ألم الدفع

تختلف عمليات الدفع بين ورقي وبطاقة ائتمانية وأبل باي، والغريب أن سلوكياتنا في الدفع تختلف باختلاف الطريقة.

هل سبق أن ذهبت لأحد محلات القهوة مثلًا وتفاجأت أثناء وقوفك لدفع فاتورة مشترياتك بنسيان محفظتك في السيارة أو البيت؟ لقد حدث معي هذا الموقف المحرج عدة مرات أنسى فيها البطاقة البنكية، حيث لا أستخدم الأوراق النقدية منذ سنين.

في كل مرة يحدث معي هذا الموقف، أتمنى لو كنت أمتلك زرًّا سحريًا أختفي من خلاله عن الأنظار بسرعة فائقة كما يحدث في الأفلام. لكن في المرة الأخيرة التي حدثت معي هذه الحادثة، وقبل أن أنظر في وجوه الناس الواقفين حولي وهم يحدقون بي بشكلٍ غريب ومحرج منتظرين مني إفساح الطريق لهم، اكتشفت في آخر لحظة بأنّ لدي خدمة الدفع أبل باي (Apple Pay) الموجودة في آيفون والمرتبطة إلكترونيًا بحسابي البنكي مباشرة. فدفعت الحساب بسرعة عن طريق هاتفي الذكي، ومضيت أرقب نظر الواقفين حولي بابتسامة النصر.

في المستقبل، سيصبح من الممكن للناس استخدام بصمة العين كذلك في عملية الدفع، لا حاجة حينها إلى الأوراق النقدية أو البطاقة البنكية أو حتى خدمات الدفع عن طريق الهواتف الذكية، لكن السؤال هنا:

هل تختلف سلوكياتنا الشرائية عندما تختلف طريقة الدفع التي نستخدمها؟

في عام 1998، نشر الأكاديميان درازين بريليك (Drazen Prelec) وجورج لوينشتاين (George Loewenstein) في الولايات المتحدة ورقة أكاديمية حظيت بشهرة واسعة. وتدرس الورقة وتبحث فيما سُمّي لاحقًا في التسويق والاقتصاد السلوكي بألم الدفع (The Pain of Paying) الذي يحمل تأثيرًا كبيرًا على عادات الإنفاق الحديثة.

تشرح تلك الورقة كيف أن الناس يشعرون بمشاعر مختلفة عن عمليات الدفع الاعتيادية التي يقومون بها عندما تكون هناك فجوة بين الوقت الذي يتم فيه شراء المنتج وعملية دفع ثمنه، والذي قد يعمل أحيانًا لمصلحة الناس أو ضدهم.

يذكر الباحثان أن بطاقات الائتمان تخفف من وقع الألم الذي يحدث عند عملية الدفع، مما يجعل من المغري التمتع بالسلع أو الخدمات على الفور، وتأجيل الشعور بالألم إلى حين صدور كشف الحساب والمصاريف لاحقًا.

في دراسة نشرت عام 2008 بعنوان «أموال الاحتكار» (Monopoly Money)، قال الأكاديميون:

لا يتأثر ألم الدفع فقط بالتوقيت بين عملية الدفع والاستهلاك، بل أيضًا بطريقة عملية الدفع المستخدمة

في دراسة أخرى نُشِرت في مجلة أبحاث المستهلك عام 2010، فُحِصت سجلات عمليات الدفع الفعلية من مصرف أحد متاجر التجزئة الكبيرة، ووُجِد أن الذين يستخدمون البطاقة الائتمانية أو بطاقات السحب الآلي لدفع المشتريات يميلون إلى الإنفاق باندفاع أكثر، مقارنةً مع أولئك الذين يستخدمون الأوراق النقدية في عمليات الدفع.

كانت أحد الجوانب المثيرة للاهتمام في هذه الدراسة أن أولئك الذين ثبت أنهم كانوا أكثر سيطرة على إنفاقهم في الماضي، أصبحوا أكثر عرضة لزيادة الإنفاق عند استخدام بطاقات الائتمان أو بطاقة السحب الآلي. ويشير ذلك إلى أن آثار الحد من ألم الدفع تصل حتى إلى أولئك الذين يحرصون على إنفاقهم ويراقبون مصروفاتهم عن كثب.

تختلف حدّة هذا الألم باختلاف طريقة الدفع

عندما يدفع المستخدمون ثمن المنتج أو الخدمة عن طريق الأوراق النقدية، فإنّهم يمرّون بعدد أقلّ من المشاعر مقارنةً مع الدّفع بالبطاقة البنكية. بعبارةٍ أخرى، استخدام الناس للبطاقة البنكية يجعلهم يستمتعون بالمنتج استمتاعًا أكبر دون التفكير في عدد الأوراق النقدية التي صرفوها وقدموها للمحاسب، ثم أخذوا ما تبقى منها.

عندما تدفع بالأوراق النقدية، تخسر شيئًا قيمته معلومة عندك، وتأخذ شيئًا آخر قيمته الفعلية ليست معلومة عندك. ولأنك تخلّيت عن شيء مضمون وهو المال النقدي الملموس (Cash)، مقابل شيء آخر غير مضمون القيمة وهو السلعة أو الخدمة، تشعر نفسيًا بهذا الألم: ألم الدفع.

حالة البطاقة البنكية

تختلف حدّة هذا الألم باختلاف طريقة الدفع. ففي حالة البطاقة البنكية، الشيء الذي خسرته في حسابك البنكي ليس متاحًا أمام عينك، فالبطاقة ما زالت موجودة معك. بينما في حالة الأوراق النقدية، فورقة المائة ريال التي كانت في محفظتك مثلًا قد اختفت أو تقلصت أمام عينيك. وعندما تذهب لشراء سلعةً ما بقيمة 55 ريالًا وتصرف مالًا من المحفظة ثم تعدّه وتعطيه للمحاسب، فأنت ترى وتشعر بعملية الدفع أكثر مما لو دفعت بالبطاقة البنكية.

هذا الأمر النفسي مرتبط ارتباطًا كبيرًا في الذاكرة، فليست كل الذكريات الموجودة في دماغك تؤثر على تصرفاتك بنفس الطريقة. تختلف بعض الذكريات عن غيرها، ثمة ذكريات دائمًا ما تكون حيّة وبارزة وحاضرة في دماغك لا تستطيع تجاهلها أو التخلص منها بسهولة، وثمة ذكريات أخرى موجودة لكنها ليست حاضرة على الدوام حيث تستطيع في كل مرة تجاهلها وعدم التفكير بها.

ما الذي يجعل ذكرى معينة أكثر بروزًا لديك؟

الجواب: أن يكون هناك أمر ينبهك ويذكرك بها دائمًا. وفي الأوراق النقدية لديك هذا الأمر الذي يذكرك بفقدان جزء من المال، أي حجم المحفظة الذي يتقلص في كل مرة، والعدد القليل من الأوراق النقدية التي تراها تختفي مرة بعد أخرى. عندما تهمُّ بشراء سلعة مختلفة في نفس اليوم، في كلتا الحالتين، ستتذكر أنك خسرت شيئًا معيّنًا، لكن تستطيع في حالة البطاقة البنكية تجاهل هذه الذكرى أو تأجيلها، أو التخلّص من صورتها المسيطرة على مقدمة دماغك مؤقّتًا.

الأمر الذي لا يقل أهمية هو الطريقة التي نحدد بها قيمة الخدمات أو المنتجات التي نشتريها، والقيمة في أي شيء تتكون من أمرين رئيسيين هما الفائدة على التكلفة، فإما أن تزيد الفائدة لأجل زيادة القيمة، أو أن تقلّل التكلفة.

في حالة الدفع بالأوراق النقدية، أنت تركز على التكلفة وتتجاهل الفائدة، وهنا تقل قيمة الأشياء التي تدفع لها بالأوراق النقدية. أما في حالة الدفع بالبطاقة البنكية، فأنت لا ترى الشيء الذي خسرته، أي أنّك لا ترى التكلفة بوضوح، ولذلك تركز على الفوائد. وفي هذه الحالة تنتبه إلى قيمة وفائدة ما اشتريت، فيزداد مستوى رضاك عن الأشياء التي تدفع لها بالبطاقة البنكية. ومن ثم تزداد رغبتك في استخدامها في عمليات الشراء كل مرة بدلًا من الأوراق النقدية، وتصرف بهذا أموالًا أكثر!

ولتوضيح الأثر والبعد النفسي لكل ذلك

تخيل معي أنك ذهبت إلى مطعم شهير يقدم بيتزا لذيذة، ولديه أحد العروض التي تبدو جيدة، لكن طريقة التسعير في هذا العرض مختلفة ومبتكرة. وتظهر الطريقة في المثال: سيعطيك البائع قطع البيتزا التي تطلبها، وتختارها بنفسك لتأكلها داخل المطعم، وسيأخذ منك 50 هللة على كل قضمة تقضمها كل مرة وأنت تأكل البيتزا. ولن يحاسبك إلا على عدد القضمات التي تأكلها فقط، بحيث لو تبقى شيء من قطع البيتزا فلن تُسجَّل في الفاتورة.

سيقف البائع بجانب الطاولة ويراقبك ليسجل في دفتر صغير عدد القضمات التي أكلتها من قطعة البيتزا، في نهاية الوجبة سيأخذ البائع ما تبقى من البيتزا، ثم يخبرك بعدد القضمات كي تدفع الحساب.

ربما قضمت 20 قضمة مثًلا، 20 قضمة في 50 هللة = 10 ريالات! سعر زهيد جدًا لوجبة بيتزا لذيذة من مطعم يرتاده كثير من الناس. لكن هل هي لذيذة بالفعل؟ وكيف كانت متعة الأكل والتجربة عمومًا؟

يبدو أنها كانت سيئة قليلًا، حيث لم تكن تشعر بلذتها الحقيقية من عدمها أثناء الأكل، لأن عقلك كان مشغولًا بعدد القضمات، وربما فكرت في كل مرة بأن هذه آخر قضمة تأكلها حتى لا ترتفع قيمة الفاتورة. وحتى لو كبَّرت القضمة لتأكل كمية أكبر وتدفع أقل، ستكون تجربة بائسة، لأنك لن تستمتع بالأكل كما ينبغي، وستظلُّ تفكر في عدد القضمات والسعر النهائي الذي ستحصل عليه. والنتيجة: ستدفع قليلًا فعلًا، لكن استمتاعك سينخفضُ أيضًا!

في النهاية

قد لا يهتمُّ بعض المسوّقين وأصحاب المتاجر بمعرفة النظريات التي تفسر سبب استخدام العملاء للبطاقة البنكية أكثر من غيرها في عمليات الشراء، حيث إن جل اهتمامهم أن يدفع المستهلك عمومًا. وسبب عدم اهتمامهم بذلك هو أنهم ينظرون لأنفسهم على أنهم أهل تجارة وأصحاب متاجر وليسوا أكاديميين في الجامعة.

الفرق بين التاجر والأكاديمي أن الأول يسعى لجمع الأموال والثاني يدرّس ذلك في الجامعات. فالتجار الذين يجمعون الأموال يهمهم معرفة أن نقطة (أ) تقود لنقطة (ب)، ونقطة (ب) لا تقود لنقطة (ج) بل إلى نقطة (د).

حساب سداد من وزارة النقد في السعودية على سبيل المثال لا يعمل كما ينبغي، ولذا فإن المستهلكين السعوديين يجدون صعوبة في استخدامه. ولا يأبه كثيرون بذلك ولا تهمهم معرفة الأسباب وراء عدم عمل النظام بشكل جيد، هم يعرفون ذلك فحسب.

لكن وعي التاجر بالأسباب النفسية ومحاولة فهم سلوك المستهلك و ما قد يشعر به – يجعله يتنبأ بالفرص التي لا تأتي بدورها إلا عندما يفهم السوق وخبايا الأمور بعمق أكثر من السابق. وهذا بطبيعة الحال يساعده على معرفة عملائه ورغباتهم جيّدًا، مما يزيد من فرصة التوسع وجلب عملاء آخرين.

في المستقبل، ستأتي أجيال لا تتعامل بالأوراق النقدية إطلاقًا، وسيكون هذا المقال غريبًا تمامًا، بل ربما يتساءل أغلبهم عن الجنون الذي كنت أتحدث به هنا. لذلك إن كنت تقرأ هذا الموضوع من المستقبل، سواءً كنت في مركبتك الفضائية أو متنزهًا بين النجوم، يمكنك أن تغلق المقالة بهدوء، أتفهم ذلك. 😁

الاقتصادالعميلالمجتمعالمستقبلالرأسمالية
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية