الطيب صالح واللاإطار

في الثامن عشر من فبراير 2009 رحل عن دنيانا الروائي الطيب صالح ، وليس مثله من يُتوقف عند ذكراه بالتعريف به، فالرجل غني عن ذلك وكان في حياته زاهدًا عن...

في الثامن عشر من فبراير 2009 رحل عن دنيانا الروائي الطيب صالح وليس مثله من يُتوقف عند ذكراه بالتعريف به، فالرجل غني عن ذلك وكان في حياته زاهدًا عن الأحاديث التي تدور حوله، راغبًا في الأحاديث المشغولة بشخوص أعماله وما كانوا عليه.

التفاف

“كان أباً لأولادي” بذا أجابت حُسنة بت محمود إحدى الشخصيات التي رسمها الطيب صالح بدقة في رائعته “موسم الهجرة إلى الشمال” عندما سألها الراوي: “هل أحببتِ مصطفى سعيد؟”

كان أبًا لأولادها، وكانت إجابة التفّت على السؤال خارجةً عن المسار المُعد، وإن لم تبتعد عنه كثيرًا. أراد الراوي العاشق تبيُّن موقِعه وقراءة ما ضمَّه قلبُ حُسنة، لكن الطيب لا يريد لبطله إلا مزيدًا من القلاقل والحال البين بين. وبعيدًا عن الراوي وحُسنة بت محمود يُجمِّل لنا الطيب الإجابات التي لا تحب “نعم” وغريمتها  “لا”، ويرفض الانقياد والسباحة في بحرٍ ما اختاره فِكرُه.  

ولعل حُسنة بت محمود خير مثال لمقاومة التأطير، ليس في هذا الحوار المقتضب فحسب، بل في أغلب أحداث الرواية، فـبت محمود وإن بدت امرأة ريفية بسيطة لكنها شخصية قابلة للتطور، وهذا بالضبط ما أحدثه زواجها من الوافد الغريب مصطفى سعيد فتحولت بعده لامرأة لم تَعُد تتقبل القديم الذي جسَّده ود الريس. وليست الأطر ومحاولة كسر بعضها مما خص به الطيب حُسنة وحدها، ففي غير ما شخصية وفي أكثر من حوار، تجده يناقش فكرة الأطر وصناديق الأفكار المغلقة.

الطيب صالح يخرج عن الإيطار

في دومة ود حامد التي ما هشَّ وجهها للغرباء يحتدم الصراع بين القديم والجديد، بين الذين يرون أن حلَّ مشكلاتهم في ذلك الضريح المسجى قرب الدومة فلا يكاد يومهم يمر دون حدث يُنسب لكراماته، وحتى عند لجوئهم للنوم من عنت اليقظة يرون الدومة في منامهم، والطامحين لحياة جديدة، إلى مرفأ للباخرة ومكنة للمياه. صراع بين أجيال ومعارك أفكار، صراع محتدم أو هكذا ظنَّ  الجميع، أما الحكمة الغائبة فهي أنه

لن تكون ثمة ضرورة لقطع الدومة. ليس ثمة داعٍ لإزالة الضريح. الأمر الذي فات على هؤلاء الناس جميعاً أن المكان يتسع لكل هذه الأشياء – يتسع للدومة والضريح ومكنة الماء ومحطة الباخرة

المكان يتسع لجميع هذه الأشياء، وقبلها يتسع لنا جميعًا إن خرجنا مما رُسم لنا وإن أعدنا التفكير وتسمية الأشياء بأسمائها.

يُخرج الطيب صالح شخوص رواياته من الأطر بالعقل تارةً كما في قصة الدومة، وبالحدس والقلب تارةً أخرى مثلما أغفل الشيخ محجوب عقله في “نخلة على جدول” رافضًا إغراءات التاجر: “عشرون جنيهًا يا رجل، تحل منها ما عليك من دين، وتصلح بها حالك. وغداً العيد، وأنت لم تشتر بعد كبش الضحية!”.

تردد كبير واستشعار لقيمة النخلة عنده ولنداء القلب، ثم “تمتم: «يفتح الله. أنا تمرتي ما ببيعها». وردد الرجل في نفسه: «يفتح الله» وقاده ذلك إلى التفكير في سورة الفتح من القرآن الكريم ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾. وأحس لأول مرة بأن في عبارة «يفتح الله» شيئاً أكثر من كلمة تنهى بها المبايعة”. إنه يرفض التفكير المغلق، أن يكون بيع النخلة منجاته الوحيدة فأبواب المولى كثيرة ولا تقفل.

وبعض القيد جميل

إن رفض القيد والخروج عن الإطار لا يكون لأجل الرفض فقط، وليس فعلًا عبثيًا، إنما المطلوب فيه أن يكون منطقيًا مسببًا. فالطبيعة البشرية وغريزة الحياة في جماعة لها من القيود مالها، وهي وإن أرهقت كاهلنا أحيانًا لكنها جزء من حياتنا التي نحيا ما دامت بمقدار. فلسنا بحاجة لانعتاق تام شأن مصطفى سعيد مع أمه: “مخلوقان سارا شطراً من الطريق معاً، ثم سلك كل منهما سبيله”، وما أقساه من شأن بينه وبين حال راوي الموسم فراسخ لا تقطعها الريح “ونظرت خلال النافذة إلى النخلة القائمة في فناء دارنا، فعلمت أن الحياة لا تزال بخير، أنظر إلى جذعها القوي المعتدل، وإلى عروقها الضاربة في الأرض، وإلى الجريد الأخضر المنهدل فوق هامتها فأحس بالطمأنينة. أحس أنني لست ريشة في مهب الريح، ولكني مثل تلك النخلة، مخلوق له أصل، له جذور له هدف”.

الطيب صالح

لقد هاجر مصطفى غير مرة لكنه كان يوصي الراوي بأن يجنب طفليه مشقة السفر. كان منعتقًا من كل شيء، وأراد لولديه بعض القيود  فقد علمته التجارب ما يجب أن يكونا عليه “إذا نشآ مشبعين بهواء هذا البلد وروائحه وألوانه وتاريخه ووجوه أهله وذكريات فيضاناته وحصاداته وزراعاته فإن حياتي ستحتل مكانها الصحيح كشيء له معنى…”.

بداية الخروج

في مراجعة لماضيه يقول محيمد: “الإنسان لازم يقول «لا» من أول مرة. كنت فرحان في ود حامد. أزرع بالنهار وأغني للبنات بالليل. أشرك للطير، وأبلْبِطْ في النيل زي القرنْتي. القلب فاضي وراضي. بقيت أفندي لأن جدي أراد. ووقتين بقيت أفندي كنت عاوز أبقى حكيم بقيت معلم. وفي التعليم قلت لهم أشتغل في مروي قالوا تشتغل في الخرطوم. وفي الخرطوم قلت لهم أدرّس الأولاد قالوا تدرّس البنات. وفي مدرسة البنات قلت لهم أدرس تاريخ قالوا تدرّس جغرافيا. وفي الجغرافيا قلت ليهم أدرّس أفريقيا قالوا تدرّس أوروبا. وهلم جرّا”

إن قبولنا بإطار لا يناسبنا ومحاولة التكيف معه والإفراط في قول نعم سيجعل كل واحد منا بشكل أو آخر “مدرسًا لتاريخ أوربا بمدرسة للبنات بالخرطوم”. لا بد من “لا” فـ”الإنسان لازم يقول لا من أول مرة”، “لا” قوية في موضعها.

إن التأخر في قول “لا” يزيد من ضغط الأنشوطة على أعناقنا، “لا” هذه ما توقف كرة الثلج قبل أن تكبر وما تمنعنا من الغرق. ماذا قال مستر سعيد؟ “ونحن في قمة المأساة صرخت بصوت ضعيف: «لا. لا». هذا لا يجديك نفعاً الآن. لقد ضاعت اللحظة الخطيرة حين كان بوسعك الامتناع عن اتخاذ الخطوة الأولى. إنني أخذتك على غرة، وكان بوسعك حينئذ أن تقولي «لا». أما الآن فقد جرفك تيار الأحداث، كما يجرف كل إنسان، ولم يعد في مقدورك فعل شيء. لو أن كل إنسان عرف متى يمتنع عن اتخاذ الخطوة الأولى ، لتغيرت أشياء كثيرة”.

أنا أختار إذن أنا موجود

لن يتأذى كاهل المقولة بتحريف جديد فقد اعتادت ذلك، ولن يضيق المجال بمقتبس أخير نختم به مثلما فعل الطيب الصالح في  روايته الخالدة “موسم الهجرة إلى الشمال”:

وتحددت علاقتي بالنهر إنني طاف فوق الماء ولكنني لست جزءاً منه فكرت أنني إذا مت في تلك اللحظة فإنني أكون قد مت كما ولدت، دون إرادتي . طول حياتي لم أختر ولم أقرر. إنني أقرر الآن إنني أختار الحياة. سأحيا لأن ثمة أناس قليلين أحب أن أبقى معهم أطول وقت ممكن ولأن علي واجبات يجب أن أؤديها…

الأدبالسودانالثقافة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية