عربة التسوق: تظاهر بالنجاح حتى تحققه

التسوق قبل العربة كان صعب لأسباب كثيرة، فجاءت عربة التسوق لخدمة المشتري وحاجياته وخدعة تسويقية يستفيد منها البائع.

كان للكساد الاقتصادي الذي خلفته الحرب العالمية الأولى أوائل القرن العشرين 1900s، آثاره المؤلمة على الاقتصاد العالمي بشكل عام، والاقتصاد الأميركي بشكل خاص. وبسبب ذلك زادت حدة التنافس بين المتاجر والبقالات الصغيرة في أميركا للتفكير في طرق جديدة لتشجيع الزبائن على شراء المزيد من المشتريات، فقد بدأت العديد من هذه المحلات في الانتشار والتوسع لتتحول إلى متاجر تجزئة كبيرة (Super Market). كان الهدف العام هو زيادة أرباح تلك المتاجر، مع تقليل مصاريف وتكاليف إدارتها بأكبر قدر ممكن.

وفي 1912، في الشارع السابع في وسط مدينة سانت بول، كان والتر ديوبتر (Walter Deubener) وزوجته، ليديا (Lydia)، يملكان متجر كرويسج (Kruesge grocery store) للمواد الغذائية. لاحظ ديوبتر أن زبائنه كانوا يواجهون مهمة صعبة في حمل مشترياتهم باليد، فبدأ ديوبتر بتجربة طرق أخرى جديدة للتغلب على هذه المشكلة، حيث أن العملاء كانوا محدودين بعمليات شراء صغيرة لأنه لم يكن من السهل القيام بعمليات شراء كبيرة لمحدودية المواد التي يستطيع العميل حملها.

سلة التسوق

بعد بضعة أشهر من التجارب، استيقظ ديوبتر في منتصف الليل بفكرة ربما لم تخطر على أحدٍ سواه. أنشأ أول حقيبة تسوّق عن طريق عمل عدة ثقوب في أعلى كيس ورقي واستخدم سلسلة من الورق لربطها بالكيس لهدف خلق مقابض يستطيع من خلالها الزبائن حمل الكيس بسهولة وأكثر أريحية. قام هو وزوجته ليديا بعمل عدة أكياس في الصباح الأول وركضوا إلى متجرهم لاختبارها. اكتشفوا أنه بإمكانهم وضع أكثر من 20 نوعًا من السلع المعلبة في الأكياس وحملها بسهولة. قدموا 50 كيسًا في اليوم الأول وعرضوها على عملائهم مقابل 0,05 دولار لكل منهم، جميع الأكياس نفدت قبل الظهر في ذلك اليوم.

كانت طريقة متاجر الخدمة الذاتية في السابق تعتمد على جعل المشتري يسير بين الممرات ويختار السلع التي يريدها بنفسه عبر حملها بيده ثم الذهاب إلى المحاسب لدفع قيمتها من المال. لكن مع انتشار ذلك النوع من المتاجر، ظهرت على اثرها مشاكل كان لا بد لها من حل. أهم تلك المشاكل هي أن المشتري كان يأخذ ما تستطيع أن تحمله يداه فقط، دون أن يشتري كل ما يحتاج إليه فعلًا. ساعد هذا الأمر ظهور الكيس الورقي، ثم ظهور سلّة التسوق البلاستيكية أو الخشبية بعد ذلك.

كان الهدف من سلة التسوق هي مساعدة المشترين على شراء المزيد من السلع والمشتريات. قامت سلة التسوق بحل المشكلة لكنها خلقت مشكلة أخرى أكبر، إذ بدأ الزبائن يشتكون من ثقل السلة عند وضع القليل فقط من المشتريات فيها! بالإضافة إلى أنهم كانوا يتوجهون نحو المحاسب عند إحساسهم بالتعب جرّاء حمل السلة في أرجاء المتجر، مما يعني أن الزبائن كانوا لا يقضون وقتًا طويلًا في التسوّق وبالتالي لا يشترون الكثير من المنتجات التي يريدونها حقًا.

السلة على كرسي

في 1937، كان سيلفان جولدمان (Sylvan Goldman)، صاحب سلسلة متاجر التجزئة همبتي دمبتي (The Humpty Dumpty Supermarket) في أوكلاهوما، جالسًا في مكتبه يفكر بالمشكلة ويتساءل حول إمكانية جعل العملاء يشترون المزيد من المنتجات براحة تامة من دون التفكير بحجم السلة وثقلها المتعب، بالإضافة إلى أن السلة الواحدة ربما لا تكفي أحيانًا لجميع المشتريات.

في مساء متأخر من إحدى الليالي، كان جولدمان سارحًا في تفكيره ومحدقًا في أرجاء المكتب قبل أن يلاحظ وبطريقة مفاجئة وجود كرسي خشبي قابل للطي في أحد زوايا المكتب. كانت اللحظة الفارقة في حياة جولدمان، ماذا لو وضعنا السلة على الكرسي ووضعنا في الكرسي عجلات! بالإمكان وضع سلتين كذلك!! قفز جولدمان من مكتبه، أمسك بعدة كراسي قابلة للطي، واثنتين من سلال التسوّق، وبعض العجلات. بمساعدة أحد الموظفين، وهو ميكانيكي يدعى فريد يونغ (Fred Young)، قام جولدمان بوضع عربة تسوّق نموذجية، على أساس كرسي قابل للطي: عجلات في الجزء السفلي من أرجل الكرسي واثنتين من السلال المعدنية فوق بعضها البعض بدلًا من مقعد الكرسي، ويد تسمح بدفع حاملة سلال التسوّق الجديدة القابلة للطي. بعد بضعة أشهر، أصبحت عربة التسوّق الفريدة جاهزة!

كل ذلك لم يحدث أبدًا!

في 4 يونيو 1937 وضع جولدمان إعلانًا في صحف مدينة أوكلاهوما، يحمل صورة امرأة تشعر بالتعب من وزن سلة التسوق الخاصة بها:

“إنها جديدة – إنها مثيرة! لا مزيد من حمل السلة الثقيلة! It’s new – It’s sensational. No more baskets to carry”

كان ذلك هو الإعلان الذي قام بتقديم اختراع عربة التسوّق الجديدة للناس. لكن الانطلاق الذي حلم به جولدمان بدأ بالتخبط: الزبائن لم يرغبوا في استخدام الاختراع الجديد. كان الرجال في ذلك الوقت يعتقدون أن ذلك يؤثر في شخصياتهم، ويعبر عن دليل ضعفهم وعدم قوتهم في حمل السلة واستخدام العربات بدلًا منها!

في الضفة الأخرى، رفضت النساء الفكرة كذلك! اعتقدن أنهنّ نساء غير عصريات، حيث العربة كانت توحي لهم وتذكرهم بعربات حمل الأطفال الصغار. على الرغم من أن الفكرة كانت مذهلة، ولكن طريقة تفكير المجتمع حينها لم تكن كما كان يعتقده جولدمان ويفكر به. ولأن الفكرة الإفتراضية في المجتمع في ذلك الوقت هي رفض فكرة العربة بكاملها، سوف يمتنع أناس آخرون عن استخدامها حتى لو كانوا يعتقدون أن اختراع العربة هي فكرة عبقرية! لقد تصوّر جولدمان الوجوه المبتسمة، وعربات التسوّق التي تسير في كل اتجاه، وصرخات الفرح من الزبائن وهم يتسوقون بسعادة، لكن.. كل ذلك لم يحدث أبدًا!

لقد فهم جولدمان لعبة التسوق

تسلل الإحباط لخيال جولدمان لكن ليس بالدرجة التي تجعله يتوقف بعد عن تنفيذ ما يريد! فعندما لم يتقبل الناس الفكرة، ذهب جولدمان إلى خدعة تسويقية قديمة: فقد استأجر “فتاة جذابة” للوقوف إلى جانب المتجر، حيث تقوم بتقديم العربات للمتسوقين أثناء سيرهم. ومع هذا، لم يكن ذلك كافيًا، عربة التسوق أو السلة القابلة للطي (Folding Basket Carrier) كما وصفها جولدمان، لم تكن مثيرة بما فيه الكفاية! فالمجتمع قرّر رفض الفكرة منذ إطلاقها أول مرة.

جولدمان كان ذكيًا، كان عليه إيجاد طريقة لكسر هذا النمط من التفكير، وإثبات أن العربة هي الحل المريح لكل هذا العناء بعيدًا عن أي اعتقاد آخر قد يبدو سخيفًا نوعًا ما. بدلًا من التخلي عن فكرة العربة، استأجر جولدمان ممثلين من كلا الجنسين بأعمار مختلفة لدفع العربة واستخدامها في جميع أنحاء المتجر، متظاهرين بأنهم أناس عاديون يتسوقون ويشترون الخبز والمعلبات لإعداد الطعام مع الحليب الذي يشربونه في الصباح.

ضلّ جولدمان يستخدم الممثلين لفترة طويلة، وسرعان ما تحول الزبائن لاستخدام العربات تدريجيًا. لقد فهم جولدمان اللعبة، فلعبها في الميدان بعقلية القطيع. وبحلول عام 1940، كانت شعبية عربات التسوق قد نمت كثيرًا. بعد ذلك، أصبح الطلب على العربات في ارتفاع شديد. بجانب استخدام العربات في متجره، قام جولدمان أيضًا ببيعها على المتاجر الأخرى مقابل 7 دولارات لكل عربة، ولتحقيق هذا الطلب، قام بترخيص تصميمه الجديد وتسجيل براءة اختراع باسمه.

التسوق ما قبل شهر يونيو 1937، لا يعني شيئًا على الإطلاق.

ممرات طويلة شاحبة تعطي شعورًا بالتعاسة، مليئة بالمنتجات الغذائية على رفوفها التي لا تطالها عيناك! سلال تسوّق بلاستيكية خاوية، متراكمة فوق بعضها عند أول الممر، تمنحك شعورًا بالتعب بمجرد النظر إليها! يوم تسوّق طويل، مرهق ومُملّ، كما هي حال باقي أيام التسوّق البائسة التي تخيّب أملك دائمًا!

ولكن ما بعد الرابع من شهر يونيو 1937.

ذلك التاريخ الفاصل الأكثر أهمية في رحلة السير بين تلك الممرات! هو ذلك التاريخ الذي غيّر تجربة التسوّق، وبدد كل ذلك العناء للأبد! اليوم الذي حوّل مهمة التسوّق وشراء ما قد يملأ رفوف المطبخ و ثلاجة المنزل، إلى مهمة سهلة مليئة بالضحكات!

لقد كان جولدمان رائد أعمال حقيقي

بحث عن مشكلة تعاني منها الأسواق وفهم أسبابها، ثم بحث عن حل يُنهي تلك المشكلة. وبالرغم من أن الفكرة لاقت رفضًا شديدًا من المجتمع، لكن جولدمان كان مؤمنًا بنجاحها ولو بعد حين.

حينما تقدم فكرة مفيدة للسوق تعالج بها مشاكل موجودة ثم تلاقي تلك الفكرة عزوفًا شديدًا من الناس، لا يعني ذلك بالضرورة أن الفكرة سيئة! فالناس قد لا ترى نفس الصورة التي تراها عيناك، ولا يعرف الناس ماذا يدور في  عقلك! التحدي هو في كيفية جعل الناس تؤمن بأهمية الفكرة ونجاحها، ذلك ما قام به سيلفان جولدمان:

“تظاهر بالنجاح حتى تحققه Fake it until you Make it”

التسويقالرأسمالية
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية