السعودية والنرويج ما بين الثراء النفطي والضبط المجتمعي
في هذا المقال تلقي الكاتبة إيمان الحسين الضوء على التشابه الكبير بين السعودية و النرويج على صعيد التغيير المجتمعي ما بعد عصر النفط.
زُرت النرويج لأول مرة عام 2013 استجابةً لدعوة من مركز الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية في جامعة أوسلو الذي نظم حلقة نقاش عن التغيرات المحلية والإقليمية في المملكة العربية السعودية. حينها لم أكن أعرف الكثير عن النرويج غير أنها دولة مسالمة تكثر فيها الثلوج، واستطاعت أن تستغل ثرواتها النفطية لامتلاك أكبر صندوق سيادي في العالم.
بعد انتهاء حلقة النقاش، اصطحبني المنظمون لتناول العشاء في منطقة أكربريقه (Aker Brygge) التي تعد منطقة سياحية تحمل بصمات العصر النفطي أو (الطفرة) في مفهومنا الخليجي. تقع المنطقة على المارينا وتضم عددًا من المطاعم والمقاهي المطلة على البحر وبعض العمائر السكنية الجديدة، لكنها بدت في ذلك الوقت منطقة صغيرة تختلف عن محيطها التقليدي البسيط.
تركَت النرويج في ذهني عدة انطباعات وأسئلة متفرقة، ولم أفهم غياب المباني العالية (ما عدا فندق راديسون ساس الذي يبدو وكأنه شُيِّد خارج منظومة المكان) ولا البساطة في كل شي، من الفنادق والمطاعم إلى لباس الناس وسلوكهم. كما كان هناك هدوء يخيم على الشوارع والبشر وأعطى إحساسًا بالراحة، ولكنه كان في الوقت نفسه غريبًا وغير مألوف. وعلى أي حال، لم أحاول فهم المدينة لقِصر الزيارة.
العودة إلى النرويج
عدت مجددًا عام 2018، لا للسياحة ولكن للاستقرار في العاصمة أوسلو. ولا يعني الاستقرار في مكان جديد تقبل ثقافته فقط، بل محاولة فهمها. خصوصًا وأن التشابه بين المملكة والنرويج من حيث بساطة الحياة قبل اكتشاف النفط، والاختلاف من حيث استهلاك عائداته -حيث يعد تصدير النفط الخام أكبر صادرات البلدين- أصبحا محل اهتمام ومقارنة مستمرة بين الثقافتين.
ولم يكن هذا التشابه في ذهني أنا فقط، فكل من أتحدث معه هنا يربط العنصر النفطي بين البلدين. فكيف استهلك النرويجيون النفط؟ ولماذا استمرت بساطة الحياة على الرغم من اكتشافه؟ وكيف ساهمت الثقافة النرويجية والتماثل الاجتماعي في كبح لجام الاستهلاك والعزوف عن استنزاف موارده؟
إدارة الثروة النفطية
اكتُشف النفط في النرويج بعد السعودية بثلاثة عقود (1969)، بعد أربع سنوات من التنقيب المستمر في بحر الشمال. وكان لتأخر اكتشاف النفط منفعة للنرويج لتتعلم من تجارب غيرها -خصوصًا الهولنديين- أن الاعتماد على النفط يسبب الخمول الإنتاجي، ويؤثر سلبًا على ازدهار النمو الاقتصادي. وقد ساعدها أيضًا عالم الجيولوجيا العراقي فاروق القاسم الذي انتقل من البصرة للعيش في النرويج قبل اكتشاف النفط بسنة.
أدَّى القاسم دورًا محوريًّا في تهيئة النرويجيين للثروة النفطية وإدارة مواردها، حيث وضع استراتيجية واضحة لتجنب «المرض الهولندي». كما دفع الحكومة النرويجية إلى زيادة معدلات الاستخراج، فساهم ذلك في زيادة عائداتها ومن ثم ازدياد حجم صندوق الادخار.
دولة الرفاه بين ثقافتين
تتشابه السعودية والنرويج إلى حدٍّ ما في توفير متطلبات الرفاه، مع اختلاف تطبيق نظرية دولة الرفاه لاختلافهما السياسي والاقتصادي. ففي النرويج، تتجلى دولة الرفاه في الصحة والتعليم، حيث يَدفع المواطن والمقيم مبلغًا رمزيًّا لزيارة الطبيب ويُصرف الدواء بلا مقابل لذوي الأمراض المزمنة. وكذلك هو الحال في القطاع التعليمي من مرحلة الحضانة إلى الجامعة، في حين يُصرف راتب شهري لطلاب مرحلة الدكتوراه خلال فترة الدراسة.
عائدات النفط في السعودية تعود للدولة لصرفها على جميع القطاعات الحكومية وتوفير الخدمات للمواطنين
ولكن يختلف البلدان في طريقة توفير هذه الخدمات، حيث إن عائدات النفط في السعودية تعود للدولة لصرفها على جميع القطاعات الحكومية وتوفير الخدمات للمواطنين. ولذلك تُصنَّف السعودية وغيرها من دول الخليج على أنها دول ريعية، لاستغنائها عن الحاجة إلى فرض الضرائب والاكتفاء بصرف عائدات النفط حتى وقت قريب.
أما في النرويج، فتذهب عائدات النفط لصندوق الاستثمار السيادي الذي يعد أكبر صندوق سيادي في العالم، لتُستثمَر على الفور في الخارج. في حين تُموَّل دولة الرفاه وتوفير الخدمات للمواطنين والمقيمين على حد سواء من خلال الضرائب والرسوم، حيث تُعَد الضرائب في النرويج الأعلى في العالم.
حماية الاقتصاد النرويجي
لم يكن الهدف من إنشاء الصندوق السيادي مقتصرًا على حماية الاقتصاد النرويجي من تقلبات أسعار النفط، بل الادخار للأجيال المقبلة حتى تستفيد هي أيضًا من الثروة النفطية. ففي حين اختارت أكثر الدول التي اكتشفت النفط استهلاك موارده اليوم والتفكير في المستقبل لاحقًا، قررت النرويج القيام بعكس ذلك. كما وضعت سياسات واضحة عن كيفية تغذية رأس المال في الاقتصاد النرويجي من خلال القرارات السياسية المتعلقة بالميزانية، فلا يحق للحكومة الاستعانة بأكثر من 3% من فائدة الصندوق في ميزانيتها السنوية.
ولذلك يتفق النرويجيون مع حكومتهم، فلا يتذمرون من دفع الضرائب العالية والرسوم مع أن القيمة السوقية للصندوق تبلغ اليوم تريليون دولار، وهي كفيلة بجعل كل فرد من سكانها -البالغ تعدادهم خمسة ملايين- مليونيرًا. كما ساهم وجود سياق ثقافي في النرويج يضع المصلحة العامة قبل مصلحة الفرد – في ضبط المجتمع من خلال معايير اجتماعية تحفز على التماثل والبساطة.
التماثل الاجتماعي والخصوصية السعودية
عادة ما يُستخدَم مفهوما الجماعية والفردانية لفهم السياق الثقافي والاجتماعي الذي قد يدفع الفرد نحو تعزيز مصالحة الشخصية، أو يقيدها من خلال العادات والتقاليد والأعراف السائدة. ففي السعودية مثلًا، رَسَخ لسنوات مفهوم «الخصوصية السعودية» الذي وقف عائقًا أمام الانفتاح الاجتماعي والثقافي، ولكن سرعان ما طوى التاريخ صفحة الخصوصية مع الانفتاح السريع الذي شهدته البلاد، ليسجل ذلك الفراغ إرباكًا اجتماعيًّا بعد خروج البعض عن المعايير والتقاليد المعهودة في البلاد.
أدى هذا إلى صياغة قانون الذوق العام ليملأ الفراغ ويوجِد توازنًا ويرسخ ملامح الهوية السعودية في ظل المتغيرات السريعة، ليكون وسيلةً للضبط والتنظيم المجتمعي.
في المقابل، يُنظر إلى الدول الغربية عادةً على أنها دول تعزز الفردانية لإتاحتها حرية أكبر للفرد في ممارسة رغباته. ولسببٍ ما، اعتقدتُ أن الدول الإسكندنافية قد تكون أكثر الدول الأوربية تشددًا في نزعتها الفردانية، إلا أنني تفاجأت من وجود سياق اجتماعي وثقافي سائد غير معلن يحكم المجتمعات الإسكندنافية، حيث يدفع المجتمع أفراده -ولو بشكل خفي- إلى التماثل الاجتماعي.
قد يلحظ الزائر هذا في زيارته الأولى كما لاحظته أنا، فثمة شيء يوحي بنوع من الانسجام في التصرفات والشكل والحالة الاجتماعية، فلا فقر في الشارع ولا استعراض لثراء فاحش.
قانون يانته
يرجع هذا التماثل الاجتماعي إلى قانون يانته (Janteloven)، وهو في الواقع ليس قانونًا مشرعًا من الحكومة وتلزمه قوى الأمن، بل على العكس من ذلك. فمن المفارقات أن مَن وضع قانون يانته لم يكن سوى الروائي النرويجي الدنماركي الأصل أكسِل سانديموسه (Aksel Sandemose) في رواية «الهارب يعبر مساره» (En flyktning krysser sitt spor) التي نشرت عام 1933.
تعد الرواية الساخرة نوعًا من أنواع الأدب التشبيهي (roman à clef)، لاستخدام سانديموسه أسماء مستعارة لأشخاص حقيقيين من مدينة نيكوبينق (Nykøbing) مسقط رأس الكاتب، مع تغيير اسم المدينة إلى يانته. ويعيش في يانته أناس يمقتون الاختلاف ويجبرون الجميع على التماثل الاجتماعي من خلال قوانين المدينة العشرة التي من ضمنها:
لا أحد أفضل من أحد، ولا أحد يعرف أكثر من أحد، ولا أحد يضحك على أحد، ولا يعتقد أحد أنه مهم أو مميز أكثر من غيره…
وضع سانديموسه هذه القوانين ليعكس من خلالها المعايير الاجتماعية التي امتعض منها خلال فترة حياته في مدينة نيكوبينق، ولكن الرواية جعلت الكثير من الإسكندنافيين يجدون أن هذه القوانين لا تنطبق فقط على مدينة يانته المتخيلة، بل إنها شائعة في كل المدن وخصوصًا القرى الإسكندنافية.
