إذا أردت أن تكون سعيدًا، كن كالماء

نعيش حياتنا كالسراب، نقفز من هدفٍ لآخر، ونلاحق حلمًا جديدًا، ونرجو نجاحًا مختلفًا، بين كل خطوةٍ وأخرى نتوقع أن هذه الخطوة ستكون القاضية، سنصبح سعداء إن حصلنا على تلك الترقية، سنصبح سعداء إن وصلنا إلى ذلك الوزن والجسم المثاليين، سنصبح سعداء إن ارتبطنا بعلاقة مع من نحب، لكننا يومًا بعد يوم نصر على تجاهل هذه الحقيقة: السعادة المرتبطة بالخطوات سراب.

نعيش حياتنا كالسراب، نقفز من هدفٍ لآخر، ونلاحق حلمًا جديدًا، ونرجو نجاحًا مختلفًا، بين كل خطوةٍ وأخرى نتوقع أن هذه الخطوة ستكون القاضية، سنصبح سعداء إن حصلنا على تلك الترقية، سنصبح سعداء إن وصلنا إلى ذلك الوزن والجسم المثاليين، سنصبح سعداء إن ارتبطنا بعلاقة مع من نحب، لكننا يومًا بعد يوم نصر على تجاهل هذه الحقيقة: السعادة المرتبطة بالخطوات سراب.

نشر ديفد مايرس (David G. Myers) في عام 2000 ورقةً بحثيةً بعنوان: “المال، والصداقات، والإيمان في حياة السعداء”، وكان الرسم البياني الخامس فيها مثيرًا للاهتمام، فهو رسمٌ يقارن بين مستوى دخل الفرد ونسبة الأفراد الذين يصفون حياتهم بأنها سعيدة، المفترض هو أن ارتفاع دخل فئةٍ جديدةٍ من الأفراد سيزيد من نسبة السعداء، لأن الفئة الجديدة بلا شكٍ ربطت سعادتها بارتفاع الراتب وبالتالي حققت ذلك عبر مرور الزمن، إلا أن الرسم أظهر حقيقة سراب السعادة: رغم أن مستوى دخل الفرد قد تضاعف خلال فترة الدراسة ثلاث مراتٍ تقريبًا، إلا أن نسبة السعداء ظلت كما هي.

ميهالي كسيسنتميهالي (Mihaly Csikszentmihalyi) هو عالم نفسٍ من هنغاريا جذبته دراسات مايرس عن السعادة ليتعمق فيها، لطالما تساءل ميهالي عن علاقة مشاعرنا بالسعادة، وقد توصل بعد إجراء مقابلاتٍ عديدةٍ مع فنانين وعلماء وناجحين، إلى أن السعادة تكمن في شعورٍ لا نسمع عن اسمه كثيرًا ولا يروجه لنا المسوقون عادةً، ذلك هو شعور الانسياب Flow.

بعد مقابلاته مع أولئك الناجحين، توصل ميهالي إلى نموذجٍ لتصنيف المهام حسب معيارين: صعوبة التحدي واحتراف المهارة، يحتوي النموذج على ثمانية مشاعر، فإن كنت تشاهد التلفاز مثلًا فأنت لا تجد صعوبةً ولا مخاطرةً في ذلك، كما أنك لا تحتاج للكثير من المهارة للتجول بين القنوات أو التركيز فيما تشاهده، ولهذا تشعر باللامبالاة Apathy، أما إن دخلت لاختبارٍ أكاديميٍ سيحدد جزءًا مهما من مستقبلك دون أن تدرس له، فسيكون مستوى الصعوبة عاليًا ومستوى المهارة منخفضًا، مما سيسبب شعورك بالقلق Anxiety.

يقع شعور الانسياب في هذا النموذج ضمن المهام ذات الصعوبة والمخاطرة العالية، التي تحترفها وتتقن مهاراتها، تذكر أكثر الهوايات التي تستمتع بها، حتى لو كانت لعب لعبةٍ إلكترونية ومنافسة نظراء حول العالم فيها، فحين تلعب الألعاب الإلكترونية لا تشعر بمضي الوقت بتاتًا، كما لا تستنفذ شيئًا من جهدك أو طاقتك، ولعلك تسمع من عائلتك من قد يقاطعك ليسألك: “ألم تتعب بعد كل هذا اللعب؟ ألست جائعًا؟” وحين تتوقف عن اللعب، تشعر بحالةٍ من الاستيقاظ، تبدأ بالانتباه إلى جوعك وتعبك، وكأنك كنت منفصلًا عن جسدك أثناء اللعب، بهذه العلامات، تعرف أنك كنت تعيش شعور الانسياب.

يسبب شعور الانسياب تشوهًا في إدراك الوقت أثناء حدوثه -فتشعر بأنك أنهيت عملًا في دقائق في حين أنك أمضيت ساعاتٍ عليه-، وانفصالًا لوعيك عن جسدك، وانسيابًا تلقائيًا لا تتحكم به لجسدك أو كلامك أو أداة تنفيذ المهمة التي تعمل عبرها، والأهم من هذا كله، هو أن أداءك في تنفيذ أي مهمةٍ يرتفع عندما تشعر بالانسيابية خلالها.

إن العظماء عبر التاريخ، لا يفصل بيننا وبينهم إلا هذا الجدار الهائل الوهمي الذي تخيلناه في عقولنا وسميناه بـ”العبقرية” أو “الموهبة”، في حين أن ما جعلهم استثنائيين في تنفيذ مهامهم، هو أنهم وصلوا لحالةٍ من الانسيابية في أعمالهم، ولعل هذا كان سبب تكون مصطلح “يجعل الأمر يبدو سهلًا”، لأن من يعمل عملًا في طور الانسياب، فإنه يشعر بسهولته وتلقائيته، بدون تلك الانسيابية كان ذلك العمل ليبدو مستحيلًا، ومن هنا تكونت نظرتنا تجاه هؤلاء الأشخاص الذين يبدون لنا أعظم من الحياة، إنهم يجعلون أعظم تحديات حياتنا تبدو سهلة، ليس لأنهم ولدوا بفطرة احترافها، ولكن لأنهم ولدوا بفطرة حبها.

يتطلب الوصول لحالة الانسيابية دخول تحدٍ صعب، وذو مخاطرةٍ هائلة، ثم العمل على تطوير مهارات الفرد فيه، وهنا تأتي آلاف الساعات التي أمضاها العظماء دون أن نراهم يتدربون على الوصول لأعلى مراحلها، ولا فرق عادةً بين تدريبات الناجحين وتدريبات غيرهم في أداء أي مهمة، إن الفائز بالميدالية الفضية في الأولمبياد لم يكن نائمًا في الأيام التي سبقت يوم السباق، بل تدرب نفس التدريبات التي تدرب عليها ذلك الفائز بالميدالية الذهبية، والفرق عادةً هو في أن صاحب الميدالية الذهبية كان يشعر بالانسياب أثناء عمله.

يعتبر بروس لي (Bruce Lee) أحد أشهر مقاتلي الفنون القتالية في التاريخ، كان فنانًا في الوصول لحالة الانسياب، بل أسس توجهًا مدرسيًا في القتال باسم “Jeet Kune Do” قام على أفكار الانسيابية، في أحد مقابلاته قال ما قد يعتبر أشهر ما قيل في شعور الانسياب:

أفرغ ذهنك، كن بلا نمط، بلا شكل، كالماء، فإن وضعت الماء في كأس أصبح الماء كالكأس، وإن وضعته في قارورة أصبح القارورة، وإن وضعته في إبريق صار إبريقًا، والماء ينساب، أو يتحطم، كن كالماء يا صديقي!

وضع ميهالي للوصول إلى الانسيابية ثلاثة شروطٍ، إن حققتها في أداء أي مهمةٍ تمكنت من تحقيق أعلى أداءٍ ممكن،الشرط الأولهو أن تمتلك هدفًا واضحًا محددًا، قابلًا لقياس إنجازه وتقدمك فيه، حدد ما تريد فعله بدقة. اشتهر مقاتل الفنون القتالية كونور مكجريجور (Conor McGregor) بذلك، حيث كان يتنبأ قبل كل قتالٍ بمجرياته وطريقة انتهائه واصفًا ما سيحدث بدقةٍ عالية، حتى أنه قبل أحد مبارياته راهن بثلاثة ملايين دولار أنه سيفوز بضربةٍ قاضيةٍ في الجولة الثانية تحديدًا، وفاز بتلك الطريقة تمامًا، وحين تنبأ بأنه سيهزم الأسطورة البرازيلية هوزيه ألدو (Jose Aldo Jr) واصفًا إياه بأنه سيتوتر ويطلق يده اليمنى بطريقة خاطئة، صدق بتنبؤه وهزم ألدو بضربةٍ واحدة ليكون أول من يهزمه منذ عشر سنين.

إن مكجريجور ليس مشعوذًا ولا متنبئًا بالمستقبل، بل هو إنسانٌ طبيعي درس فن الانسياب وطبقه، حين يضع هدفًا فهو لا ينظر للمستقبل ثم يعود للحاضر ليخبرنا به، بل يتخيل المستقبل، يحدد هدفه بأعلى دقة، ويذهب إلى هدفه وقد حقق الشرط الأول في شعور الانسياب مما يسهل عليه تحقيق ما تنبأ به.

إذا حددت هدفك بدقةٍ عالية، واستطعت رؤيته وتخيله في عقلك، ثم امتلكت الشجاعة الكافية لإخبار العالم به، فسيتحقق، هذه فلسفة مكجريجور، وهذا هو الشرط الأول لتحقيق الانسياب.

أما الشرط الثانيفهو أن تمتلك المهمة معيار تقدمٍ واضحٍ ومباشر، كان أرون رالستون (Aron Ralston) يمارس هوايته متسلقًا جبال ولاية يوتا في عام 2003 عندما علقت ذراعه بين الصخور خطأً، مما اضطره بعد خمسة أيامٍ وسبعة ساعاتٍ من الصمود بنفس الوضعية إلى بتر ذراعه بسكينٍ صغيرةٍ للنجاة، كتب رالستون عن هذه القصة كتابًا وحولت مناضلته المرعبة إلى فلمٍ رشح لست جوائز أوسكار.

بعيدًا عن تجربة رالستون المخيفة والملهمة، كان لرالستون نظرةٌ تثير الاهتمام بشأن محبته لتسلق الصخور، يقول رالستون: “لقد وصلت إلى حالةٍ من الانسيابية أثناء تسلق الصخور، حيث لا تفكر بالمستقبل، بل تفكر فيما هو بين يديك في كل لحظة”.

رالستون يستطيع كما تستطيع أنت أن يصل إلى الانسياب بسهولة، لأنه أثناء تسلق الصخور يرى بوضوحٍ أين وصل وكم تبقى ليصل، إن وجود معيارٍ يخبرك أثناء أداء المهمة بمدى امتيازك في تحقيقها أساسيٌ للوصول إلى الانسياب، ولعل هذا أحد أسباب شعورنا المستمر بالانسياب أثناء لعب الألعاب الإلكترونية، فنحن نرى عدادًا يخبرنا بصحة الوحش الذي نحاول هزيمته أو نتيجة المباراة التي نلعبها، وبالتالي نعرف أين وصلنا وكم تبقى لنصل وما إن كنا نبلي بلاءً حسنا أم لا.

الشرط الثالثللوصول إلى الانسياب هو التوازن، أن تكون جيدًا في أداء المهمة وأن تكون المهمة صعبةً في نفس الوقت، هنا يكمن كل الفرق، فقد ظهرت عبر مئات السنين فئات البشر المميزة التي سحقت كل هدفٍ عظيم وحركت كل عائقٍ في طريقها ولو كان جبلًا، إنه التوازن، أن تمتلك الشجاعة الكافية لتعمل في أعظم تحدٍ قابعٍ في خفايا نفسك، ثم أن تمتلك الاحتمال اللازم لتجتهد في دراسة هذا التحدي والتحسن في إتمامه، وهذا ينطبق على كل شيءٍ بدءًا من اختبار القدرات وحتى الفوز في سباق الأولمبياد يشاهدك الملايين فيه.

السعادة، سراب حياتنا الذي نرجوه دون أن ننتبه إليه، وقمة مشاعرنا التي نطلب الوقوف عليها دون أن نرضى بصعود بقية المشاعر في سبيلها، لطالما عقدنا وجهات نظرنا في فهمنا لها، ولم ننتبه إلى أنها مجرد فعل الاستماع إلى الأحلام التي ندفنها كل صباح وننبشها قبل النوم، مجرد أن نمتلك الخيال الواسع لرؤيتها في عقولنا، والشجاعة الكافية لنخبر العالم عنها، ثم الحركة اللازمة للخروج وتحقيقها، وما أبسط السعادة حين قال تولستوي فيها: “إذا أردت أن تكون سعيدًا، فكن”.

الثقافة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية