الإنسان يفنى، والأساطير خالدة

في هذا المقال تتناول نورة الحميد ماهو الرابط بين أساطير الإنسان القديم ومفاهيمنا عن العدالة والصداقة والشركات ذات المسؤولية الواحدة؟

يستطيع أي شخص توحيد جماعة تتألف من أشخاص مختلفين جذريًا، بمجرد أن يجعلهم يؤمنون بفكرة أو أسطورة مشتركة، يسعون لإفناء حياتهم من أجل تحقيقها، وحمايتها، وتخليدها.

ففي العصور الأولى، كان الإنسان البدائي ينتمي إلى عشيرة يشترك جميع أفرادها صغارًا وكبارًا لتحقيق ذات الغاية. حيث يلتمون حول النار في طقس جماعي ثابت، ويرقصون حولها، ويطلبون الرزق والخير منها، ولو حدث شيء يهدد آلهتهم النار، لاجتمعوا وقاتلوا للدفاع عنها بدمائهم وأموالهم، ذلك لأن طقوسهم وغايتهم المشتركة، هي التي تجمعهم وتوحدهم.

الإنسان القديم

قد نظن أن فعل الإنسان القديم قد انتهى، بيد أنه لا يزال يسلك ذات المسلك. فالجماعات ما زالت تجتمع حول قيم دينية ما. وأرباب العمل لا يزالون يكرسون أوقاتهم وجهودهم حول أهداف المنظمة أو الشركة. والأصدقاء لا يزالون يطوفون حول القيم المشتركة للصداقة بينهم.

فالشخص مثلًا لا يحب صديقه لذاته، وإنما لما يشتركان فيه. ولو رحل هذا الشخص، أو اختفى عن ناظريه، تظل الصداقة موجودة بينهما. ومحاميان اثنان غريبان عن بعضهما، لم يسبق أن التقيا من قبل، قد يجتمعان للدفاع عن قضية ما لا تخصهما لمجرد أنهما يشتركان بإيمانهما بوجود القانون، والعدالة، وحقوق الإنسان.

لكن المفارقة، هي أنه يشترط أن تكون تلك الغاية التي يجتمع الناس حولها: غير ملموسة، أي لا يوجد لها تجسيد فيزيائي محسوس. وحتى لو استخدمت الرموز والتماثيل والقصص، فهي تشير إلى صورتها فقط، أما الغاية فهي معنى تجريدي يبتكره الناس، ويؤمنون به، ويجتمعون حوله.

وحتى لو فنى مؤسسوها، فهي ستبقى حاضرة في سلوك المؤمنين بها، وحتى لو انتهى هؤلاء بدورهم، فستظل هي حية في ذاكرة من يحملها من بعدهم. فجميع هذه الأفكار بما فيها فكرة الله في الكون، والأمم، والعدالة، والأموال، وحقوق الإنسان، والقانون، هي فقط موجودة داخل مخيلة الإنسان، حيث لا توجد على أرض الواقع بشكل فيزيائي ملموس.

نشأة الشركات ذات المسؤولية المحدودة

ومن هذا المبدأ، يشرح لنا الكاتب يوفال هاريري المفهوم في فكرة نشأة الشركات ذات المسؤولية المحدودة. فشركة بيجو (Peugeot) للسيارات مثلًا، هي مسجلة باسم صاحبها آرموند بيجو (Armand Peugeot)، ومع أنه هو المؤسس لها، فالمنتجات مرتبطة بشركة بيجو وليس بصاحبها، ولو حدثت محاكمة ما، فهي لا تحدث لشخص آرموند، وإنما للشركة.

توظف بيجو أكثر من 200 ألف موظف حول العالم، من فرنسا إلى سيدني. ومع أن آرموند قد مات منذ عام 1915، إلا أن الشركة لا تزال قائمة. ولكن حتى لو فقدت جميع العمال، وجميع المدراء، وأفلس جميع الشركاء، فستبقى بيجو موجودة، ستستدين مالًا يوظف عمالًا آخرين، وستستمر بممارسة نشاطها من جديد.

وذلك يحدث ليس لأن بيجو خالدة وأبدية، ولكن لأن فكرة الخيال القانوني الذي تستند عليه الشركات ذات المسؤولية المحدودة يسمح لبيجو أن تمتد وتستمر، مهما تغير المالكين والعمال فيها. والخيال القانوني (Legal Fiction) هو اتفاق مشترك، غير ملموس على أرض الواقع، ولكن يحدث بمجموعة اتفاقيات قانونية مسجلة، تمامًا مثلما حدث لشرعية إسرائيل، كدولة في مكان جغرافي ليس لها.

ينطبق ذلك على الدول والسياسات والأديان والشركات والقيم المجتمعية. فبدل أن ترتبط كل هذه بأشخاص معينين، فهي ترتبط بفكرة خيالية، أو أسطورة. خيال قانوني يتفق الجميع على شرعيته ويساهمون بكل ما أوتوا لكي يستمر ويبقى.

يأتي السؤال: كيف يمكن لأي شخص أن يبني شيئًا هائلًا يمتد لما بعد موته كهذا، ويبقى مستمرًا؟

الأفكارالإنسانالتاريخالرأسمالية
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية