لماذا تلجأ الحكومات إلى الاقتراض من صندوق النقد؟
أثارت الأزمات الاقتصادية الناتجة عن جائحة فيروس كورونا الجدل مرة أخرى حول صندوق النقد الدولي والتبعات الاقتصادية والاجتماعية لقروضه المشروطة...
أثارت الأزمات الاقتصادية الناتجة عن جائحة فيروس كورونا الجدل مرة أخرى حول صندوق النقد الدولي والتبعات الاقتصادية والاجتماعية لقروضه المشروطة. وانعكس هذا الجدل جليًا على سياسات بعض الدول العربية، ففي الوقت الذي أنهت الحكومة المصرية ترتيبات الحصول على قرض لمساعدتها في تخفيف آثار الأزمة الاقتصادية، رفض الرئيس الجزائري الجديد الاقتراض من صندوق النقد بحجة حماية السيادة الوطنية.
وفي لبنان الذي يواجه وضعًا اقتصاديًا كارثيًّا، بدأت الحكومة المفاوضات مع صندوق النقد وقدمت خطة إنقاذ اقتصادي أملًا في الحصول على تمويل عاجل. إلا أن هذه الخطوة واجهت معارضة شديدة، حيث أعلن اتحاد النقابات العمالية رفضه لخطط الاقتراض من الصندوق، ووصفه بالمستعمر الذي يسعى لوضع يده على موارد لبنان.
ليست هذه الريبة من دور صندوق النقد جديدة، فقد بدأت منذ أن بدأ الصندوق في التوسع في الإقراض للدول «النامية» في بداية الستينيات الميلادية. إلا أنه ومنذ أواخر التسعينيات، وتحديدًا عقب الأزمة المالية التي اجتاحت شرق آسيا عام 1997، تزايدت حدة الانتقادات الموجهة لبرامج صندوق النقد.
نقد الصندوق
من اللافت للنظر أن هذه الانتقادات لم تعد محصورة على أصحاب التوجهات اليسارية الراديكالية التي ترفض اقتصاد السوق من حيث المبدأ، بل باتت تصدُر من اقتصاديين بارزين من أنصار السوق الحرة. ففي مقالة نشرتها صحيفة فاينانشال تايمز عام 1997، انتقد جيفري ساكس أستاذ الاقتصاد في جامعة كولومبيا السلطة المفرطة التي يملكها الصندوق والسرية التي تشوب المفاوضات والاتفاقيات مع الدول المقترضة، والتي تمكن عددًا محدودًا من الاقتصاديين القابعين في واشنطن تقرير سياسات تمس حياة الملايين من البشر.
وانتقد جوزيف ستيقلتز، الأستاذ بجامعة كولومبيا والحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، في كتابه المنشور عام 2002 سياسات صندوق النقد وبرامجه، كونها تقوم على أسس نظرية متناقضة أسماها «أصولية السوق» (Market Fundamentalism)، حيث يرى ستيقلتز أن الصندوق يؤمن بكفاءة اقتصاد السوق ويروج له، إلا أنه يبرر سياساته وشروطه بضرورة تصحيح الاختلالات الناتجة عن فشل آليات السوق.
ويزعم ستيقلتز أن سياسات صندوق النقد التي فرضها على الدول المتأثرة بالأزمة المالية الآسيوية أعطت أولوية لمصالح أسواق المال العالمية على حساب شعوب تلك الدول. حيث اشترط البنك تخفيض الإنفاق الحكومي وزيادة الضرائب من أجل أن تتمكن الحكومات من تسديد مستحقات مؤسسات التمويل العالمية.
وبطبيعة الحال، كانت انتقادات اليسار أكثر حدة، حيث يرى المفكر الاقتصادي المصري سمير أمين أن برامج صندوق النقد عبارة عن استعمار جديد لدول الجنوب العالمي. كما يرى البعض الآخر أن المؤسسات المالية العالمية، مثل البنك الدولي وصندوق النقد، مجرد أدوات للسياسة الأميركية التوسعية، أو مجرد وسيلة لتفكيك برامج الحماية الاجتماعية التي تشكل خط الدفاع الأخير الذي يحمي الطبقة الوسطى من الفقر.
صندوق النقد يدافع عن نفسه
لم يقف الصندوق صامتًا تجاه كل هذه الانتقادات. ففي مقال نشر عام 2003، دافع كينيث روقوف، أستاذ الاقتصاد بجامعة هارفارد الذي كان حينها رئيسًا لقسم الأبحاث بصندوق النقد، عن برامج الصندوق وسياساته. حيث رفض الزعم القائل إن الصندوق يفرض السياسات التقشفية على الدول المقترضة، فالدول التي تواجه أزمات اقتصادية حادة ولا تجد مَن يقرضها ستضطر في جميع الأحوال إلى تخفيض الإنفاق الحكومي، سواء اقترضت من الصندوق أم لم تقترض.
فمثلًا في عام 1986 رفضت الحكومة النيجيرية الاقتراض من صندوق النقد بسبب معارضة قطاعات واسعة من الشعب، لكن ذلك لم يمنعها من تطبيق سياسات تقشفية لا تختلف كثيرًا عن تلك التي يفرضها الصندوق. وبالإضافة إلى ذلك، يرى روقوف أن قروض الصندوق تساهم في تخفيف وطأة الأزمة الاقتصادية، حيث ستضطر الحكومات إلى فرض سياسات تقشفية أكثر قسوة دون التمويل الذي يقدمه الصندوق.
كما يبرر أن سياسة صندوق النقد، التي تلزم الدول المقترضة بتسديد مديونياتها لمؤسسات التمويل العالمية قبل الحصول على قرض الصندوق، تنجح عادة في إقناع الدائنين بتقليص مقدار الدين أو تأجيل سداده. وهو بذلك يساعد الدول النامية على حساب مصالح الدائنين.
كما يعترف مسؤولو الصندوق في بعض الأحيان بوجود أخطاء شابت تصميم برامجهم أو تطبيقها، إلا أنهم يؤكدون سعيهم الدائم لمراجعة سياساتهم وتطويرها. فعلى سبيل المثال في عام 2012 صرحت كريستين لاقارد، مديرة صندوق النقد حينها، أن الصندوق لم يعد كما كان سابقًا، حيث أصبح يولي اهتمامًا خاصًّا بالفقراء. والسؤال المطروح هنا هو ما مدى صحة آراء الناقدين؟
هل نقبل الحجج؟
ثمة عدة أسباب تدعونا للتريث قبل قبول حجج منتقدي صندوق النقد. فكثير من هذه الحجج بُني على تجارب عدد محدود من الدول، خصوصًا تلك التي لاقت تغطية إعلامية واسعة بسبب شدة الأزمة الاقتصادية، أو بسبب الأضرار الفادحة التي قادت إليها برامج الصندوق.
وعلى الرغم من أهمية هذه الحالات، فإنها لا تمثل إلا نسبة ضئيلة من تجارب الدول التي خضعت لشروط صندوق النقد والتي تجاوزت المائة والخمسين دولة. فهل هذه التجارب الفاشلة حالات استثنائية؟ وهل جانَب المنتقدون الإنصاف بانتقائهم التجارب الفاشلة وتجاهلهم قصص النجاح؟
من الصعب تحديد آثار برامج صندوق النقد بدقة، وذلك لكثرة العوامل التي تؤثر على أداء الاقتصاد وصعوبة تحديد تأثير كل عامل على حدة. وتزداد صعوبة هذا الأمر لأن الدول التي تلجأ للاقتراض من صندوق النقد تعاني من مشاكل واختلالات اقتصادية مسبقة، وما نلحظه من آثار سلبية قد لا يكون بالضرورة نتيجة لبرامج الصندوق.
إضافة إلى ذلك، تفترض كثير من الانتقادات أن الدول تلتزم بالفعل بشروط الصندوق، وأن الآثار السلبية التي تعاني منها الدول هي آثار السياسات التي فرضها الصندوق. وفي الحقيقة، لا تلتزم كثير من الدول بتلك الشروط، حيث تطبق السياسات المتفق عليها بشكل جزئي، أو تنسحب بشكل كامل من الاتفاق وتخسر ما تبقى من التمويل. وعادة ما يدافع صندوق النقد عن نفسه بحجة أن برامجه لم تظهر آثارها المرجوة، وذلك لأن الحكومات طبقتها بشكل جزئي أو سطحي لم يؤدِّ لإصلاح جذور الخلل.
القروض المشروطة
قبل مناقشة آثار برامج صندوق النقد، لنبدأ بطرح سؤال جوهري: لماذا يشترط الصندوق تطبيق سياسات محددة على الدول المقترضة؟
تلجأ الدول إلى صندوق النقد عندما تواجه أزمة اقتصادية حادة تجعلها بحاجة ماسة إلى الاقتراض، وتحديدًا عندما تعاني من اختلال في ميزان المدفوعات وانخفاض في احتياطي النقد الأجنبي، مما يحد من قدرتها على سداد الديون ودفع تكاليف الواردات.
يسعى صندوق النقد لتصحيح هذه المشاكل عبر سياسات عديدة تهدف لخفض الطلب المحلي على السلع المستوردة. فمن وجهة نظر الصندوق، سبب اختلال ميزان المدفوعات الأساسي هو الإفراط في استهلاك السلع المستوردة.
سياسات صندوق النقد
تشمل السياسات التي يشترطها الصندوق تقليص الإنفاق الحكومي وزيادة الضرائب، كما قد تتضمن رفع معدل الفائدة وتعويم العملة المحلية أو تخفيض قيمتها، حيث يؤدي تخفيض قيمة العملة المحلية إلى رفع تكلفة الاستيراد وخفض قيمة الصادرات. وهو ما يساعد -وفقًا لصندوق النقد- في تصحيح اختلال ميزان المدفوعات وتحفيز الصادرات، ويزيد من قدرة الدولة على تحصيل العملات الأجنبية.
ومنذ التسعينيات الميلادية أصبحت شروط صندوق النقد أكثر تفصيلًا وتطلبًا. فبات الصندوق يشترط تطبيق سياسات موسعة كالخصخصة وإزالة القيود الحكومية على نشاط السوق وحركة رؤوس الأموال، وتحرير الأسعار عبر إلغاء دعم السلع الاستهلاكية والتعريفات الجمركية ودعم الصادرات.
كما قد يشترط الصندوق تغييرات هيكلية تطال أنظمة المعاشات التقاعدية وسياسات العمل والعمال. وتفترض هذه السياسات أن آليات السوق الحرة أكثر فعالية من غيرها في تحقيق النمو الاقتصادي، وأن تدخل الدولة في الاقتصاد غالبًا ما يُنتج اختلالات تعيق النمو.
ويقدم البنك القرض على شكل دفعات تحصل عليها الدولة بعد تطبيق حزمة من السياسات المتفق عليها. ويتساءل البعض عن جدوى المشروطية التي يصر عليها الصندوق. أليس من الأفضل أن يترك الصندوق الأمر للدول المقترضة كي تقرر كيفية تطبيق هذه السياسات وتوقيتها؟
تهديد الخطر الأخلاقي
يرى مسؤولو الصندوق أن مشروطية القروض ضرورية لأنها تمنع حدوث ما يطلق عليه الاقتصاديون «الخطر الأخلاقي» (Moral Hazard). حيث يخشى الصندوق أن يشجع وجوده وسهولة اللجوء إليه وقت الأزمات الاقتصادية بعض الحكومات على اتباع سياسات اقتصادية غير سليمة بشكل متكرر، ثم الهرع إلى صندوق النقد طلبًا للمساعدة.
ومع أن أغلب قروض الصندوق مشروطة، إلا أن بعضها غير مشروط على الإطلاق، خصوصًا عندما يقتنع صندوق النقد أن الأزمة الاقتصادية التي تواجه بلدًا ما ليست نتيجة سياسات خاطئة، بل لظروف خارجة عن قدرة أصحاب القرار الاقتصادي. فعلى سبيل المثال، قد يقدم صندوق النقد قرضًا غير مشروط لدولة مصدِّرة للنفط تواجه أزمة مالية بسبب انخفاض مفاجئ لأسعار النفط.
آثار برامج الصندوق
إذا قبلنا جدلًا بمنطق صندوق النقد وتبريره لضرورة المشروطية، وشاركناه إيمانه بالسوق الحرة، وافترضنا أيضًا صحة تشخيصه لأسباب الاختلالات الاقتصادية التي تعاني منها الدول المقترضة، يبقى السؤال الأهم عن تأثير السياسات التي يفرضها الصندوق. هل تحقق هذه السياسات النتائج المرجوة التي يبشر بها صندوق النقد؟
يختصر لنا جيمس فيرلاند، أستاذ السياسة والعلاقات الدولية بجامعة برينستون، في كتابه المنشور عام 2007 نتائج عشرات الدراسات الإحصائية التي سعت لفهم تأثيرات برامج صندوق النقد على اقتصاديات الدول النامية. وما يميز هذه الدراسات تحليلها لتجارب أكثر من 150 دولة ولفترة زمنية تمتد لما يقارب الثلاثين سنة، وهي بذلك تتجنب الانتقائية التي بُنِيت عليها حجج بعض النقاد التي أشرنا لها سابقًا، كما تحاول عزل آثار المشاكل الاقتصادية المسبقة عن تبعات برامج صندوق النقد.
وبشكل عام، خلصت هذه الدراسات إلى دعم حجج منتقدي صندوق النقد على الرغم من تقديمها بعض الأدلة على نجاحات محدودة لبرامج الصندوق. ووجد فيرلاند أن نتائج أغلب الدراسات تشير إلى أن برامج صندوق النقد تساهم في إصلاح مشاكل ميزان المدفوعات، وتساعد على خفض عجز الموازنة، إلا أن قدرتها على كبح التضخم محدودة.
تأثير الصندوق على معدلات النمو
أما هدف أنصار الصندوق الأسمى وهو تحقيق النمو الاقتصادي، فقد وجدت دراسات مبكرة أن برامج صندوق النقد لها تأثير سلبي على النمو في المدى القصير، لكنها تؤتي أكلها على المدى الطويل وتقود إلى معدلات نمو اقتصادي عالية.
وطالما اُستخدِمت هذه الحجة للدفاع عن صندوق النقد وسياساته. إلا أن عدة دراسات لاحقة، من ضمنها دراسة فيرلاند، وجدت أن برامج الصندوق ساهمت في خفض معدلات النمو الاقتصادي حتى على المدى الطويل. كما وجدت دراسة أخرى ركزت على دول أميركا اللاتينية أن برامج الصندوق أضرت بالنمو الاقتصادي، بالتحديد في الدول التي أكملت تطبيق الاتفاقيات بنجاح.
أما فيما يتعلق بالآثار الاجتماعية لبرامج الصندوق، فالدلائل أكثر قطعية: وفقًا لڤيرلاند، فإن جميع الدراسات توصلت إلى أن برامج صندوق النقد تزيد من الفجوة بين دخول الأغنياء والفقراء.
لماذا تلجأ الحكومات إلى صندوق النقد؟
هل يحق لنا الآن لوم صندوق النقد واعتباره سببًا رئيسًا لمختلف أوجه الخلل الاقتصادي التي تعاني منها الدول النامية، كضعف النمو وزيادة الفجوة بين الفقراء والأغنياء؟ ربما. لكننا بذلك نتجاهل المحددات السياسية الداخلية لمشاكل التنمية الاقتصادية.
ذكرنا أن الحكومات تلجأ إلى الاقتراض من الصندوق عندما تواجه أزمة اقتصادية حادة. إلا أن مجرد النظر إلى الدوافع الاقتصادية مضلل، فقرار الاقتراض من صندوق النقد قرار سياسي في المقام الأول. ووفقًا لنتائج دراسات فيرلاند وغيره من مختصي العلوم السياسية، فإن كثيرًا من الحكومات تلجأ إلى صندوق النقد رغبةً في المشروطية التي تفرض عليها سياسات اقتصادية معينة.
لِمَ تفعل الحكومات ذلك؟ ثمة عدة أسباب، أهمها -وفقًا لفيرلاند- هو رغبتها في استخدام شروط الصندوق لتمرير سياسات غير شعبية كانت تسعى لتطبيقها قبل الاقتراض، كزيادة الضرائب أو رفع الدعم عن السلع الاستهلاكية، إلا أنها تواجه مقاومة داخلية من الأحزاب المعارضة أو نقابات العمال، أو بسبب خشيتها خسارة الانتخابات المقبلة.
وتشير نتائج دراسة فيرلاند إلى أن الحكومات التي تواجه معارضة داخلية لسياسات إعادة الهيكلة الاقتصادية تلجأ إلى الاقتراض من صندوق النقد أكثر من غيرها. حيث يساعد وعد صندوق النقد بالتمويل في تقوية موقف الحكومة أمام معارضي سياساتها، خصوصًا أن الاتفاق مع الصندوق يتم مع الحكومة ولا يحتاج إلى تصديق البرلمان. كما قد يكون لِلجوء إلى صندوق النقد ثم التراجع ثمن مكلف، فالحصول على تمويل الصندوق يزيد من ثقة المستثمرين والمُقرضين، وقد تتلاشى هذه الثقة في حال فشل الحكومة في إتمام القرض.
دور السياسات الحكومية
على الرغم من وفرة الدلائل على أن برامج الصندوق لا تنجح عادةً في تحقيق أهدافها وتؤدي إلى تفاقم التفاوت الاقتصادي، فإن هذا لا يعني أن اللوم كله يقع على صندوق النقد. فلدى أغلب الدول المقترضة القدرة على اختيار أوجه تخفيض الإنفاق بشكل يضمن حماية الفقراء، وقد تمكنت بعض الدول من زيادة إنفاقها على الصحة والتعليم، بينما اختارت دول أخرى حماية مصالح النخب الاقتصادية على حساب الفئات الأكثر فقرًا.
ومع أن التشكيك في سياسات صندوق النقد وإيمانه المطلق بالسوق الحرة له ما يبرره، إلا أن اللوم المفرط للصندوق وبرامجه يغفل دور السياسات الحكومية وتأثير المصالح السياسية الداخلية التي لا تقل أهمية عن تأثير الصندوق وبرامجه.