الأزمات المحتملة في اقتصاد الخليج
لم يكن اقتصاد دول الخليج مستداما في آخر ستين سنة، وفي ظل الأزمات التي تفتك بالعالم، ماهي الأزمات المحتملة في اقتصاد الخليج؟
في المقال السابق قدمنا نظرة سريعة لأهم خصائص اقتصاديات دول الخليج العربية. وسؤالنا الآن: ما هي طبيعة الأزمات والهزات التي قد يكون معرضًا لها هذا النوع من الاقتصاد؟ وما هي أهم نقاط الضعف والمشاكل التي قد يواجهها خلال هذه الأزمات، خصوصًا إذا كانت مشابهة لتلك التي نواجهها حاليًا مع كورونا؟ بطبيعة الحال ما قد يكون أمرًا حميدًا لاقتصاد معين قد يسبب مشكلة وجودية لغيره. وفيما يلي سنركز على ما قد تبينه هذه الأزمات حول خطورة عدم استدامة نمط النمو الاقتصادي الذي برز في الخليج على مدى الستين سنة الماضية.
وتبرز مخاطر عدم استدامة نمط النمو هذا في أكثر من مفصل، ولنا أن نتفحص دورة المال التي ناقشناها في المقال السابق كي تتبين لنا نقاط التماس والتناقض الممكنة في هذه الدورة، فبالإمكان أن تتطور أزمة ما في أي من الخطوات السابقة وتضع إمكانية تواصل الدورة ككل في خطر إن تبلورت على أرض الواقع. وإذا أخذنا الخطوة (1أ)، وهي أساس ما يدخل دول الخليج من إيرادات النفط، فقد تسبب هذه الخطوة أزمة إن تدنت إيرادات النفط بشكل كبير. وقد يكون ذلك نظرًا لهبوط سعر النفط في العالم بسبب انخفاض الطلب عليه (لزيادة عدد السيارات الكهربائية مثلًا)، أو نظرًا لهبوط تكلفة إنتاجه (كما يحصل منذ عام 2017 مع انخفاض تكلفة إنتاج النفط عبر عملية تكسير النفط الصخري (shale oil fracking))، أو نظرًا لزيادة إنتاج النفط في العالم (كما يحصل حاليًا). وقد تكون هذه أول وأهم نقطة تماس في دورة المال في الخليج؛ دون إيرادات النفط، ما من شك في أن دورة الاقتصاد الحالية ستنهار. وإذا نظرنا إلى كمية إيرادات النفط نسبة إلى عدد مواطني دول المجلس، فإن نسبة الإيرادات لكل مواطن تتقلب مع أسعار النفط، كما أن معدلها يهبط تدريجيًا على مر الزمن نظرًا لارتفاع أعداد المواطنين بشكل متواصل، ناهيك عن الارتفاع في أعداد الوافدين.
إيرادات النفط بالأسعار الثابتة لعام 2015 مقسومة على أعداد المواطنين على مر الزمن
قد تتبلور هذه الأزمة عبر زيادة العجز والدين العام، وارتفاع سعر الفائدة على القروض للدولة، أو حتى عدم وجود مقرضين للدولة وبدء رؤوس الأموال بالخروج من الاقتصاد المحلي، كما حصل لليونان في نفس الفترة
في الخطوة (2أ) نقطة تماس أخرى، حيث قد تتزايد إنفاقات الدولة لدرجة تفوق إيراداتها. وعلى الرغم من أن المحللين كانوا يرون ذلك من سابع المستحيلات خلال طفرة السبعينيات، فإن هذه أضحت حالة عانت منها كل دول الخليج في الثمانينيات والتسعينيات نظرًا لتضخم المصروفات وقلة الإيرادات، كما دخلتها كل دول الخليج مرة أخرى مؤخرًا وبلا استثناء منذ عام 2015، وهذه أيضًا ستسبب ضغطًا على إمكانية تواصل نمط نمو الإنتاج إن استمرت لفترة من الزمن، بما أن إنفاق الدولة يلعب دورًا محوريًا في نمط النمو. وقد تتبلور هذه الأزمة عبر زيادة العجز والدين العام، وارتفاع سعر الفائدة على القروض للدولة، أو حتى عدم وجود مقرضين للدولة وبدء رؤوس الأموال بالخروج من الاقتصاد المحلي، كما حصل لليونان في نفس الفترة.
الخطوة 3 أيضًا يمكن أن تصبح مصدرًا للأزمات التي قد تتشكل في عدة تجليات. أولها في العلاقة بين الدولة والمواطنين، إذ إن عدد المواطنين الذين يعانون من البطالة قد يزداد مع تضاؤل قدرة الدولة على توظيفهم في القطاع العام، وقد ينخفض مستوى المعيشة لدى المواطنين مع تقلص الريع النفطي الذي تحوله الدولة لهم. وقد بدأت بوادر هاتين الظاهرتين بالظهور بنسب متفاوتة في دول الخليج، إذ اتخذت كل دول الخليج خطوات تقشفية شملت رفع سعر الطاقة والمياه والمحروقات وحتى تخفيض علاوات الرواتب في خضم الأزمة النفطية منذ عام 2016، كما بدأت نسب البطالة بالارتفاع بين صفوف المواطنين منذ تسعينيات القرن الماضي.
قد تتطور الأزمة إن واصلت الشركات الخاصة المحلية رفض توظيف المواطنين أو التحايل على ذلك عبر التوظيف الوهمي، والاستمرار في الاعتمادية المطلقة على العمال الوافدين
ثمة نقطة تماس محتملة أخرى في العلاقة بين رأس المال والعمل، إذ إنه في خضم الصعوبات الاقتصادية، تدفع الدولة بالمواطنين إلى أن يعملوا في القطاع الخاص، وأن يقبل القطاع الخاص بتوظيفهم. وقد تتطور الأزمة إن واصلت الشركات الخاصة المحلية رفض توظيف المواطنين أو التحايل على ذلك عبر التوظيف الوهمي، والاستمرار في الاعتمادية المطلقة على العمال الوافدين. وفي المقابل قد يرفض المواطنون العمل في القطاع الخاص في ظل الحقوق والرواتب المتدنية في هذا القطاع، مما يفاقم من مشكلة البطالة. وقد تكون هناك نقطة تماس أخرى محتملة تتمثل في أن يطالب العمال الوافدون بحقوقهم بشكل أكثر تنظيمًا، حيث برزت عدة مطالبات في خضم الأزمة النفطية الأخيرة بين صفوف العمال الوافدين المطالبين بحقوقهم، بالإضافة إلى تزايد المطالبات من المنظمات الحقوقية العالمية في هذا المجال.
وأخيرًا وليس آخرًا، فقد تنشب أزمة أيضًا في الخطوة 4، إذ قد تزيد الأموال التي تخرج من الاقتصاد على تلك التي تدخل إليه، إما عبر زيادة الواردات المطردة، أو هروب النقد ورؤوس الأموال إلى الخارج، أو ارتفاع تحويلات العمالة الوافدة، وكل هذه قد تضغط على الحساب الجاري وعلى مخزون الدولة من العملة الصعبة في ظل انخفاض أسعار النفط. وقد دخلت البحرين وعمان هذه المرحلة في عام 2015، ومن الممكن أن يتفاقم هذا الوضع خلال الأزمة الحالية، خصوصًا في حالة الدولتين الأخيرتين ذوَي الاحتياطي المتواضع من الدولارات، حيث انخفض مخزونهما من العملة بشكل قد يضعضع الثقة في قدرة الدولة على المحافظة على أسعار صرف عملتها وربطها بالدولار. وإن تواصل العجز في الحساب الجاري واستمر هروب رؤوس الأموال بأعداد كبيرة ولفترة ممتدة من الزمن، بحيث يزيد المال الذي يخرج من الاقتصاد بنسبة كبيرة على ما يدخل إليه، فعادة ما تتجسد الأزمة في شكل أزمة عملة وانهيار قدرة البنك المركزي على تثبيت سعر صرفها مع الدولار.
دول الخليج تعتمد اعتمادًا جذريًّا على السوق العالمية ليواصل ضخها بإيرادات النفط، ولكن عوامل الطلب على إيرادات النفط محليًا تختلف عن العوامل التي تحدد ما تجنيه دول الخليج في سوق النفط العالمية
وفي نهاية المطاف، قد يكون أكبر مصدر للخطر وعدم قدرة نمط النمو على إعادة إنتاج نفسه بشكل مستمر أن هذا النوع من الاقتصاد يعتمد على ضخه بصورة متواصلة بإيرادات تصدير النفط، وذلك حتى يمول المدفوعات التي تخرج من الاقتصاد من واردات وتحويلات عمالية ورؤوس أموال، والتي تهرب من الاقتصاد بلا عودة. والعوامل التي تحدد دورة الاقتصاد المحلي، وطلبها على الواردات، وقوة العمل من السوق العالمية، ورؤوس الأموال التي تخرج من الاقتصاد، تختلف كليًا عن العوامل التي تحدد طلب السوق العالمية للنفط، وبالتالي تختلف كليًا عن العوامل التي ستحدد الإيرادات التي تحصلها دول الخليج من النفط، فدورة الاقتصاد المحلي تدخل فيها عوامل الطلب على السلع والغذاء والمعدات المستوردة إلخ، بالإضافة إلى عوامل الطلب على العمالة الوافدة، وأخيرًا حسابات أصحاب رؤوس الأموال الخاصة حول تصدير أموالهم إلى الخارج، وتختلف هذه العوامل عن العوامل في الاقتصاد العالمي التي تحدد إيرادات النفط التي تحصلها دول الخليج. إذًا، لدينا مساحتان مختلفتان: السوق المحلية والسوق العالمية، ولكليها عواملهما الخاصة، ولكن تربط هاتين المساحتين إيرادات النفط المحصلة من الخارج التي تستعملها دول الخليج لتدفع تكلفة وارداتها واستثماراتها في العالم. وبهذا فإن دول الخليج تعتمد اعتمادًا جذريًّا على السوق العالمية ليواصل ضخها بإيرادات النفط، ولكن عوامل الطلب على إيرادات النفط محليًا تختلف عن العوامل التي تحدد ما تجنيه دول الخليج في سوق النفط العالمية. وإذا عجز الاقتصاد عن تحصيل إيرادات النفط الكافية من الخارج لتلبية متطلبات دورته المحلية لأي سبب من الأسباب، فإن دورته الاقتصادية ستنقطع وتكون غير مستدامة.
عندما كنت أناقش ما ذكرته أعلاه في كتاب “تصدير الثروة واغتراب الإنسان” في عام 2018، ختمت بالتالي:
“وإن كانت كل من هذه الأزمات محدقة، فأي منها قد ينفجر قبل الأخرى؟ لا نعلم، وليس دورنا هنا أن نتكهن بالمستقبل، إذ كذب المنجمون ولو صدقوا، ولكن أياً منها ممكن، في رأيي، بل من الممكن أن تتبلور أكثر من واحدة منها في آن واحد. فمن الخطأ النظر إلى كلّ نقاط التماس والتناقض هذه على أنّها قضايا مستقلة، أو اعتبار هذه الخطوات على أنّها مجرّد مجموعة من المشاكل المشتتة وغير المترابطة جوهرياً. فمن المهم أن نحلل أوجه الترابط فيما بين هذه العناصر المتضافرة في ظل نمط نمو الإنتاج العام. ومن الخطأ معاملة نمط نمو الإنتاج وعوامل الإنتاج التي تدخل فيه وكأنّها ظواهر جامدة، يستحيل أن يطرأ عليها التّغيير، فجدلية التّاريخ لا تتحرّك في خطوط مستقيمة مرسومة مسبقاً، بل إنّ التغيرات المستمرة في عوامل دورة الإنتاج، والتناقضات التي تولدها، تجعل من الصعب، بل من المستحيل، التنبؤ بدقة بكل ما قد يحصل من توابعها. وعلى نفس القدر من الأهمية كيفية تعامل الأطراف ذات المصلحة مع هذه التغيّرات. فعندما تخرج التبعات عن المألوف، تجد الأطراف المختلفة نفسها على المحك، وخارج نطاق ما اعتادت التعامل معه، أكانت الأنظمة المحلية، أم فئات الشعب المختلفة، أم القوى الدولية”
ومع حلول بداية 2020، أضحى كورونا كالأزمة العالمية المحدقة التي ضربت اقتصاديات الخليج بل والعالم أجمع، لتُخرج الوضع من المألوف إلى الاستثنائي المجهول، ويوضَع كل ما ذكر أعلاه على المحك. وتداعيات هذه الأزمة على دول الخليج من الناحية الاقتصادية هي ما سنتطرق إليه في المقال القادم.