هل الصلاة مما يفيد في الاكتئاب؟

القضيّة التي يناقشها الكاتب هنا هي ترك الصلاة بعد فترة من عدم الشّعور بأنّها تُشكّل أيّ فرق في حياة المرء، خاصةً بين الذين تربوا على الحفاظ عليها و...

هذا موضوع أرغب في الكتابة فيه منذ زمن، وهو متعلّق بقضيّة كثيرًا ما أُسألُ عنها من قبل كثيرين، خصوصًا ممّن يعانون من حالة من الاكتئاب، وإن كان السؤال يمتدّ ليشملَ كثيرين ممّن لا يعانون شيئا من ذلك.

القضيّة هي ترك الصلاة بعد فترة من عدم الشّعور بأنّها تُشكّل أيّ فرق في حياة المرء. السؤال يأتي غالبًا ممّن تربّوا على الصّلاة منذ طفولتِهم، وعاشوا مراحلَ في حياتِهم كانت الصلاة فيها بالفعل سببًا للطمأنينة وممارسة روحانيّة حقيقيّة يشعرون بدفئها في حياتِهم، لكنّهم افتقدوا هذا المشاعر لاحقا وتحوّلت الصّلاة عنَدهم لحالة أوتوماتيكيّة لا روح فيها، ثمّ وجدوا أنفسَهم يتوقّفون عنها تمامًا.

في هذه القضيّة يمكنُ ذكر النقاط التالية:

ليس في الصلاة بحدّ ذاتِها سببٌ فيزيائيّ للخشوع أو الروحانيّة.

الروحانيّة في الصلاة نتيجةٌ معقّدةٌ لكثير من العوامل، تتداخل فيها حالة المرء النفسيّة، وموقفه الوجوديّ، وحالتُه الروحانّة العامة، وبالتالي فغياب الروحانيّة في الصلاة نتيجة مركّبة لعوامل كثيرة.

هناك تفسيرٌ أقترحُه كفرضيّة لتغيّر علاقة كثيرين بالعبادات والدين عمومًا بما في ذلك الصّلاة.

هذه الفرضيّة تقوم على وجود ربطٍ عميقٍ بين الدين والعبادات وبين مشروعٍ واقعيّ، بحيثُ ينشأ المرء على الاعتقاد بأنّ التزامَه الدينيّ جزء من تحقيق غاية عمليّة وخطوة نحو تحقيق هذه الغاية. هذا الربط موجود بقوّة في أوساط الإسلام الحركيّ خصوصًا، فكثيرٌ من الإسلاميّين يعتقدون أنّ التزامَهم الديني ثمنٌ يجبُ دفعُه من أجل التمكين للإسلام أو تحرير فلسطين أو إقامة دولة إسلاميّة. كثيرًا ما سمعنا عبارات من قبيل “لن يتحرّر الأقصى إلا إذا كان عدد المصلّين في الفجر مثل عددهم في الجمعة” أو “كيف ننتصر وفينا من لا يُتقن الوضوء” وما شابه.. وكثيرًا ما تمّ تعليق الفشل في مشروعٍ سياسيّ على ضعف التزام الأفراد وهشاشة التربية وعدم تمكّن الإيمان من القلب.

نتيجةُ ربطٍ من هذا النوع أنّ الفشل في المشاريع العمليّة يؤدّي إلى شكٍّ في منظومة التديّن برمّتِها. لا يعود التديّن التزامًا أخلاقيًّا بما هو واجب بغضّ النظر عن النتائج الدنيوية، ويقع تناسٍ لفكرة أن الجزاء الديني أخرويّ بالأساس.

في الحقيقة، يخبرُنا القرآن أن أكثر رسالات الأنبياء لم تحقّق نتائج دنيوية، حيث قٌتِلَ بعضُهم ولم يتّبع أكثرَهم إلا قليلٌ من أقوامِهم.

الصلاة

النقطة السابقة لا ترتبطُ فقط بمن ينتمون فعليًّا للإسلام الحركيّ، بل يمتدّ أثرُها إلى قطاع أوسع بكثير..

هناك من انتمى آباؤهم وأمهاتُهم إلى الإسلام الحركي، وهناك من تأثروا بتنظيرات الحركيّين في المساجد والمدارس والجامعات دون أن ينتموا فعليّا لأي جماعة أو تيار، فضلًا عن أن للإسلامَ الحركيّ نمطَ تديّنٍ نشرَه وساهم في دفعِه كثيرٌ من الدعاة والعلماء ذوي الآثار الممتدّة بعيدًا عن نطاق حركاتِهم وأحزابِهم.

هناك فكرة شديدة الانتشار والخطورة، مفادُها أنّ من الأفضل ترك الصلاة إذا لم يكن المرء يشعرُ بروحانيتِها، وأنّ هذا الترك من قبيل “الاتساق مع الذات”.

الحقيقة أن فكرة “الاتساق مع الذات” بهذا المعنى مدمّرة جدًّا. هذه الفكرة ليست دينيّة في الحقيقة، فتصوّر الدين للعبادات جميعها، بل للالتزام الديني عمومًا، يقوم على فكرة “المجاهَدة”، أي أنّ الأصل في العبادة المشقّة والثقل على النفس، وأن الحصول على ثمرة العبادة يقتضي مسارًا طويلًا من معاندة النفس ومكابدتِها ومقاومة نزوعِها الطبيعيّ، بالتالي فأثر العبادة ليس أوتوماتيكيًا أو تلقائيًا بأيّ حال، بل هو نتيجة مسيرة شاقّة وطويلة.

وبشكلٍ عام، كثيرٌ من مرتكبي الجرائم والأعمال غير الأخلاقيّة اكثرُ “اتساقا مع ذواتِهم” من كثيرٍ من الخيّرين. أظنّ أن تجار المخدّرات مثلا مقتنعون بما يفعلون أكثر من كثير من المثقفين وأساتذة الجامعات.

التساؤل عن عدم وجود الروحانيّة في الصلاة لدى المكتئب شبيه بالتساؤل عن فقدان القدرة على التّذوق لدى من تعطّل عصبُ التذوق لديه

من يمرّ تدينُهم بأزمة وجوديّة تطالُ القضايا الفلسفيّة الأساسيّة من قبيل وجود الخالق وفكرة الدّين برمّتِها، يحتاجون غالبًا إلى عقلنة تدينِهم وفلسفتِه كي يستعيدوا إيمانَهم.

مع إيماني بأن الإيمان ليس قضيّةً عقليّةً منطقيّةً، إلا أن النزوع إلى محاولة تأسيس الدين عقليًّا وفلسفيًّا أمرٌ شائعٌ جدًا لدى من يدهمُه الشكّ ولا يعودُ بإمكانِه الاعتماد على الدين الفطريّ الذي تربّى عليه .. مرحلة “العقلنة” هذه تأخذُ كثيرا من رصيد الروحانيّة وقد تستنزفُه تمامًا، وبالتالي فاستعادة روحانيّة العبادة مهمّة شاقة قد تأخذ سنوات، وقد لا تعود أبدًا إلى شكلِها الفطريّ الذي اعتادَه المرء في صباه وأول شبابه.

في حالة الاكتئاب، هناك شعورٌ عام باللاجدوى، وفقدانٌ عامّ للقدرة على الشّعور بأيّ متعة، روحانيّةً كانت أو غير روحانيّةٍ

فضلًا عن أنّ الاكتئاب كثيرًا ما يكون هو بدوره محفّزًا على إطلاق الأسئلة حول الجدوى والغاية، وأثرِ وجود الله في الكون، وسؤال الشّر وغيرِها. بالتالي، الاكتئاب حالة مهيّأة لفقدان معنى ومتعةِ أيّ شيء، بما في ذلك الصلاة، بالتالي فالتساؤل عن عدم وجود الروحانيّة في الصلاة لدى المكتئب شبيه بالتساؤل عن فقدان القدرة على التّذوق لدى من تعطّل عصبُ التذوق لديه. المشكلة في حاسّة الذوق، لا في الطعام.

كما في سائر التجارب الروحيّة، يكتسبُ الصدقُ مع النفس أهمية قصوى

حتّى إذا شعر المرء بأنّه غير قادرٍ على الصلاة مهما حاول وقرر تركَها، فمن المهمّ الاحتفاظ بانفتاح على تجربتِه والتعلّم منها وتجنّب الانسياق وراء مواقف قصوى ونهائيّة قبل أن تنضج تجربتُه. من الخطأ في ظنّي أن يُسارع المرء إلى التماهي مع موقفٍ ما لم يجرّبه بما يكفي ولم يعش كافّة نتائجه الروحيّة، بالتالي، كما أنّ الصلاة مرحلة، قد يكون تركُها مرحلة، والتجربة مفتوحة لا تنتهي إلا بمفارقة الحياة.

الاكتئابالدينالصحة النفسيةالثقافة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية