لاهوت التحرير: إنجيل الفقراء في أميركا اللاتينية
في الأول من مارس من هذا العام (2020) العاصف بحروبه ونزاعاته وأوبئته، توفي الشاعر والكاهن والسياسي إرنستو كاردينال وعمره 95 عامًا، ويُعد من أشهر وجوه...
في الأول من مارس من هذا العام (2020) العاصف بحروبه ونزاعاته وأوبئته، توفي الشاعر والكاهن والسياسي إرنستو كاردينال وعمره 95 عامًا، ويُعد من أشهر وجوه الثورة الساندينية التي أطاحت -في سبعينيات القرن العشرين- بحكم الأسرة السوموزية في نيكاراقوا التي ظلت تحكم البلاد لمدة أربعين عامًا.
أبرز وجوه لاهوت التحرير
بعد نجاح الثورة الساندينية تولى كاردينال مسؤولية وزارة الثقافة بعد تردد طويل، حيث قاد حملة كبيرة لمحو الأميّة ونشر الثقافة في بلده التي كانت تعاني من ظروف بائسة، قبل أن يعتزل لاحقًا العمل السياسي بسبب تحفظه على ممارسات رفيقه السابق الرئيس اليساري دانييل أورتيقا.
ويعد إرنستو كاردينال أبرز وجوه «لاهوت التحرير»؛ ذاك التيار الثوري الذي خرج من الكنيسة الكاثوليكية واندمج في المجال السياسي والأنشطة الثورية ضد حكومات أنظمة استبدادية في القارة اللاتينية، وقد ظلَّ كاردينال -كسائر مجموعته- منبوذًا من الفاتيكان بسبب تحفظ المؤسسة الكنسية الرسمية على خط تيار لاهوت التحرير، واندماج بعض أفرادها في النشاط السياسي.
وقبل زيارة مقرّرة للبابا يوحنا بولس الثاني إلى نيكاراقوا عام 1983، طالب البابا علنًا بأن يستقيل الأب كاردينال وأربعة كهنة آخرين ممن دعموا الثورة من مناصبهم الحكومية. وحينما قدم البابا للبلد اللاتينية وأثناء الاستقبال، ظهر الأب كاردينال بين قساوسة آخرين يرتدون ملابس رجال الدين، وهو يرتدي قميصًا أبيض وبنطالًا وقبعة سوداء فوق شعره الأبيض الكثيف.
وعندما انحنى لتقبيل يد البابا، سحب البابا يده ولوّح بإصبعه نحوه وهو يتحدّث إليه بصرامة، واشتهرت هذه الصورة. وآنذاك ذكرت وكالة الأسوشيتد برس للأنباء أن البابا قال للأب كاردينال: «عليك أن تصحّح موقفك مع الكنيسة».
نشأة لاهوت التحرير
في كتابه الهام «لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية» يتحدث الأب وليم اليسوعي (أحد رجال الدين المصريين النابهين والمهتمين بتأسيس لاهوت تحرير عربي) عن أن لاهوت التحرير ظهر رسميًا في أواخر ستينيات القرن العشرين، تحديدًا مع المؤتمر الكنسي الثاني لأساقفة أميركا اللاتينية بمدينة مِدِلين بكولومبيا عام 1968، حيث أصدر الأساقفة في هذا المؤتمر وثيقة تؤكد على حقوق الفقراء، وتقول إن الدول الصناعية الكبرى قد اغتنت على حساب دول العالم الثالث.
وفي المؤتمر أيضًا أعلن آباء لاهوت التحرير عن أن شعوب أميركا اللاتينية تعيش في سجن كبير تحت عبودية النظم العسكرية التي تحكم البلاد، ولذا فإن ثمة ضرورة لتحرير هذه الشعوب من هذا السجن، وبدأت في هذا المؤتمر أيضًا الدعوة لـما سمي بـ«إنجيل الفقراء»، وقد كتب النص الأساسي لهذه الحركة رجل الدين الكاثوليكي قوستافو قوتيريز عام 1971.
لاهوت التحرير ظهر رسميًا في أواخر ستينيات القرن العشرين، تحديدًا مع المؤتمر الكنسي الثاني لأساقفة أميركا اللاتينية بمدينة مِدِلين بكولومبيا عام 1968، حيث أصدر الأساقفة في هذا المؤتمر وثيقة تؤكد على حقوق الفقراء، وتقول إن الدول الصناعية الكبرى قد اغتنت على حساب دول العالم الثالث
عدّ رجال لاهوت التحرير أن مهمتهم الأساسية -بصفتهم رجال دين- تكمن في وصل ما انقطع من مهمة الأنبياء الذين ناضلوا لتحرير الفقراء والمهمشين، ورفضوا الوثنية في معناها الأبرز وهو توثين الملوك والمستبدين ورفعهم إلى مكانة الرب.
قراءة الإنجيل قراءة ثورية
تبنى لاهوت التحرير خطابًا ينادي بتكسير العلاقة القوية التقليدية بين مؤسسات الحكم واستخدامها للسلطة الدينية لتكريس أوضاع سياسية واقتصادية سيئة، وهو الخط الذي امتد في التاريخ المسيحي منذ اللحظة التي أعلن فيها قسطنطين تعميد نفسه بعد أن رأى بفطنته أفول عهد الوثنية وهيمنة المسيحية إن عاجلًا أو آجلًا، فأحب أن يكون التغيير بيده لا بيد عمرو، وبعدها طور قسطنطين علاقة المؤسسة الكنسية بالدولة وسلطتها بحيث جعلها في النهاية خادمة لرأس الإمبراطورية.
ونادوا بأن تكون مهمة رجل الدين في مجتمعه كمهمة النبي موسى الذي استطاع أن ينجي قومه من بطش وظلم الفرعون، والمسيح حينما وقف أمام ظلم الرومان
أعادت مجموعة لاهوت التحرير قراءة الإنجيل قراءة ثورية، ونادوا بأن تكون مهمة رجل الدين في مجتمعه كمهمة النبي موسى الذي استطاع أن ينجي قومه من بطش وظلم الفرعون، والمسيح حينما وقف أمام ظلم الرومان، وعدوا تحرير الإنسان-أيًا يكن لون هذا الإنسان ودينه وعِرقه- المحور الذي يجب أن تدور حوله الخدمة الكنسية الحقة.
كما استلهم تيار لاهوت التحرير في هدفهم النهائي وأجندة تحركهم مقولة المسيح: «روح الرب عليَّ، لأنه مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأشفي منكسري القلوب، لأنادي للمأسورين بالإطلاق، وللعُمي بالبصر، وأُرسل المنسحقين إلى الحرية».
بهذا الشكل وُجد في الفضاء الاجتماعي والديني اللاتيني خطابان دينيان متناقضان؛ خطاب ديني تقليدي يدعم السلطة وتوجهاتها وتتبناه المؤسسة الدينية الرسمية، وخطاب آخر في أقصى يسار المؤسسة يقدم قراءة جديدة للمسيحية ويحاول من خلالها رفع المعاناة عن المواطن المأزوم اقتصاديًا واجتماعيَّا.
ثورة إصلاحية
عد البعض تيار لاهوت التحرير ثورةً داخل الفكر الديني المسيحي تشبه إلى حد كبير الثورة الإصلاحية التي قادها إصلاحيون بارزون في القرن السادس عشر، والحقيقة أن ثمة سمات مشتركة بين تيار لاهوت التحرير الخارج من الكنيسة الكاثوليكية وجناح داخل حركة الإصلاح البروتستانتي، وتحديدًا جناح هولدريخ زوينقلي الذي قاد دعوة الإصلاح الديني في سويسرا وتزامنت دعوته مع دعوة مارتن لوثر، وزوينقلي تحديدًا لأن مارتن لوثر ركّز في دعوته الإصلاحية على مراجعاتٍ في صلب العقيدة المسيحية، وإعادة النظر في ممارسات لاهوتية رجعية كرستها الكنيسة الكاثوليكية، ورفض أن يأخذ المطالب لأبعاد أخرى اجتماعية، وكان موقفه محافظًا للغاية من ثورات الفلاحين ضد النبلاء والإقطاعيين.
وقد استفاد من حركة مارتن لوثر طبقة النبلاء الذين كانوا يريدون تقليص دور الكنيسة السياسي، والهيمنة على جزء من الأراضي الواسعة التي كانت تحوزها في غالب أراضي الدول الأوربية، فيما انطلق زْوينقلي الذي كان صاحب نزعة إنسانية أكثر من لوثر في طرحه لأبعاد اقتصادية واجتماعية وسياسية أوسع، فدعّم ثورات الفلاحين في أوربا التي ربطت بين الاتجاه الفكري والعقائدي الجديد وظروفهم الاقتصادية والاجتماعية السيئة، والتي نادت بإلغاء رقيق الأرض، وتحديد إيجار للأراضي، وتقويض التبعية الكاملة للسيد الإقطاعي، وحق كل جماعة في تعيين القساوسة في الكنائس.
الماركسية ولاهوت التحرير
كان تأثير الماركسية على خطاب آباء لاهوت التحرير واضحًا بسبب التأثر بموجة المد اليساري في الستينيات والسبعينيات، وبسبب قيام ثورات كانت تقودها حركات معارضة ماركسية ذات شعبية جماهيرية كبيرة، وقادتها قيادات يسارية مثلت لاحقًا أيقونات لثورات التغيير (تشي قيفارا نموذجًا)، إضافة للتراث والتجربة الكبيرة للحركة النقابية اللاتينية التي تبنت توجهات يسارية بشكل مبكر للغاية، كما أن التيارات السياسية اليسارية التي وصلت لاحقًا للسلطة تعود جذورها لهيئات نقابية عمالية ومجالس أحياء لفئات مجتمعية واسعة تضررت من السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تبنتها حكومات يمينية.
إن المعاناة الدينية هي في آن، تعبير عن معاناة واقعية من جهة، واحتجاج على المعاناة الواقعية من جهة أخرى. الدين هو زفرة المخلوق المضطهد، قلب عالم دون قلب، وهو روح ظروف دون روح
تتقارب فكرة لاهوت التحرير للدين في كونه أداة هامة للتعبئة والحشد مع الرؤية الماركسية للدين ذي الطبيعة المزدوجة التي عبر عنها ماركس في «نقد فلسفة الحق عند هيقل» حين قال: «إن المعاناة الدينية هي في آن، تعبير عن معاناة واقعية من جهة، واحتجاج على المعاناة الواقعية من جهة أخرى.
الدين هو زفرة المخلوق المضطهد، قلب عالم دون قلب، وهو روح ظروف دون روح». كما تتضح الطبيعة المزدوجة للدين عند إنقلز الذي يؤكد على دوره «الاحتجاجي، وحتى الثوري أحياناً في إطار بعض الشروط التاريخية»، ويعبر عنه في نقده لبرونوباور قائلًا: «فالإيمان المسيحي قبل أن يأخذ شكل عقيدة ومؤسسة محافظة في يد السلطة ابتداء من عهد قسطنطين كان احتجاجاً. وكانت الجماعات المسيحية الأولى تحلم برؤيا يوحنا وهدم السلطان الروماني».
الفلسفة الجديدة للاهوت التحرير
ثم يعود بنا إلى إنقلز في مقال «إسهام في تاريخ المسيحية الأولى» حين يؤكد على التحولات التاريخية التي مرت بالمسيحية فيقول: «إن تاريخ المسيحية الأولى يقدم نقطة التقاء ملفتة للنظر مع الحركة العمالية المعاصرة. فالمسيحية في بدايتها كانت تشبه الحركة العمالية من حيث كونها حركة المضطهدين والشعوب المستعبدة التي اضطهدتها روما».
كما أن صلب الفلسفة الجديدة للاهوت التحرير انطلق بالأساس من فكرة الجماعية على حساب الفردية، حيث ركزوا على دور رجل الدين بصفته خادمًا للمجموعة وعدّوا ذلك أهم من حراسة العقيدة، وأعادوا النظرة لمسألة الخلاص الشخصي وعدّوه أنانية مفرطة، بل ومعاكسة لما أتى به المسيح الذي ضحى بنفسه من أجل إنقاذ البشرية، ومن ثم فلا بد أن يكون الخلاص جماعيًا ومتحققًا بتناغم جماعي بين البشر للتحرر من كل أشكال القهر السياسي والاجتماعي.
في تصور لاهوت التحرير، المسيح هو النجار الفقير المنتمي للطبقة العاملة، وهو الناقم على السماسرة والتجار الجشعين الذين حولوا هيكل الرب إلى مجمع تجاري كبير تُعقَد فيه الصفقات الرابحة، وهو المنتمي والمتحيز للطبقات المهمشة الفقيرة.
إن الحماية التي تتلقاها الكنيسة من الطبقة الاجتماعية المستفيدة من الوضع القائم، تتلقاها بصفتها مدافعة عن المجتمع الرأسمالي المسيطر في أميركا الجنوبية، وهذا يجعل الكنيسة الرسمية نفسها جزءًا من النظام القائم
نقد الرأسمالية
لقد وجه آباء لاهوت التحرير نقدًا شديدًا للرأسمالية، وربطوا الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في بلدانهم بالسياسات التي اتخذتها حكومات بلدانهم في ذلك الحين، كما انتقدوا التهميش الاجتماعي وبؤس الطبقات الأكثر فقرًا، وينقل الأب وليم اليسوعي في كتابه «كلام في الدين والسياسة» عن قوستافو قوتيريز قوله: «إن الحماية التي تتلقاها الكنيسة من الطبقة الاجتماعية المستفيدة من الوضع القائم، تتلقاها بصفتها مدافعة عن المجتمع الرأسمالي المسيطر في أميركا الجنوبية، وهذا يجعل الكنيسة الرسمية نفسها جزءًا من النظام القائم، وبناء على ذلك أصبحت الرسالة المسيحية مجرد عنصر من عناصر الأيديولوجية المسيطرة».
لم يأخذ تيار لاهوت التحرير موقفًا حادًا من مسألة عدم الإيمان، لكنه اتخذ موقفًا متشددًا من مسألة الوثنية والصنمية، بمعنى توثين الحاكم ورفعه لمرتبة إله وعبادته من دون الرب والخوف منه وطاعته، وصنم الرأسمالية التي أصبح عبادها يدورون حولها في لهاث دائم. وهنا يقول أنطونيو اسكلارين: «إنّ الصنميّة، التي تَظنُّ أنّها إيمان أسوأُ من الإلحاد».
لقد قدَّم آباء لاهوت التحرير أدبيات عدّوا فيها الرأسمالية شكلًا من أشكال الوثنية الجديدة، فصدرت دراسات من بينها عناوين مثل «نضال الأرباب: أوثان القهر والبحث عن الإله المحرِّر» و«وثنية السوق: أبحاث في الاقتصاد واللاهوت» وكلها كتابات كانت تتضّمن نقدًا لاهوتيًّا معمّقًا للرأسماليّة لكونها «دينًا زائفًا»، كما قدموا نقدًا للمحافظين الجدد في الولايات المتّحدة ولحديثهم عن «مسيحيّة السوق» وكذلك للبنك الدولي، وقد مثلت هذه الكتابات «قطيعة جذريّة مع التراث المحافظ والرجعيّ للكنيسة» والتقريب الشديد بين رؤية الكنيسة والرؤى الماركسيّة.
تكمن النقطة المشتركة أيضًا بين الماركسية ولاهوت التحرير في النظرة المنطقية الناقدة بحدة لمسألة العمل الاجتماعي ومساعدة الفقراء من وجهة نظر ليبرالية بخلق مسارات داعمة، وتعويض الفقراء من مال الأغنياء بالتبرعات والهبات التي تغسل الأغنياء من عبء المسؤولية، وتوفر لهم خلاصًا روحيًّا ووجاهة اجتماعية، وربما أيضًا تخلصًا من عبء الضرائب عبر تقديم سندات التبرعات للمؤسسات الضريبية، ثم الفوز في الجنة بمقاعد آسرة بسبب الهبات التي أُعطيت للمساكين.
الثورة والتغيير
وقد التزم لاهوت التحرير في خطابه وممارساته بمسألة الفعل الاجتماعي (الثورة والتغيير) بشكل أكبر من الخدمة الاجتماعية (جمع التبرعات والهبات من الأغنياء وتوزيع جزء منها على الفقراء، وتوزيع الملابس وإطعام المحتاجين ومد يد العون للمعوزين).
وكان مؤسسو الحركة يدركون أن الوقوف الحقيقي مع المهمشين يعني بالضرورة خلق الوعي الكافي لديهم بتحقيق حريتهم، وبأن لهم في أموال الأغنياء حقًا أكبر من الصدقات والهبات بكثير، وبأن الحل يمكن في تعليم متساوٍ للجميع، وفي حقوق الملكية وأدوات الإنتاج، وكسر الهوة بين الأغنياء والفقراء، وكبح نهب ثروات البلاد عبر المستثمرين الأجانب تحت حماية الأنظمة الحاكمة.
كما كان هناك فارق تميزت به حركة لاهوت التحرير عن الجماعات الدينية الأخرى التي انخرطت في العمل السياسي، فهي من ناحية لم تقدم أيديولوجيا بديلة مغايرة للاشتراكية أو الليبرالية، ولم تطرح مشروعًا سياسيًا دينيًا، بل اعتمدت في تفسيرها وخطابها في الأغلب على تحليلات ماركسية بالأساس في نقدها للأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
الخلاص الإنساني
وبتعبير الأب وليم سيدهم اليسوعي فالدين -وفقًا لحركة لاهوت التحرير- يشير إلى مستقبل مطلق غائبي خارج الأرض، وخارج الحياة الحالية، وهو مستقبل مختلف عن المستقبل الذي تبشر به الأيديولوجيا التي لا تعترف بوجود مستقبل أخروي، ومشغولة بما تعده تحسينًا جذريًّا للنظام الاجتماعي السياسي على الأرض، والدين -عند لاهوت التحرير- حينما يحاول تجسيد «المستقبل المطلق» على الأرض لا مفر أمامه سوى استخدام الهياكل والاستراتيجيات والمؤسسات الاجتماعية التي توفرها له الأيديولوجيات الدنيوية في أرض الواقع الذي يعيش ويتحرك فيه، ولذا فطرح لاهوت التحرير هنا لا يتناقض مع العلمانية.
والنقطة الأخرى التي ميّزت خطاب ومشروع لاهوت التحرير هي تعاليه وتجاوزه لفكرة الفرد والمجتمع المسيحي، والتركيز على فكرة الخلاص الإنساني وبناء المجتمع البشري العادل، حيث رأى تيار لاهوت التحرير أن المسيح لم يأت ليخلص الإنسان من الخطيئة الفردية فحسب، وإنما أتى ليخلص الإنسان من ظلم الإنسان أيًّا كان لونه وعرقه ودينه، بل وتخليصه من الخطيئة الاجتماعية المتمثلة في الاستغلال والظلم والقهر، وبذلك يمكن الوصول لمرحلة الأخوة الإنسانية القائمة على الإيمان المشترك بين الجميع.
الكهنة الثائرون
كان من أهم رموز تيار لاهوت التحرير الأب كاميلو توريس الذي أعاد صياغة مفهوم الحب المسيحي ليحوله من شعور فردي عاطفي إلى عملية اجتماعية تتضمن معاني الزهد والتضحية والتعاطف مع الضعفاء والفقراء والمحتاجين، وقد أسس توريس «دار الشبيبة» مركزًا للشباب المسيحيين لينخرطوا في الخدمة الاجتماعية في الأحياء الفقيرة وليتعلموا مبادئ لاهوت التحرير.
وبعد مقتله عام 1966، تحول توريس إلى رمز هام لحركة لاهوت التحرير، كما أصبح أيقونة لنصرة الفقراء في كولومبيا وأميركا اللاتينية.
في خطاب لكاميلو توريس يظهر فيه مدى ثوريته الشديدة فيقول: «إنني أمارس كهنوتي من خلال عمل الثورة الكولومبية، وأول هدف للثورة يجب أن يكون انتزاع الطبقة الشعبية للسلطة، وسنواجه مشاكل مع الولايات المتحدة لأن البرجوازية الكولومبية مرتبطة جدًا بالمصالح الأميركية، يجب أن نسأل الأوليقارشية (الأقلية الحاكمة) كيف ستسلم السلطة. إذا كانت ستسلمها بطريقة سلمية، فأظن أننا سنأخذها بطريقة سلمية، لكن إن كانت الأوليقارشية لن تسلم السلطة إلا بالعنف، إذن فسنأخذها بالعنف».
وكانت من أهم كلمات روميرو التي صارت أحد التعبيرات الخالدة للاهوت التحرير: «إن الإيمان الذي يكتفي بحضور قدّاس الأحد، و يرضى بالظلم طوال الأسبوع لا يقبله الله»
المخلص الحقيقي
ومن أهم رموز حركة اللاهوت أيضًا أوسكار روميرو كبير الأساقفة في السلفادور الذي عارض سياسات نظام الجنرال كارلوس العسكري، قبل أن يُغتال وهو يلقي عظة في كنيسة صغيرة. وكانت من أهم كلمات روميرو التي صارت أحد التعبيرات الخالدة للاهوت التحرير: «إن الإيمان الذي يكتفي بحضور قدّاس الأحد، و يرضى بالظلم طوال الأسبوع لا يقبله الله». ومن أقواله أيضًا: «الخطيئة الحقيقية هي الظلم وعدم العدالة في توزيع الثروات»، كما عدّ روميرو الدين المخلص الحقيقي للفقراء من الاستغلال والقهر.
في كتابه «لا أحد يتعلم من التاريخ» يحكي مؤلفه بيشوي القمص أن أوسكار روميرو لم يكن معروفًا بأي اتجاهات معارضة ضد النظام العسكري السلفادوري الذي كان يقوده الجنرال كارلوس هومبرتو، وإنما تركزت كل أنشطته في دعم الفقراء والمعوزين بالأساس، لكن توليه لمنصب الأسقفية في العاصمة سانتاياقو غير من شخصيته تمامًا، حيث شاهد عن كثب معاناة الفقراء، واستيلاء رجال أغلب النظام على موارد الدولة، وتزايد عنف الحكومة ضد الكهنة النشطاء اجتماعيًّا.
ثم كانت القشة التي قصمت ظهر البعير والتي ألحقته بالصف الأول للمعارضة ضد النظام العسكري حين اُغتيلت مجموعة من الكهنة أسماهم النظام بـ«الكهنة الحُمر» من بينهم صديقه الأب روتيليو قراندي.
وعلى مدى الأشهر التي تلت اغتيال صديقه، شن روميرو هجومًا عنيفًا على السلطة العسكرية، معارضًا الممارسات القمعية، والإعدامات والتعذيب والاختطاف، والمجازر المروعة بحق المعارضة التي كانت تنفذها ميليشيا تابعة للجنرال كارلوس وللجيش وتسمى بـ«فرق الموت»، وزادت شعبية الرجل بشكل كبير خصوصًا مع وصول كلماته عبر الراديو من خلال إذاعة «إيساكس الأسقفية» إلى جميع أنحاء السلفادور وأميركا اللاتينية.
وفي فبراير من عام 1980 وقبل اغتياله بشهر واحد تقريبًا، أرسل روميرو رسالة للرئيس الأميركي جيمي كارتر دعاه فيها إلى أن توقف بلده المساعدات العسكرية لنظام كارلوس، وقال له فيها: «لقد سئمنا الأسلحة والرصاص».
الشهيد
كان أوسكار روميرو يدرك أن بداية الأمر وانتهاءه في واشنطن، وليأسه من فداحة الأوضاع في بلده كان عليه أن يخاطب من بيدهم الأمر هناك في البيت الأبيض، رغبة منه في أن يتركوا بلاده وشأنها. و
كان الجنرال كارلوس لا يختلف كثيرًا عن قرينه الجنرال أناستاسيو سوموزا الذي حكمت أسرته نيكاراقوا لأكثر من أربعين عامًا بدعم من الولايات المتحدة الأميركية، والذي كان الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت يقول عنه: «إنه ابن كلبة، ولكنه -على أي حال- ابن كلبتنا، لذلك نراه نافعًا»، وهي المقولة التي جسدت العلاقة التي كانت تربط الولايات المتحدة بالأقلية التي كانت تحكم أغلب بلدان أميركا اللاتينية في تلك الفترة.
قبل موت أوسكار روميرو مباشرة لجأ إليه ما يزيد عن مائة جندي يطلبون العون والنصح منه، قائلين إنهم يُؤمرون بقتل أعضاء في أحزاب معارضة، بينهم أشقاء لهم.
حينها قام المطران بإلقاء آخر خطبة له قال فيها: «لا يجب أن يُجبَر أي جندي على فعل أمر يناقض أوامر الله، لتستمعوا إلى ضميركم، وما يقوله لكم عوضًا عن تلبية أوامر لا ترضي الله، باسم الرب أرجوكم وآمركم أن تُوقفوا القمع».
لم يستطع حكم الجنرال كارلوس تحمل أوسكار روميرو طويلًا، فاغتالته ميليشياته وهو يؤدي صلاة القداس في كنيسة صغيرة تابعة لمستشفى السرطان في الرابع والعشرين من مارس من عام 1980.
وبعد مرور أكثر من 35 عامًا على مقتله وفي الخامس والعشرين من مايو 2015، أعلن البابا فرانسيس (المنتمي للقارة اللاتينية) تطويب المطران السلفادوري أوسكار روميرو ودعاه بـ«الشهيد»، وهو الإعلان الذي يفتح الباب لاحقًا لإعلان روميرو قديسًا، بعدما تأخر إعلانه شهيدًا لسنوات طويلة بسبب الجدل الذي أحدثته آراؤه السياسية والاجتماعية.
صور الغلاف من فليكر