ما هي الديمقراطية؟
تنشر نيويوركر رسالة من أربعينيات القرن الماضي يصف فيها وايتس الديمقراطية بوصفًا حالمًا، لكن أين الديمقراطية الأميركية الهشة من هذه الرسالة؟
عشية انتخابات 2020، أعادت صحيفة النيويوركر نشر الرسالة التاريخية التي كتبها المحرر إي بي وايتس في صيف عام 1943، خلال الحرب العالمية الثانية، ردًا على رسالة تلقاها من «مجلس الكتاب الحربي» (Writer’s War Board)، والتي تناولت سؤال: ماهي الديمقراطية؟
«إنها خط الحقيقة الفاصل، حرف النفي في عبارة لا تؤذِ، غبار الخشب الذي يرشَح رُويدًا من ثقب قميص العمال. إنها الانبعاج في القبعة التي تنحني إحترامًا، والشك المستمر في أن أكثر من نصف الشعب على صوابٍ معظم الوقت.»
يجيب إي بي وايتس حالمًا بطريقة سريالية، وبتعبير يشيح النظر عن أجندة المجلس الذي كان محض بروبقندا وطنية، أنشأتها الخزانة الأميركية بعد حادثة «بيرل هاربر» (Pearl Harbor)، وترأسه الكاتب ريكس ستاوت طوال فترة عمله.
انطوت مهمة المجلس في التسلح بالأدب ونخبة الكُتاب الأميركيين، للفوز بالحرب بنشر البروبقندا عبر المقالات والأشعار والأغاني ونصوص الراديو وغيرها. وبالرغم من ضمّه أعضاء مدنيين، لم يكن المجلس سوى أداة لنشر السياسة الأميركية والترويج لبيع سندات الحرب في البداية. ليصبح في النهاية منصّة يعتليها الكُتاب لتمرير سياسات الحكومة. فكان اليد الثانية لها، حسب شهادة أحد الموظفين.
وخلال السنة الأولى، بلغ عدد كُتاب -أو بالأحرى جنود المجلس- 2000 كاتب وكاتبة، أنتجوا أكثر من 8000 مادة أدبية ترسم التاريخ بالبارود والقلم. ولكن…
لم أعادت صحيفة النيويوركر نشر الرسالة اليوم؟
«إنها شعور الخصوصية في أكشاك التصويت، والوحدة في المكتبات، والحيوية في كل مكان […] إنها الفكرة التي لم تُنقض بعد، والأغنية التي لم تفسد كلماتها.»
الحقيقة أنني لا أفهم الدافع وراء هذا النشر. أهو خوف وقلق؟ أم إعادة بيع كذبة قديمة؟ أهي محاولة أخيرة لدفع مسيرة العملية الديمقراطية التي تأمل تسليم ترمب السلمي مفاتيح البيت الأبيض لخصمه «الديمقراطي»؟ أم تسليط الضوء على الوجه الآخر من العملة، ذاك الوجه الذي يُعزي دخول ترمب ضمن المعادلة الانتخابية للمرة الثانية، والقلق من فوزه المحتمل؟
ثم كيف لهذه الكلمات أن تشهد الواقع في معارك الخصوصية أمام السياسات الأخلاقية الهشة لشركات التقنية التي قادت فيسبوك بعد فضيحة كامبريدج أناليتيكا للوقوف أمام مجلس الشيوخ، وتعطيلها مسار الديمقراطية في انتخابات عام 2016؟ والشعارات المنادية للعنصرية والتمييز بسبب العرق والدين والأقليات وخطاب الكراهية الذي أطلقه رؤساء الجمهوريات أنفسهم، كما حدث في فرنسا.
أيعقل أن تكون الديمقراطية نفسها التي انتخبت رئيسًا أسود وقتلت جورج فلويد؟ أهي نفسها التي وضعت ترمب في كرسي الرئاسة وفاقمت خطاب التفوق العرقي؟ أهي التي وسّعت فجوة ثروة الواحد ضد الأغلبية ومكّنت ترمب من التملّص من الضرائب؟ ووقفت وراء الخطاب المتذبذب «للمدعية التقدمية» كاميلا هاريس؟
أهي نفسها التي تنشر معسكراتها في الشرق وتدعم الحرب بالوكالة والطائرات بلا طيار في سوريا وليبيا وفلسطين؟ أتكون نفسها التي غزت العراق وفيتنام؟ وتجسست على مبنى «ووتر قيت»؟ وهيأت للرأسمالية عشّها المريح في وول ستريت، حتى شلّت اقتصاد العالم عام 2008؟
الديمقراطية الأميركية
ربما يجدر بنا إعادة صياغة السؤال. فبدلًا من أن يكون عن الديمقراطية، يتعين علينا أن نسأل: ما هي «الديمقراطية الأميركية»؟
إنها الصورة التي تغمسك في وحل الحضارة، والحقيقة المزيفة التي تضخ الأكاذيب، والوهم الذي يصبغ الشارع المقابل للبيت الأبيض بشعار «حياة السود مهمة» ليضربك بالغاز المسيل للدموع عند المنعطف. إنها اليد التي تساوم حياة الفلسطيني في كُل مرة، والجدار الذي يُقصي الآخر ويهيمن على كل ما هو خارج الحدود.
إنها البيروقراطية التي يصعُب تجاوزها وهي تنفيك خارج الخريطة. والآلة التي تصنع العنف ثم تجرّمه. فالديمقراطية لا تكتسب أية شرعية إلا عندما تكون ديمقراطية أميركية.
يقول الصحفي الاستقصائي ألن نايرن: «أميركا ليست ديمقراطية، بل تخضع حاليًا لحكم أقلية يمينية تنتفع بفساد الهيئة الانتخابية والمحكمة العليا.»
هذه الأقلية نفسها، هي من يستعمل النظم غير الديمقراطية داخل الحكومة الأميركية في تحقيق أجندتها الخاصة التي تخدم اليمين المتطرف في مساعيه نحو إقصاء كل من يعارضه، ونشر الهيمنة في أبشع صورها.