ويرى البعض أن النرويج قد تكون الأكثر تمسكًا في هذا السياق الثقافي، حيث ساهم مشروع بناء الدولة النرويجية وتحررها من الحكم الدنماركي والسويدي الذي استمر لأكثر من 500 سنة في تأصيل هذه القيم في مرحلة بناء الدولة وترسيخ مفاهيم دولة الرفاه.
ثقافة الضبط المجتمعي
تكاد ثقافة التماثل الاجتماعي تكون أهم ما يميز الثقافة النرويجية، ولذلك تجدها حولك وتؤثر حتى على السلوك السياسي والاقتصادي. كما يرسخ أدب الطفل النرويجي هذه القيم، فتجدها في كل مؤلفات الكاتب النرويجي الشهير توربيورن ايقنير (Thorbjørn Egner)، حيث يشدد على مواضيع التضامن الاجتماعي والامتثال ويتغاضى عن الفردانية والاختلاف.
كما يحفز النظام التعليمي في المناهج الدراسية هذه القيم. والهدف من ضخ هذا المفهوم تفكيك مصادر التوتر في المجتمع، والتشديد على أهمية المسؤولية المجتمعية التي تقع على عاتق كل فرد. فالفردانية بمفهومها الحديث لا تعكس القيم النرويجية التي تسعى لبناء مجتمع منسجم يرتكز على مصلحة الجماعة.
إن قيم قانون يانته التي تعزز المساواة هي أساس دولة الرفاه النرويجية، حيث يُضبَط المجتمع من خلال منظومة اقتصادية واجتماعية تجعل من بعض النرويجيين مساهمين، وبعضهم الآخر مستفيدين وهم الطلبة والعاطلون والمرضى وذوو الاحتياجات الخاصة وجميع الأطفال تحت سن الثامنة عشر.
لذلك ومن خلال محاولتي لفهم الثقافة النرويجية، وجدت أن القرارات الاقتصادية والادخار الهائل في صندوق النفط لم يكن نتيجة سياسات حكيمة فحسب، بل هي ثقافة نرويجية تجدها في كل بيت وتهيمن على ذهن كل نرويجي من خلال نفقاته.
نقد التماثل النرويجي
يعتز النرويجيون بالبساطة وهي جزء من ثقافتهم، فلا يخجلون منها بل يسترجعونها سنويًا من خلال الانتقال إلى منازلهم الريفية الخشبية البسيطة على ساحل البلاد في فترة الإجازة السنوية، حيث يمثل المنزل الصيفي البسيط جزءًا من الهوية الوطنية النرويجية.
ومع ذلك فلا أحاول هنا أن أدعي أن الثقافة النرويجية أفضل من سائرها، فقد يكون هذا النسق الثقافي الذي رسخ التواضع ميزة يُحسَد عليها النرويجيون، ولكن الضغط المجتمعي للتماثل قد يكون حاجزًا بين النرويجيين وغيرهم من المهاجرين والمقيمين الذين قد يخالفون هذه القواعد يوميًّا بلا دراية.
كما أن محاولة الحفاظ على صورة البساطة قد تدفع البعض إلى المسايرة الاجتماعية المبالغ فيها، فمن الطبيعي مثلًا أن يشتري بعض النرويجيين سيارة جديدة ويطلبون من الشركة المصنعة عدم وضع اسم الفئة، حتى لا يعرف الناس أنهم اشتروا سيارة جديدة أو بميزات أعلى.
ولذلك ينتقد البعض هذا التماثل لأنهم يرون أنه يقف عائقًا أمام الابتكار والخروج عن المألوف. كما يحاول البعض من جيل الشباب التمرد عليه، ولكنه يظل المهيمن على السلوك الثقافي النرويجي.
النفط بين ثقافتي الإنفاق والادخار
عندما أعاود النظر في عائلتي التي عايشت الفقر قبل الثروة النفطية، أجد أن الإنفاق في البدء كان ردة فعل طبيعية ولكنها ترسخت واستأصلت بسبب تأثير الدولة الريعية، وأصبح الإنفاق لاحقًا نوعًا من أنواع الترفيه إلى يومنا هذا.
وقد تكون ثقافة التخزين ردة فعل جماعية أو سلوك ثقافي للنجاة، فأتذكر ثلاجات التمر في منزلنا التي خصصتها أمي لتجميد التمور وتبريدها التي يبقى الكثير منها فائضًا للسنة المقبلة، فتهرع لتفريغ الثلاجات حين يأتي محصول التمر الجديد.
ولكن ما مدى استدامة هذه الثقافة في ظل المتغيرات الاقتصادية التي تجعلنا اليوم في حاجة ملحة إلى مراجعة أسلوب حياتنا؟ وهل يمكننا أن نتعلم من النرويج شيئًا من هذه البساطة؟