كيف تشكّل «المولات» هويّاتنا؟

أصبحت ”المولات“ تلك المباني الضخمة التي تحتلُّ أجزاء ليست بهيّنةٍ في مدننا، مصانعَ للهويّات على اختلاف سِماتها وبصماتها. ومن أجل أن نفهم ما هو المول يجب...

حين نحاول الحديث عن الهُوية أو الهُويات، يلزمنا أولًا أن نحدد مقصودنا بدقّةٍ. وهذا هو أُسُّ الإشكال، لأننا حين نُقدِّم تعريفًا للهُوية، سنجد أنفسنا أمام معارفَ شتى، فمفهوم الهُويّة مفهومٌ مُتَنَازَعٌ فيه بين الفلسفة وعلم النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا وغيرها. وبسبب تشعّب المفهوم أصبح من المتعذّر الإحاطة بكامل المفهوم مع تشعّباته وغموض أجزاء منه فضلًا عن تِبيانه في إطارٍ معرفيٍّ واحد.

تُعلّق أستاذة علم النفس الاجتماعي مارلين برور (Marilynn Brewer) في معرِضِ حديثها عن هذا الإشكال:

… حينما يبحث الدارس مصطلح «الهوية الاجتماعية» سيصطدم بكمٍّ هائل ومذهل من المراجع بكل أنواعها، من كتب وأبحاث ودراسات في علوم متفرقة، من علم النفس التحليلي إلى علم الاجتماع، وصولًا إلى علم السياسة. لنكتشف أن هذا المفهوم لا يمتلك معنى مشترك بين هذه التخصصات…

ولذلك كان من الضروريّ أن أُقدّم بهذه المقدّمة وأنا أكتب عن مفهوم الهويّة، لسببين:

السبب الأول قد ذكرته آنفًا، والثاني من أجل أن يدرك القارئ أن التعريف الذي سأقدمه هنا سيكون في جزئية تطبيقية ومحددة تختص بالسُّلوك في علم النفس الاجتماعي. أي أنه تعريف لا يمكن له أن يتجاوز حدوده، أو أن يُعمَّمَ على المعارف الأخرى.

ومن هنا (وداخل هذا النطاق المعرفيِّ المحدَّد) نُعرّف الهوية على أنها شكل من أشكال الفعل، بأن يتطلب من الفرد أن يمارس سلوكيات محددة يصنع من خلالها هويته. وأهم سلوك يقوم به هو فعل الانتماء إلى رمز أو صفة تتصف بها المجموعة التي يرغب في الانتماء إليها، أي أنه ينتمي إلى الرمزيّة أو الصفة التي تحملها المجموعة.

يبني هذا الانتماء رابطة بينه وبين المجموعة. ويبني انتماؤه لديه صورةً ذهنيةً عن نفسه وعما يجب أن يكونَه، وكيف يفكّر وكيف يشعر. لكن الانتماء وحده لا يكفي ليتبنّى به الفردُ هُوية جديدة، بل يحتاج إلى اندماجٍ شعوري/عاطفي يكشف عن رغبته في أن يكون جزءًا من هذه المجموعة.

ومما يجعل موضوع الهوية بالغ الأهميّة

هو أنه يشكل ضرورةً وجودية للإنسان. وأنَّ أيَّ اضطرابٍ يصيب هُوية الفرد كفيلٌّ بأن يَهُزَّ إحساسه بالوجود، ويقلب مشاعره رأسًا على عقبٍ، ويتركه حائراً أمام مُدركاته السابقة. ولذلك لا يمكن أن يكون هناك إنسان بلا هوية. هُوية الفرد تحدد له من هو وبماذا يؤمن أو يعتقد، وهي التي تصوغ إرادة الإنسان وتشكِّلُ سلوكه. أي أن الهوية بئر ينبع منها إحساس الفرد وتُصاغ منها سلوكياته. وباختصار دقيق، هويّةُ الفرد هي جذر إرادته.

من هنا سأبدأ بتوظيف مفهوم الهُوية في إطار السلوك البشري، منطلقًا من علم النفس الاجتماعي؛ لأقول إن ثقافة التسوّق الحديثة، في السعودية ودول الخليج بالعموم، ثقافةٌ مسؤولةٌ عن إعادة إنتاجِ هُويات جديدة للجيل الحديث. تُبنى هذه الهويات وتُصنع داخل المجمّعات التجارية، ومن خلال استهلاك الماركات العالمية. فعلى سبيل المثال، إذا كان هناك متسوق/مستهلك يُعرّف نفسه بأنه «رياضيّ»، فستتسق سلوكياته وتتطابق مع ماذا يعني أن <يكون> رياضيًّا!

ينتج لدينا ما نسميه بـ«السلوكيات الناتجة عن الهوية»، فيصبح الرياضيّ سريعَ الانتباه والملاحظة لكل بواعث الرياضة في داخله، وتجده يهتمُّ بمتابعة وتقييم المنتجات الرياضية ويُفضل اختياراتٍ على أخرى أثناء تسوّقه. وتلك الماركات المرتبطة «بهويته الرياضية» هي معيار الاختيار (يُفضّل مشروبات الطاقة على أي مشروب آخر لا علاقة له بعالم الرياضة، أو يُفضّل السيارات الرياضية على غيرها).

وأخيرًا، تظهر على السطح سلوكيات جديدة مرتبطة بهويته، كأن يقتني أجهزة إلكترونية تتناسب مع رغبته في الجري. بعبارة أخرى تكمن أهمية الهوية في صناعة السلوك البشري وتشكيل باطن الإنسان – من خلال صياغة مَلَكَة الانتباه والملاحظة لديه وترتيب تفضيلاته ورغباته.

يبني التسوق هويّاتنا

أصبحت «المولات»، تلك المباني الضخمة التي تحتلُّ أجزاء ليست بهيّنةٍ في مدننا، مصانعَ للهويّات على اختلاف سِماتها وبصماتها. ومن أجل أن نفهم ما هو «المول»، يلزَمُنا أولًا أن نتذكر أن المول في حقيقته «مكان» قبل أن يكون مبنًى ضخمًا وفارهًا.

ومن هنا لا نستطع أن نُعرّف المول قبل أن نُعرّف المكان وما الذي يعنيه لنا، وما دوره في حياتنا. وهو بحق سؤالٌ كبير، لا أستطيع الإجابة عليه في هذه المقالة، ولكن يسعني أن أختصر. حينما نحلل ونفكك مفهوم المكان، سنجد أنه ذو ارتباطٍ حتمي مع التجربة الإنسانية، أيًّا كانت هذه التجربة. ومن هنا يفرض المكان علينا أن ننظر للعالم بطريقة محددة، بل ويفرض علينا نوعًا من السلوك داخل حدوده.

أي أن المكان يعكس صورته الخاصة على كل ما نشعر ونفكر به. فبقدر ما ينتج الإنسان ويصمِّم أمكنة جديدة، تُنتج الأماكن وتشكِّل هويات جديدة. يخلقنا المكان من خلال تفاعلنا معه وكيفية ارتباطنا به. ولأن المكان لا يمكن أن يقع خارج التجربة البشرية، وجب القول إن المكان والثقافة شيئان لا ينفصلان.

تجربتنا مع المكان ليست تجربة تحدث قبل الثقافة، بل المكان في ذاته مُنتج ثقافي. وقد يجد القارئ في عبارتي هذه جرأة بالغة حتى ينظرَ إلى المكان بوصفه فضاءً اجتماعيًّا، فيتضح لديه ما أعني، لأن المكان الوحيد الذي لا تنتجه الثقافة هو المكان الذي لا يسكنه البشر، ذلك مكان خالٍ من التجربة الإنسانية.

المكان بصفته منتجًا ثقافيًّا

وأتمنى ألا تُفهم الفكرة خطأً، إذ إنني لا ألغي البعدَ الأنطولوجي للمكان ولكنني أشير إلى أن المكان الذي يضرب بجذوره في المقدس هو أيضًا فضاء اجتماعي تتفاعل معه الثقافة وتُشكله وتُعيد صياغته. فحين ننظر للمكان على أته فضاء اجتماعي، فهذا يعني أننا نعيد إنتاجه من جديد.

وما يثير استغرابي هو أن تلك الأماكن التي ينتجها الإنسان مثل الطرقات السريعة، والمولات التجارية الضخمة، والأحياء الراقية ذات الأرصفة المنمّقة، والبحيرات الصناعية، والمطارات العالمية، والأبراج الشاهقة، والمزارع وملاعب الجولف على أسطح الفنادق – تكون في الأذهان وكأنها جزء من الطبيعة، كسقوط المطر أو إشراق الشمس. وهذا أمر مُقلق وخطير، لأننا لا ننظر إلى المكان في هذه الحالة نظرةَ إشكالٍ أو ريب.

يكمن التأكيد على وصف المكان بصفته منتجًا ثقافيًّا في أهمية المعنى الذي يتخذه المكان في المجتمع، ومسؤولية المجتمع تجاه هذا المعنى. ويتمثل إشكال المجتمعات الحديثة اليوم مع المكان في أنها لا ترى للمكان دورًا في تشكيلهم، ولا تتفكر فيه بوصفه شيئًا فاعلًا وحيويًّا. وللتوضيح، أقول إن المول مُنتج ثقافي يحمل بين طياته أيديولوجيات فكرية. فالمول كائن حيّ ينبض بالمعتقدات والأفكار والأفعال التي تُشكّلنا نحن البشر. والنظر للمول على أنه شيء محايد وغير جدليّ يكشف عن تورطٍ ضمني بالقبول بالأيدولوجيات التي ينطوي عليها «المول».

التسوق

العالم الثالث

ومن هنا تكون «المولات» أمكنة جديدة تتميز بأنها عالمية. بمعنى أنها تتغلب على الحدود الجغرافية من خلال محو المحددات بين المكان المحلي والمكان العابر العالمي. بعبارةٍ أخرى، المولات التجارية الضخمة مُنتجٌ ثقافيٌ/مكانيٌّ نشأ في الغرب بفضل الرأسمالية، وعَبَرَ القارات ليُلوّنَ المكان المحليَّ بخصائص ثقافته العابرة للحدود. المولات التجارية الضخمة امتزاجٌ بين مكانين تعكس صورة المكان الغربيّ.

ومن خلال الاستهلاك ترمز المولات لمعانٍ متعددة منها هوية المُتحضر أو العصراني/المتقدم. وهي مفاهيم غير بريئة من كينونة «غربية». وبما أن الغرب يرمز للتطور «بمكانه الأول» فإن «المكان الواقع في العالم الثالث» بحاجة إلى أن يتقدم. ولذلك تجد المولات مكانًا يقوم على مبدأ محو محددات العالمين، ومن خلاله يستطيع المتأخر حضاريًّا أن يجد طريقةً نحو التقدم. هذا التمازج بين المكانين يكشف عن هيمنة المكان العابر على المكان المحلي.

المولات الضخمة، التي عادةً ما تكون جُزءًا من أبراج شاهقة ومطاعم فاخرة، ميدانُ سباق بين العالم الثالث والعالم الأول. أي أن العالم الثالث يريد أن يتفوق على العالم الذي أنتج هذه الأمكنة الحديثة. انظر إلى تفوق مطار دبي مثلًا على مطار نيويورك في فخامته وضخامته. انظر إلى تفوق العالم الثالث في امتلاكه لأطول برج في العالم. هذه المنتجات الثقافية (الأبراج والمطارات) نشأت في الغرب وعبرت إلى العالم الثالث وأصبحت مطايا في مضمار التنافس الشكلي بين العالمين.

الإنسان المتسكع

ولأن المكان يُشكّلنا كما ذكرت سابقًا، برزت ظاهرة جديدة تُسمى «مجتمع المولات»، إذ إن مرتاديه لا يذهبون إليه من أجل اقتناء الأشياء (الذي قد يكون في كثير من الأحيان لعدم استطاعتهم المادية) وإنما من أجل اللقاءات والتعارف والاسترخاء، أي التنقّل بين أروقته. والمدن الحديثة مسؤولة عن إنشاء «ثقافة المولات» التي خلقت بدورها مجتمعًا جديدًا يتميز بتسكعه في الأماكن، وتنقله في الأروقة بغير هدف سوى إطلاق الأعِنَّةِ لأنظارهم في كل ما حولهم وجذب أنظار الآخرين إليهم.

وأول مَن وثّق هذه الظاهرة الشاعر الفرنسي بودلير حينما سماهم «المتسكعين». ثم طور المفكر الألماني والتر بنيامين مصطلح «المجتمع المتسكّع»، أي المجتمع الذي يجد السعادة من خلال التسكع والمتعة من خلال النظر في أروقة المكان. هذا المكان، الذي أُسس ليكون ميدانًا لتجاذب النظرات، صُمم من زجاج لمّاع وإضاءات ساطعة وديكورات معدنية عاكسة لصور الأشياء ويبعث على مُتعة النظر ويوحي باتساع المكان ووفرة الأشياء. ولأن المكان يُشكّل سلوك الإنسان، نتج لدينا في الغرب «مُجتمع المتسكعين» لتُعيد المولات اليوم هنا، في الخليج، إنتاج هوية «المتسكع».

هذه الهوية الجديدة ليست فريدة من نوعها

بل هي نسخة مكرّرة لهوية الإنسان الغربي المتسكع. هوية ليست خالية إطلاقًا من كينونة الغربيّ، وإنما محمومة به. انظر إلى ما يسمّى بالماركات العالمية والمعنى الذي تحمله في الصدور، هي في حقيقتها ليست عالمية وإنما منتجات محليّة «غربية» تتصف بعالميتها. أي أن المكان العابر أنتج معنًى جديدًا له ليكون «عالميًّا» يفرض حدوده في الأذهان أولًا وصولًا إلى المكان المحليّ. هذا الامتزاج بين المكان المحلي والمكان العابر يكشف عن اضطراب في طبيعة التفاعل بين المكانين. فالعلاقة بينهما ليست نديّة إطلاقًا لأن المحلي يُقلّد العابر ومفتون به، والمكان العابر مغرورٌ بتفوقه ومكانته العُلْوِيّة.

ولذلك تتركز القوة في كينونة المكان العابر ليقوم بدوره بتحويل المكان المحلي إلى ثقافة ذات قيم جديدة ومغايرة عن قيم المجتمع المحلي. ولذلك تستمدّ هذه «المولات» معاني غربية مُتخيّلة من أماكنها الأولى في الغرب. من هذه المعاني مفهوم الحرية الفردية أو تحرر الفرد من قيود المجتمع، ولذلك تجد العلاقات بين الجنسين في هذه الأماكن تُعبّر عن حرية شخصية تتخفف من قيود وعادات المجتمع المحلي والقيود الدينية. ولأن المجتمعات الغربية مجتمعات فردانية، تجد مجتمعَ المولات يعتنق قيم المجتمع الفرداني (قيم الفرد وقرارته أسبق من قيم المجتمع واختياراته). وبلا شكٍ، فإن هذه القيم فُرضت على المكان المحليّ من خلال المكان العابر.

تبرز فردانية المتسوقين المحليين داخل المولات

في أنماط لباسهم وتسريحات شعورهم وتحدُّثِهِم باللغة الإنقليزية. يتحدثون الإنقليزية هناك، لأن المولات أتت من المجتمعات الغربية فقط. ولذلك لا معنى ولا قيمة للغات أخرى كاليابانية أو الإسبانية مثلًا، ويعود السبب إلى لغة المكان العابر. بل تجد العربية والإنقليزية في تمازج كتمازج المكانين ويبلغ درجة انمحاء العربية في بعض الأماكن مبلغًا تكون عنده الإنقليزية هي اللغة الأساسية في عالم التسوّق.

هذا التمازج بين اللغتين ليس أمرًا عفويًا أو محايدًا، وإنما هو نوعٌ من خضوع اللغة المحلية لهيمنة الإنقليزية؛ لأنها ترمز لقيم التحضّر والتقدّم. انظر إلى الإشكال في اسم المكان الذي نحن بصدد تفكيكه: «المول» كلمة إنقليزية شائعة الاستخدام العربي، حتى إنها لا تحمل معنى السوق، إذ إن للسوق معنى آخر ذا ارتباط أكبر مع المكان المحلي. لأنك حين تذهب إلى السوق (المكان الشعبي) لا تسمع صوتًا للإنقليزية هناك، وإنما ترى أعراف وعادات المجتمع المحلي بارزة للعيان.

وأخيرًا يلزمني توضيح أن الهويات المُقلِّدة للهوية الغربية لا تُشبه الهوية الغربية. فالتقليد هنا لا يعني إنتاج نُسخة مطابقة للآخر الغربي. وإنما هو انعكاس له في ذات الإنسان المحليّ. كما يصف هومي بابا التقليد بأنه «كانعكاس الضوء». فهو انعكاس الآخر على أذهاننا وسلوكياتنا ليُنتجه في داخلنا. وعلى الرغم من أن المقلدين للهوية الغربية يبدون بكامل ملامحهم المحليّة، إلا أن أذهانهم موضعٌ للسؤال ومحلٌّ للإشكال. كما كتب فانون في وصف السود في كتابه الشهير: «بشرة سوداء وأقنعة بيضاء».

الأسواقالهويةالثقافة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية