الأحساء في أعمال عبدالرحمن السليمان
في حالة عبدالرحمن السليمان فهو يستقي أعماله من ذاكرة الطفولة ونضج الشباب، ومن ذكرياته الخاصة ومواقف حياته قد تبدو مجرد أحداث يومية عابرة غير جديرة بالتوثيق.
تجمع أبناء القرى سمةٌ مشتركةٌ يستطيعون هم وحدهم تمييزها، وهي بساطة لهجتهم وعفويتهم التي تفرض نفسها مهما حاولوا إخفاءها ليندمجوا بسهولة أكبر في مجتمعات المدن الحديثة. صحيح أنك تستطيع إخراج أبناء القرى من قراهم، ولكنها تبقى جزءًا من هويتهم وتكوينهم، وتبقى ذكرياتهم أسيرة بيوتها وأزقتها الضيقة مهما امتدت بهم المسافات بعيدًا عنها.
لم أكن أعتقد أن هذه السمة هي ما سيجمعني بفناني المفضل عبدالرحمن السليمان ابن مدينة الأحساء وتحديدًا حارة الكوت التي لا يزال شبح بيوتها القديمة يسكن مخيلته، وما يزال صدى أصوات أبنائها يتردد في أذنيه؛ فتلهمه تارةً وتبعث في نفسه تارةً أخرى حنينًا لأشيـاء لم تعد موجودة سوى في بعض الصور التي التقطها.
عندما كنت أتحدث مع الفنان لغرض كتابة هذا المقال، قال لي «أنتِ من المدينة الفلانية، صح؟ استطعت تمييز لهجتك من أول مرة سمعتك تتحدثين بها. أنا أجيد تمييز لهجات الناس». وقد كان صائبًا بالفعل في تخمينه.
ما يميز الفنان عبد الرحمن السليمان ليس فقط عمله الدؤوب في المجال الفني والثقافي منذ العقد الماضي إلى الآن، وإنما أيضًا شخصيته المتواضعة واستعداده لبذل كل ما بوسعه لمساعدة الجميع. وقد تبدّى لي ذلك واضحًا خلال تعمقي وبحثي في مسيرة هذا الفنان الذي يقدمّ أرشيفه للجميع على مواقع التواصل الاجتماعي.
بارجيل وسلطان
تأثر اهتمامي بالفن بعوامل عدة منها معرفتي بسلطان سعود القاسمي الذي حضرت عددًا من ندواته في الجامعات الأمريكية، فانتقل إليّ شغفه بالفن التشكيلي العربي على اختلاف أبعاده الثقافية؛ حيث لمست في هذا الفن عمقًا كان ولا يزال يثير دهشتي بتعبيره عن الحالة المعقدة للفنان العربي الذي عاصر في حياته الكثير من التبدلات السياسية والاجتماعية، فجاء النتاج الفني مركّبًا ومتداخل الهويات لا ينحصر في إطارٍ أو بعدٍ واحد، مما جعل التجربة الفنية العربية مختلفة ومتفردة إلى حد بعيد.
في رمضان الماضي كنت مع سلطان القاسمي في كامبريدج بعد حضور إحدى ندواته عن الفن العربي والسياسة. وقد حدّثني بحماس عن آخر لوحة اقتناها لمؤسسته الغير ربحية «بارجيل». حيث يعرض سلطان مجموعته الخاصة في معارض عامة عالمية من أجل المنفعة المجتمعية والثقافية العامة.
وكان سلطان بصدد التحضير لجولة من معرضه للأعمال التجريدية عندما أطلعني على بعض تلك الأعمال على شاشة هاتفه المحمول. وقال «شوفي هذي جميلة جدًا لعبدالرحمن السليمان لوحة تجريدية تكعيبية بس واضح فيها شكل اللي يطلعون من المسجد». كانت اللوحة التي رأيتها تصوّر خروج المصلين من المسجد للفنان السعودي عبدالرحمن السليمان.
سلطان القاسمي ولوحة خروج المصلين من المسجد
فن سعودي
نبع شغفي بإنتاج عبدالرحمن السليمان الفني من أماكن عديدة؛ فقد كنت أتوق لرؤية فن يعبّر عن شخص عربي نشأ في المملكة، أول مكان يتكون فيه وعيي وإدراكي العقلي وتتشكل فيه ذاكرتي. كنت أتمنى رؤية فن يمثل تجربتي الإنسانية، فنّ محلي أو عربي أستطيع من خلاله رؤية نفسي وهوياتها المتضاربة، أو حتى رؤية جزء من تاريخي.
فن مختلف عن الفن الأوربي السائد الذي تسلل الى ثقافتنا، فأصبحنا نألفه أكثر من الفن المحلي أو العربي للأسف. كنت أبحث عن فن مختلف يمكن للجميع أن يستمتعوا به.
لا أتحدث هنا عن الفن المستهلك الذي يصور النخلتين والسيف أو دلة القهوة أو خيمة شعر في البادية أو الصقر أو الخيل وما إلى ذلك؛ وإنما الفن المعبر عن الحالة الإنسانية التي ربما قد تأثرت بعوامل نشأة الفنان وحياته الاجتماعية وغيرها من الهويات التي تتداخل وتتقاطع فتجعل الفنان نفسه ونفسه فقط، تجعله قادرًا على إنتاج فن إنساني ذي بصمة خاصة.
أعمال ذاكراتية
وفي حالة السليمان يستقي الفنان أعماله من ذاكرة الطفولة ونضج الشباب، ومن ذكرياته الخاصة وعلاقته بأمه، ومن مواقف حياته التي قد تبدو للبعض مجرد أحداث يومية عابرة غير جديرة بالتوثيق. ويصف عبدالرحمن أعماله بأنها «أعمال ذاكراتية» توثق ومضاتٍ من حياته جعلته ما هو عليه الآن.
كتب فاروق يوسف عن السليمان وفنه:
يرغب السليمان في أن تكون رسومه مصدرًا تنبعث منه أسطورة الأشياء التي خصها بعاطفته. إنها عناصر محيطه الذي هو واحد من أعظم مخترعيه.
ومن أمثلة ذلك لوحة «بناؤو المنزل» التي استوحاها السليمان من مشهد عمّال البناء الذين كان يشرف عليهم مع أبيه أثناء إنشاء منزلهم الجديد، وكذلك لوحته التي رسمها في إحدى شتاءات الأحساء حين صور والدته تنتقي بعض الحبوب بعناية لتحضير الطعام في فناء المنزل. وهناك أيضًا مشهد خروج المصلين من مسجد الحي الذي كان يراه السليمان يوميًا ووثّقه في إحدى أفضل لوحاته وأعتقد برأيي أنها واحدة من أفضل اللوحات التي رسمها فنانو المملكة الحديثين.
وقد بيعت لوحتان من لوحات الفنان في دار سوذبي Sothebys للمزادات بما يقارب مئة وأربعة وثلاثين ألف جنيه استرليني، وهما لوحة «خروج المصلين من المسجد» (وهي معروضة الآن في متحف الشارقة) ولوحة «امرأة جالسة».
استيراد التجارب الفنية
دخلتُ إلى جحر الأرنب وبدأت أبحث عن نشأة الفن السعودي، بداياته ومؤسساته ورواده ومروجوه، والأهم من ذلك عباقرته ومستحدثوه الذين كوّنوا أسلوبهم الفني الخاص دون استلهامٍ أو تأثرٍ صارخٍ بالغرب. صحيح أن استيراد التقنيات الفنية أمرٌ لا مفر منه، ولكن أن يصور الفنان حالةً أو منظرًا لم يعاصره وليس جزءًا من هويته لهو أمرُ غريب وغير مستحب.
امتازت أعمال الفنانين العرب وبالأخص العراقيون والمصريون أمثال عبدالهادي الجزار وسعدي الكعبي بالواقعية الاجتماعية المستقاة من تجربتهم الإنسانية. وتصوّر أعمالهم أحداثًا اجتماعية أو سياسية أو تاريخية عاصروها في حياتهم أو شاهدوها كأفراد ينتمون إلى مجتمع عربي ذي هوية وذاكرة مشتركتين، فنٌّ يعكس قضايا مشتركة بالرغم من الحدود والاختلافات والتباين في الهويات والأنظمة الاجتماعية.
نشأت بمعزلٍ عن الفن التشكيلي المحلي والعالمي، لم أزر يوما متحفًا أو معرضًا فنيًا. كان الفن رفاهية لا تتوفر لأبناء طبقة كادحة لم يبرحوا قريتهم مثلي. وقد اكتشفت وجود مشهد فني محلي ثري كنت جازمةً قبل سنوات عدة بعدم وجوده.
وكنت أعتقد أن الفن السعودي هو فن هواة يقلدون لوحات غربية شهيرة من دون خلق أسلـوب فني فريد يمثل ثقافتهم المحلية. وهنا يقع بعض اللوم عليّ وعلى جهلي، بينما يقع بعضه الآخر على المؤسسات التعليمية والثقافية المحلية لعدم تسليطها الضوء على تاريخ المملكة الفني الثري رغم بداياته المتواضعة في الستينيات.
ورغم الصعوبات آنذاك، إلا أن الفن انبثق بقوة من إمكانات متواضعة ومؤسسات تعليمية حديثة العهد مع بداية التعليم الرسمي الحكومي للفتيات في المملكة مطلع الستينات. وخلال أعوام قليلة، ظهرت أعمال الفنانتين منيرة موصلي وصفية بن زقر في معرض فني بمدرستهما الثانوية.
وحظيت كلتاهما بغرفة عرض خاصة لأعمالهما. ويعود الفضل لهما ولغيرهما -ممن طواهم النسيان أو تركوا الفن لأسباب عدة- في إلهام الفنانين في المملكة لاختيار الفن كمسار تعبيري لحفظ الثقافة المحلية وتصويرها.
كمن يبحث عن شيء
«الكوت هو المكان اللي ضمّني وتشكلت فيه ذاكرتي وكانت فيه طفولتي»
يقول عبدالرحمن السليمان متحدثًا عن الكوت، مسكنه الأول والمكان الذي شعر فيه الفنان بذاته.
كان الكوت ببيوته ومظاهر الحياة اليومية فيه وما تنطوي عليه من محلية وحميمية خاصة من أهم مصادر استلهام السليمان لذاته الفنية. قال لي: «معظمها كانت ذاكرة (مشيرا لأعماله والقصص التي تحملها لوحاته)، تركنا الحسا ونقلنا الدمام واحنا صغار، لكن كنت متعلق كثير بالحسا والبيوت والحي ولعبي مع أولاد عمي. البيئة اللي جيت منها كانت غير عن الدمام، والحارة كانت غير».
واستطرد قائلا: «كنت أرسم كمن يبحث عن شيء، كنت أرسم هنا وهنا وهناك عشان ألاقي نفسي يعني»، المثير للاهتمام في هذه العبارة هو استخدام عبد الرحمن ذاكرتَه لإنتاج فنه، فيرى نفسه بين تكعيبيات اللوحات التي أنتجها. يرى نفسه كذلك في لوحة «خروج المصلين من المسجد» التي كانت في الأصل مشهدًا يوميًا خلال نشأته في الكوت، ويجسّد ذكرى مؤلمة في لوحة «مسحة على رأس يتيم». وقد شرح السليمان هذه اللوحة قائلا «هذا اليتيم هو أنا».
عندما توفيت والدة عبد الرحمن، وكان حينها في العاشرة فقط من عمره، تغيّب عن المدرسة. وحضر المشرف المدرسي إلى منزله في اليوم التالي ليطمئن عليه، فأخبروه بوفاة والدته. وحينها مسح على رأسه، بدت المسحة مختلفة عن غيرها فخلّفت أثرًا في السليمان وحفرت في ذاكرته.
كان موقفًا مهيبًا أن يكشف الفنان عن ضعفه، إذ اقشعر جسدي حينما سمعت السليمان يتحدث عن قصة هذه اللوحة في المجلس الثقافي مع سلطان القاسمي، حيث عبّر عن ذاته وذكرياته كطفل فقد أمه.
الكوت في ذاكرة عبدالرحمن السليمان
لم يكن عبدالرحمن السليمان مجرد فنان يستمد من ذاكرته فنه التكعيبي الفريد حتى قورنت لوحاته وألوانها بلوحات الفرنسي جورج باراك أو بتكعيبيات الأسباني بابلو بيكاسو؛ بل كان ولا يزال فنانًا وموثقًا ومؤرخًا ومصورًا لمعمار الكوت القديم الذي اندثرت معظم آثاره بفعل التمدن والتحديث المستمر للأحساء.
ولم يكن الكوت بدوره مجرد مكانٍ سكنه السليمان، وإنما كان جزءًا لا يتجزأ من كينونته كإنسان وفنان، كان ذاكرته وإلهامه ومكانه، وكان المكان الذي جعله ما هو عليه الآن.
عندما كان السليمان صغيرًا، اشترى «كاميرا بخمسة ريالات و فلاش بريالين» حسب قوله، وشرع بتصوير الأماكن في الإحساء لتوثيقها مثل سوق الخميس وبعض المساجد والبيوت ذات الطراز المعماري التي تفردت به الإحساء، وكذلك بعض أفراد عائلته ومنازلهم.
وكان السليمان يرى الكوت من خلال عدستين: عيناه اللتان تريان هذا المكان بجماله وسحره كأول مكان نشأ وترعرع فيه، وعين العدسة التي كان يرجو من خلالها حفظ المكان راجيًا أن يبقى الكوت بسحره وخصوصيته الفريدة كما ألفه السليمان عندما كان طفلًا. كان الكوت وجدران أزقته أول قطعة قماش رسم عليها السليمان عندما كان صغيرًا.
عبدالرحمن السليمان، ابن الكوت البار والفنان المتفرد، الكاتب والمؤرخ لتاريخ الفن بالمملكة، هذا المقال تحية مني لك كإنسان خدم مجتمعه بكل ما يملك من إمكانيات جعلها في متناول الجميع. دمت فخرًا للوطن ونبراسًا ثقافيًا نعتز بإنجازاته.