ خمسة عشر مليون دولار من نابوليون بونابارت عام 1803.

حقوق الامتياز

نادرًا ما يمكن أن تتوه في سفرك بين الولايات. تعج الطرق السريعة ومدن الأطراف بالمطاعم والخدمات والمحطات وبعض المحلات التجارية التي تستغرب أحيانًا من وجودها في غاية التنظيم على جنبات الطريق. 

كان المحرك خلف بلوغ هذه النتيجة من التنظيم بسيطًا وغريبًا. فكثيرٌ من الأميركيين المتقاعدين لا يفضلون السكن في المدن الرئيسة، نتيجة غلاء المعيشة والازدحام؛ فيختارون اللجوء إلى أطراف المدن والأرياف. وتقودهم الحياة هناك بدايةً إلى الملل، ثم محاولة البحث عن عمل حر أو مهنة تُشغِل وقتهم.

ولأن معظم المتقاعدين -بطبيعة الحال- ليسوا تجّارًا أو رجال أعمال سابقين، فقد لا يملكون سوى شيءِ من رأس المال المُدّخر من وظيفتهم السابقة وراتب التقاعد، وبعض الوقت والجهد القابل للصرف، لتساهم هذه التركيبة في صنع «حقوق الامتياز» (Franchising).

وعلى الرغم من فقدان المتقاعد للمؤهلات المهنية اللازمة لإدارة أو ابتكار عمل خاص، تأتي إحدى مطاعم الوجبات السريعة، لتعرض عليه تقديم رأس ماله مع جهد قليل لإدارة المطعم؛ وبالمقابل إمداده بآلية العمل وقائمة الموردين والنصائح المستمرة وخبرات التعامل مع الزبائن.

كما يعرضون عليه تدريب ابنه أو موظفيه على العمل وتوفير ما يحتاجه لينجح المشروع. ليأخذوا حصة من الأرباح كقيمة لعلامتهم التجارية نهاية كل عام.

شجع نموذج العمل هذا آلاف المتقاعدين على استثمار وقت فراغهم لافتتاح العديد من المحلات بين المدن. فاستفادوا من نفورهم من العيش في مناطق متكتلة. وشاركوا أصحاب العلامات التجارية المخاطر. ليستفيد المستهلك في نهاية هذه القائمة من تجربة توفر الوجبات السريعة ومحلات ألعاب الأطفال والمحطات والاستراحات، وغيرها من الخدمات التي تكاد تنتشر على مد البصر أثناء التنقل بين مدينة ومدينة وولاية لأخرى.

لتعادل أهمية وجود المتقاعدين أهمية فئة الشباب. وتدلف كل فئات المجتمع التي تتنافس على تقديم خدمة من أجل الحصول على المال، عالمًا رأسماليًا بامتياز.

العلامة التجارية لنمو الهيمنة

لم تُثر هذه المرونة إعجاب المتقاعدين المحليين فحسب، بل من هم خارج الولايات المتحدة. وسرعان ما تلقفها الكثير من رجال الأعمال في جميع أنحاء العالم، الشغوفين بالتوسع والمتوجسين من المخاطر. ليصير الحصول على حق امتياز العلامة التجارية الطريق الأقصر للنمو والتوسع لأصحاب العلامة التجارية أنفسهم.

قد يبدو نموذج عمل حقوق الامتياز في ظاهره نموذج عملٍ رياديٍ، إلا أنه يمثل حجر الأساس الذي خلق الهيمنة الأميركية. وأصبح جزءًا لا يتجزأ من ثقافة العالم. فصار من الأسهل على رجل الأعمال السعودي استقدامَ علامة تجارية أميركية ناجحة مع ملف التدريب والتنفيذ، بدل أن يجرب فكرة طبق محلي قد تصيب أو تخيب.

كتلك المرة -قبل أكثر من عشر سنوات، وفي عز أوقات الصحوة و«مقاطعة المنتجات الأميركية»- التي تواجد فيها محل «ستاربكس» في إحدى فنادق المدينة المنورة، في دليلٍ واضح على مرونة وديناميكية النظام الأميركي.

ضبط النفس وهيمنة الاختيار 

من الجانب الآخر، يكمن التحدي الأكبر الذي يواجه العامة في الولايات المتحدة في الحرب اليومية بين «الخيارات المتاحة»، تلك الميزة واللعنة في الوقت نفسه. إذ قادت سرعة انتشار العلامات التجارية الخاصة بمطاعم الوجبات السريعة، والقدرة الهائلة لشركات من قبيل أمازون على تسويق المنتجات وعلى إيصالها للعميل في وقت قياسيٍ السلوك العام للتكاسل أكثر من دفع النفس بحثًا عن اختيارات أفضل.

في عام 1975، بلغت نسبة الأميركيين الذين يعانون من زيادة الوزن واحدًا من كل ثلاثين فردًا. وتضاعف هذا الرقم ثلاث مرات مع حلول عام 2016. وصار 39% من الشباب الذين بلغت أعمارهم ثمانية عشر عامًا فما فوق يعانون من زيادة الوزن، و13% منهم يعانون من السمنة المفرطة.

وبعيدًا عن كونه مجرد رقم نشرته منظمة الصحة العالمية، تتبدى التجليات أمام عينيك في كثير من الولايات. ففي أتلانتا، الولاية التي تتميز باخضرارها الكثيف وتشجيع جوها العام لممارسة الرياضة، لا يمكن لأمر الوزن ألا يلفتك في الشارع.

لا يلوم دكتور التغذية المعروف «مايكل قريقر» الأفراد على ذلك، بل يلوم النظام. فيستطرد «أتقول لي بأن كل قطاع من سكان الولايات المتحدة قد شهد نوعًا من التراجع في قوة الإرادة؟ كل فئة عمرية وعرقية بكل مواقفها وخبراتها المختلفة فقدت بالصدفة قدرتها الجماعية على ضبط النفس في الوقت نفسه؟»

من الأرخص والأسهل لك أن تختار مطعمًا متاحًا أمامك، بدل البحث عمّا يقدم خيارات صحية. ومن الأسهل والأرخص أن تتسوق وأنت في البيت وتشاهد برنامجك المفضل على نتفليكس، بدلًا من أن تدفع بنفسك إلى الحركة للتبضّع أو للذهاب صحبة الأصدقاء إلى السينما.

لعنة الاختيار

قد تبدو هذه التركيبة العجيبة في اختلاف الخدمات المقدمة بين قطبين في جميع القطاعات مثيرًة للمراقب. فهناك إما بيض رخيص أو عضوي مُكلف نسبيًا، وإما مطاعم وجبات سريعة في كل مكان أو مطاعم باهظة. فيميل السكان إلى الخيارات السريعة وغير المكلفة بسبب إتقان الخدمات. إلا أن نفس هذا الإتقان أصبح لعنة تهدد الصحة العامة كل يوم.

يجد البعض أن النظام القاسي تجاه التدخين، الذي يمنع المدخن من تدخين سيجارته داخليًا وخارجيًا في الكثير من الأماكن، هو النظام نفسه الذي يسمح بتداول الكحول في كل مكان دون ضرائب مضاعفة واستثنائية مثل السجائر.

وهو نفس النظام عديم الكفاءة في كبح جماح شركات التغذية عن الابتعاد عن استخدام «الكورن سيرب» -أو سكّر الذرة- سيء الذكر، في معظم المنتجات في المطاعم والسوبر ماركت.

وهو النظام المهيمن نفسه، ذو كفاءة الانتشار العالية الذي يعكس مفهوم الرأسمالية بكل صوره.

التكيُّف قيمة العصر

نحن نعلم أن لكل أمّة ودولة نسيجها وتركيبتها السياسية الخاصة بها. ونعلم أن لكل تركيبة عيوبها ومحاسنها، إلا أننا لا نستوعب أن التحول والتأقلم المستمر هو المفتاح. فها هي نماذج تاريخية نافست الرأسمالية قد فشلت، عندما تبنّت بحسن نية عدم التكيُّف مع متطلبات العالم وسنن الكون. 

فما النماذج إلا انعكاس للإنسان بفردانيته، والذي يعتقد داروين أن سبب بقائه وانتشاره على هذه الأرض بعد خلقه بآلاف السنين هو قدرته العالية على التكيُّف، القدرة الأكثر أهمية من امتلاك القوة الجسدية أو الذكاء الخارق.

النظام الأميركي نظامٌ شديد التكيف. على الأقل من الناحية المالية والتسويقية. فلا دولة في العالم تطبّق قوانين الإفلاس بفعالية مثلها. هذه القوانين التي تحمي الشركات من مغادرة السوق بسرعة هي ما ساهم أيضًا بالإبقاء على آلاف الوظائف دون تسريح، وهي ما أعاد تشكيل الشركات لتتكيف مع أي مخاطر تحفّها.

فأصبح النظام الأميركي المهيمن؛ لأن أساسه الأصيل هو التكيُّف. هذا التكيُّف الذي يضر بقدر نفعه، يعطي الفرص بالتساوي للشياطين والملائكة، لشركات الأدوية وتجّار الأغذية العضوية ولشركات المقامرة والكحول والتدخين والوجبات السريعة. فالنظام يحمي التاجر ويعطي الفرصة للمستهلك بأن يتظلم (أو يُظلم) إن أراد. هناك دائمًا خيارات واختيارات.

فحينما تتساوى الفرص، يتلقفها الصالح والطالح. وعندما يدعمك النظام، تستثمر سريعًا مع المهتمين من داخل بلدك أو خارجها. ستستثمر متعجّلًا مع من يريد في وطنك وفي الخارج.

أميركاالتسويقالرأسماليةالمدنالمطاعمالثقافة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية