الإباضية والجيوبولوتيك: عُمان ومانفيستو الوقوف على الحياد

تختار سلطنة عمان دائمًا سياسة النأي بالنفس في الأزمات الإقليمية، وتلعب الإباضية والطابع الجغرافي دورًا كبيرًا في حيادها.

على مدى أكثر من أربعين عامًا تبنت سلطنة عُمان سياسة واضحة في العلاقات الخارجية تقوم بالأساس على المزاوجة بين الاعتدال والعملانيّة، والتزام الحياد (الذي وُصِف بالعزلة أحيانًا) في الصراعات والنزاعات الدائرة بالمنطقة، والعمل على تنحية الأبعاد الأيديولوجية والطائفية والمذهبية، وتبني سياسة تصفير المشاكل، والاعتماد على خلق دوائر متقاطعة بين البعد المحلي والبعدين الإقليمي والعربي، وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، والانحياز إلى التفاوض والحل السلمي في النزاعات، والتواجد على مسافة واحدة مع الجيران الإقليميين،  للدرجة التي يصعب فيها على المتابع العادي أن يستوعب كيف يمكن لعُمان أن تحافظ على علاقات جيدة مع دول وأنظمة كل منها على مسافة بعيدة للغاية ومتناقضة في تصوراتها ومواقفها السياسية.

هذا الموقف الذي اتخذته عمان منذ فترة بعيدة شكّلته عوامل مختلفة دينية وجغرافية وسياسية، وكان لعامليْ المذهب الإباضي الذي تدين به أغلبية الشعب العماني، والموقع الجغرافي دورًا كبيرًا في تشكيل هذا الخط في سياسة مسقط الخارجية، وهو ما سيكون التركيز عليه في هذا التقرير.

الإباضية: العزلة المذهبية والجغرافية

هيمن المذهبان الكبيران السُنِّي والشيعي على قلب حواضر العالم الإسلامي من حيث الوجود السياسي والاجتماعي، وتوارت مذاهب أخرى بالرغم من رسوخ بعضها في تاريخ الصراع السياسيّ الإسلامي، ومن بينها الفرقة الإباضية وهي الفرقة المعتدلة التي تبنت آراء المُحَكِّمة الأوائل الذين رفضوا مسألة التحكيم التي طُرحت للفصل بين الجيشين المتصارعين في معركة صفين، جيش علي بن أبي طالب وجيش معاوية بن أبي سفيان، لكنها افترقت عن بقية المجموعات المتشددة للخوارج (الفرقة التي كانت تُفضل أن تطلق على نفسها اسم الشُراة، لأنهم قالوا أنهم باعوا الدنيا واشتروا الآخرة، وسُموا كذلك بالحرورية لأن المكان الذي التجؤوا إليه بعد انفصالهم عن جيش علي بن أبي طالب كان في منطقة تُسمى حروراء) مثل الأزراقة والنَّجدات، قبل أن تطرح الإباضية أفكارًا وتصورات أقرب للتيار السني العام، بل يذهب غالب الإباضية لاعتبار نقطة نشأة حركتهم مرتبطة بلحظة الانفصال عن الخوارج، واعتبروا فرقتهم الوارثين لمجموعة المُحكِّمة الأوائل.

لوهلة يبدو الأمر مربكًا للكثيرين الذين يقرؤون لأول مرة تاريخ المجموعة التي انفصلت عن علي بن أبي طالب بعد حادثة التحكيم الشهيرة، فالخوارج قدموا مشروعًا سياسيًا مركبًا كان يحمل  في جزء منه مضمونًا ثوريًا، ويرفض فكرة حصر الخلافة في قريش وهي الفكرة التي تبناها التيار العام السني، أو حصر الإمامة في بيت النبوة كما رأى التيار الشيعي، وهذا أمر جدير بالإعجاب لأنه يؤسس لوصل ما انقطع من حقبة الراشدين، لكن في الوقت ذاته تصدمك المجموعات الراديكالية من الخوارج بالآراء الشاذة في ذات المشروع في تكفيرهم لمرتكب الكبيرة وخلوده في النار، واعتبار من لا يؤمن بأفكارهم من المشركين.

هذا الارتباك مثلًا يجعلك تفهم لماذا اتجه قطاع من المؤرخين والباحثين إلى إعادة النظر في    الموقف من الخوارج، ومن بينهم المؤرخ الماركسي محمود إسماعيل الذي عرض في كتابه “الحركات السرية في الإسلام” رؤية نقدية مختلفة للـخوارج (لكن مع ملاحظة أنه يُعمم فيتحدث عن مجمل مجموعات هذا التيار بالكامل) حيث رأى -اعتمادًا على تحليله الماركسي- أن مشروع الخوارج السياسيّ كان “معبرًا عن قطاع عريض من الجماهير الساخطة على الخلافة ورأيهم في الخلافة يجعلهم بحق «جمهوريو الإسلام»”، “حيث نادى الخوارج بأنها (الخلافة) حق متاح لكل مسلم دون نظر إلى أصله أو عصبيته”، ونظرًا لتمسكهم الشديد بالدين والتزامهم بالقرآن والسنة دون تأويل، كانوا “كلافنة الإسلام” و”بيوريتان الإسلام”. ثم يستطرد محمود إسماعيل بشكل أكبر فيشبّه الخوارج بحركات ثورية حديثة فيقول أن “حضهم على «الثورة على أئمة الجور» يجعلهم جديرين بلقب «ثوريو الإسلام»”، وتبنيهم للعنف يضعهم في موضع “البلاشفة”، “وآراؤهم في العدالة والمساواة تنمّ عن اتجاه اشتراكي إسلامي أصيل. لذلك كله نعت ميور مذهب الخوارج بأنه مذهب ثوري ديمقراطي اشتراكي”

نفس وجهة النظر هذه تناولها باحثون آخرون من بينهم أرشاك بولاديان الذي رأى أن المساواة المادية والاجتماعية للمسلمين كانت من شعارات الخوارج السياسية الرئيسة التي هزت بمذاهبها الخلافة لمدة طويلة من الزمن، وكان جزء من أفكار هذه الحركة -على حد وصف بولاديان- يعبر بشكل كبير عن مصالح الشعوب الخاضعة للخلافة، وخصوصًا الطبقات الدنيا والمهمشة منها، إلا أن الخوارج فقدوا مواقعهم لاحقًا بسبب ما وصفه بولاديان بالتعصب الديني، لذلك لم تحاربهم سلطة الخلافة فحسب بل اشترك مع الخلافة قطاعات من السكان المسلمين.

لذا كانت النسخة المعتدلة من هذه الفرقة -وهي الإباضية- تمثل حالة أكثر مثالية بطرحها مشروعًا ثوريًّا لمسألة الخلافة/الإمامة، كما لم ينجرفوا في مشروعهم وخطابهم الفكري والعقائدي لتكفير مرتكب الكبيرة، وتبنوا خطابًا عمليًّا شديد التسامح تجاه مخالفيهم بالمقارنة مع بقية الفرق الفرعية الأخرى للخوارج التي اندثرت فعليًّا بسبب راديكاليتهم ومغالاتهم في رؤية المختلفين مع أفكارهم.

في كتابه الهام “السُّلطة في الإسلام” يتحدث عبدالجواد ياسين عن أن الإباضيِّين استرجعوا في رؤيتهم لمسألة تداول السلطة تاريخَ الحقبة الراشدية، وبشكل خاص خلافة أبي بكر وعمر، وعملوا على إعادة مفهوم الشورى قبل استيلاء الأُمويّين على السلطة، ثم زادوا فطرحوا صيغتهم الخاصة بهم، فاستبعدوا مفهوم القرشية ومفهوم التوريث الأموي السنيِّ المبني على استخلاف الخليفة لولي عهده بالخلافة، كما رفضوا تمامًا مفهوم التوريث العلوي الشيعي المبني على التعيين بالنص الإلهي، وأعاد الإباضية تفعيل مبدأ أهل الحل والعقد. وفي هذه الرؤية البسيطة تكمن الأهمية التاريخية للنظرية الإباضية باعتبارها الرؤية السياسية التي كانت امتدادًا خالصًا لنموذج الشورى القائم على فكرة أهل الحل والعقد.

لقد كان رفض المُحكِّمة الأوائل ومن بعدهم الإباضية لفكرة اختيار الأئمة من قريش قائمًا بالأساس على رفض الخضوع للهيمنة الطبقية للقرشيين من مجموعة كانت بالأساس تمثل الجيل الثاني لأبناء قبائل كانت رافضة للسيطرة القرشية، ولشكل توزيع السلطة السياسية، وللسياسات الاقتصادية التمييزية التي أحدثت توترًا اجتماعيًّا. والصيغة السابقة جعلت هذه الحركة تستوعب أبناء قبائل من الهامش الجغرافي والهامش القبائلي البعيد عن السلطة. 

ثم اكتملت صورة المذهب، وحُرِّرَت أقواله وآراؤه النهائية في أواخر أيام أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة الذي خلف عبدالله بن إباض على إمامة مشايخ المذهب في البصرة التي كانت مركزًا لتجمع علماء الإباضية حتى قرابة نهاية القرن الثالث الهجري، وحمل أفكارَه تلامذته الذين ذهبوا بعد ذلك إلى مناطقهم الأصلية التي أتوا منها، ليساهموا في تأسيس دويلات إباضية في الجزائر وليبيا وعُمان.

تبنى زعماء الإباضية، خصوصًا مؤسس الإباضية الأول جابر بن زيد، آراءً قربت الإباضية من تيار السُنّة والتيار العقلاني مثل المعتزلة، بل كان غالب فقههم في وقت لاحق -كما يشير عبدالجواد ياسين في دراسته عنهم- قريبًا إلى حد كبير من منظومة الفقه السنِّي، وذلك بتأثير رجال مثل جابر بن زيد.

ويبدو أن احترام التنوع المذهبي والطائفي داخل السياق الاجتماعي العُماني في جزء كبير منه مستمدٌّ بالأساس من التصور الإباضي في رؤية الآخر المغاير،  فالفقهاء وعلماء الكلام الإباضية كانوا إذا أرادوا التمييز بين كلامهم وكلام غيرهم في بعض القضايا الفقهية يقولون “قال مخالفونا” أو “قال قومُنا”، ويستخدمون عبارات مثل “أهل الصلاة” و”أهل القبلة”، كما حرص علماء الإباضية على فكرة مناهضة تكفير المخالف، وتقريب المسافات بينهم وبين المختلفين معهم في الرأي، واعتبار هذا الأمر من أصل المذهب، وربوا تلامذتهم عليه. يتحدث محمد بن إبراهيم الكندي أحد كبار الأئمة الإباضية في ذلك قائلًا: “فالمسلمون وإن اختلفوا في الفروع، فأصول الدين تجمعهم، وإليها ينتهون، والفروع من الأصول”. ويقول الشقصي في منهج الطالبين، وهو أحد علماء الإباضية: “من عمل بقول من أقاويل المسلمين وأخذ به، فقد عمل بالحق، وقال بالصدق، ولا تجوز تخطئته، فمن خطأه في ذلك برأي أو دين فقد خالف الحق، ووجبت البراءة منه”، وفي ذلك أيضًا يقول العلامة الإباضي خلفان بن جميل السيابي: “لا يجوز ولا يحل اللعن لأحدٍ من أهل القبلة، وهذا لا يقوله إلا جاهل، والموحد بالتوحيد يُحرم دمه وماله وعرضه، ولا تأكلوا لحوم المسلمين الراكعين الساجدين الحاملين للقرآن الكريم”.

وبالتالي فقد وضع الإباضية بهذا التصور المعتدل وبشكل مبكر مسافةً كبيرة بينهم وبين الفرق المتطرفة من الخوارج، كما أن رؤيتهم الاستيعابية هذه لم تكن على نقيض من مجموعات متشددة من الخوارج فحسب، بل حتى على نقيض من تيارات سنية وشيعية كفَّرت وفسّقت مخالفيها على مسائل فرعية في العقيدة والكلام، وهو الأمر الذي أسَّس لاحقًا لمذهب فرعي شديد التسامح. ثم دعَّمت التغيرات الاجتماعية والتعددية الإثنية والمذهبية  في عمان من مساحة التسامح هذه، للدرجة التي يمكن معها بسهولة تفسير هذا الاستقرار الديني في المجتمع العُماني مقارنة مع مثلائه في مجتمعات عربية أخرى تفاقمت فيها أزمات سياسية واجتماعية بسبب الاختلاف الديني والمذهبي.

أحد المصلين في مسجد ذي النورين في العاصمة العُمانية مسقط (المصدر: موقع فَنَكْ)

نشأة الدولة الإباضية في عُمان والمغرب العربي

مع الوقت وبفعل حِدة نزعة الاستئصال التي اتبعتها الدولتان الأموية ثم العباسيّة مع حركات المخالفين والمتمردين، تبنت الإباضية العمل السري والكتمان. ولم يكن في بال الحركة الإباضية الانقلاب على السلطة المركزية وتأسيس سلطة بديلة، لكن كان في بالها على الدوام تأسيس دولة الجماعة الصغيرة، لذا كان يناسبها أكثر العثور على مكامن جغرافية تضعف فيها سيطرة دولة المركز، والبحث بعيدًا في مناطق قبائل لا تتماهى مع سردية الزعامة القرشية أو العلويّة.

لقد أدركت الحركة الإباضية مدى قدراتها التنظيمية الحقيقية أمام قوة الدولتين الأموية ثم العباسية وحجم فداحة المواجهة المباشرة، وفهمت طبيعة خطابها ومشروعها المثالي عن السُّلطة في عالم صار يسيطر عليه دهاة كمعاوية وعمرو بن العاص والسفاح وأبو جعفر المنصور، فانسحبت من المركز (حيث دمشق وبغداد) إلى الأطراف والمناطق الجبلية، هناك بعيدًا في هضاب عُمان وجبال المغرب العربي منعزلةً بعيدًا عن غائلة السلطة المركزية، وهاربةً من القبضة القوية لجيوش الخلافة.

وبعد فترة استغلت الإباضية الرصيد السياسي والاجتماعي الذي كونته في منطقة عُمان لتشعل ثورة ضد الدولة الأموية أدت إلى إعلان أول إمامة مستقلة للإباضيين امتدت جغرافيًا من عُمان إلى حضرموت والبحرين واليمن وحتى أجزاء من شرق إفريقيا، لكن مناطقهم خضعت مرة أخرى للحكم المركزي الإسلامي بعد قيام الدولة العباسية، فسقطت دولة الإباضيين عام 752م قبل أن تعود مرة أخرى على يد محمد بن عفان الأزدي الذي أرسى نظامًا موحدًا للإمامة في عُمان ومناطق في البحرين واليمن، ومرت بفترات صعود وهبوط قبل أن تعود الإمامة الإباضية عودةً أقوى في عهد الإمام اليعربي ناصر بن مرشد عام 1624.

كانت الحركة الإباضية بتعبير عبدالجواد ياسين “تُمثل ظاهرة قلقة قامت كدول أو إمامات صغيرة خارجة على سلطة الدولة المركزية ومعرضة على الدوام لتهديدها، ولم تمثل دولة مستقرة واسعة أو عامة” أي لم تستطع أن تمد هيمنتها وقوتها من الطرف الجغرافي العربي المنعزل هناك بالقرب من المحيط الهندي.

وقبل أن يتحول نظام الحكم الإباضي إلى النظام الوراثي الحالي، كان نظام الإمامة يستند إلى عدة مؤسسات أهمها مؤسسة أهل الحل والعقد وهي مكونة من علماء إباضيين كانوا يمثلون السلطة التشريعية العليا والمرجع الحقوقي والمذهبي والسياسي، ويساعد الإمام في ممارسته مجلس شورى، ومن أسفلهم مجموعة من الولاة ورؤساء العشائر يسميهم الإمام بمشورة مجلس الشورى، وبالتوازي مع مجلس الشورى يوجد القضاة ويختارهم العلماء. والطريف في الأمر أن الإباضية كانت لهم رؤية تقدمية للغاية في مسألة ثقل الدور الذي يجب أن يلعبه الجيش في الدولة، فقد كانوا يرفضون على الدوام وجود جيش محترف خشية أن تتجاوز الإمامة مؤسسات الدولة، وأن يتحول الإمام المنتخب لحاكم مستبد بسيطرته على الجيش. ورغم وقوع عمان في منطقة استراتيجية هامة وتعرضها على الدوام للتهديدات من قوى خارجية مُعادية مثل البرتغاليين، إلا أن الإباضيين حاولوا دائمًا المحافظة على الطابع السلميّ للإمامية، وكان يُعتَمَد وقت الحروب على استنفار القبائل من خلال الإمام للدفاع عن عُمان.

لقد راكم هذا البعد الخاص بوجود الإباضية في منطقة جغرافية طرفية، مع الرؤية التطهرية، والالتزام الديني الشديد من حالة الانعزال عن تقلبات المشهد السياسي في مناطق مركزية تمثل قلب الخلافة مثل الشام وبغداد، أو مناطق أخرى تمثل أجنحة لدولة الخلافة المتسعة مثل مصر وشمال الجزيرة العربية. وتراكم هذا الانعزال مع الوقت ليصبح سمتًا للدولة العُمانية قبل أن يُستثمَر لاحقًا، ويُحوَّل إلى حالة حياد إيجابية بحيث وضعت عُمان نفسها كفاعل قريب من المشهد، لكن وفقًا لمعطياتها السياسية الخاصة بها.

تأثير الجغرافيا والتنوع السكاني على السياسة الخارجية 

يؤثر الموقع الجغرافي والمكون السكاني تأثيرًا كبيرًا على هُويّة الدولة وعلى أهميتها في محيطها الإقليمي والدولي، وتتضح أهميتها بالنظر لعدة عوامل جغرافية بالضرورة من بينها: أهمية السواحل التي تطل عليها، ووقوعها على مفترق طرق تجارية، أو سيطرتها على ثغور استراتيجية، أو احتواء أرضها على ثروات نفطية أو معدنية، كما يساهم الموقع الجغرافي في التأثير على العلاقات الدولية والسياسة الخارجية، لذا فالجغرافيا -بتعبير أحد السياسيّين الغربيين- هي “قدر الأمم، وهي العامل الثابت في صناعة التاريخ”

وتُعد سلطنة عُمان أبرز نموذج يمكن أن يُتداول الحديث عنه حينما تُناقَش علاقة الجغرافيا والطبيعة السكانية وتأثيرها على السياسة الخارجية، حيث لا يمكن فهم سياستها خارج إطار جغرافيتها، أو بعيدًا عن فهم المكونات المتعددة لسكانها ذوي الخلفيات المذهبية والعرقية المتنوعة. واختصارًا يمكن القول أن الدولة العمانية لها وجهان يختلف كلاهما عن السياق العام لمحيطها العربي: وجه ديني مذهبي غالب وهو المذهب الإباضي ووجه جغرافي وسكاني، أثَّر كلاهما في الدولة العُمانية، ودفعاها إلى الالتزام بالحياد السياسي في محيطها الإقليمي والدولي، واحترام التعدد والتنوع المذهبي الديني داخلها.

خريطة سلطنة عمان ( المصدر مجلة رحالة)

تقع سلطنة عمان في جنوب شرق شبه الجزيرة العربية، وتمتد سواحلها على مضيق هرمز في الشمال وحتى الحدود مع اليمن، وتطل على بحر العرب (جزء من المحيط الهندي) وبحر عُمان والخليج العربي. وتتحكم السلطنة مع إيران في مضيق هرمز الذي يُعد من أهم الممرات المائية المهمة والاستراتيجية في العالم لتجارة النفط، ويفصل بين إيران وسلطنة عمان اللتين تتقاسمان الرقابة عليه، ويُنقل عبره حوالي 30% من النفط المنقول بحريًّا، حيث يذهب 80% منه من خلال دول الخليج إلى الدول الآسيوية كالصين والهند وكوريا واليابان، فيما يُنقَل الباقي إلى دول أوربية وإلى أميركا الشمالية. كما حظيت عُمان بأهمية استراتيجية منذ القدم كدولة تتوسط مفترق طرق التجارة ونقل التوابل والحرير وغيرها من البلدان الحارة (الهند وجزر الهند الشرقية) إلى مناطق الاستهلاك في أوربا.

صورة توضح مضيق هرمز الذي يفصل بين عُمان وإيران. (المصدر موقع BBC)

وفي دراسة عن التعددية الإثنية والدينية في عمان يتحدث الباحث العُماني أحمد الإسماعيلي عن أن السواحل العُمانية ظلت مفتوحة تجاريًا منذ زمن بعيد، فوصل التجار العُمانيون إلى الصين، وكانت في شرق إفريقيا موانئ بحرية تتوافد عليها سفن العمانيين طوال الوقت، كما دخل العمانيون معارك مبكرة مع الاستعمار البرتغالي بداية من عام 1500. ولكونها منطقة جذب تجاري كانت السواحل العُمانية أشبه بمسرح ترسو فيه الهجرات الآتية من الضفة الشرقية لبحر عُمان والخليج العربي خصوصًا الهجرات من الهند وبلوشستان وإيران، وقد عرفت الدولة اليعربية ودولة آل سعيد انفتاحًا واسعًا على المحيط الهندي والسواحل الشرقية لإفريقيا، واستقطبت عُمان تعددية عرقية ودينية تجاورت مع العرب السنة والإباضية والشيعة. كل هذه العوامل أوجدت تراكمات ثقافية وافدة من وراء البحار كان لها تأثيرها في شكل التفكير الداخلي للمجتمع العماني.

على مستوى الطبيعة السكانيّة تميزت عمان بمجموعة كبيرة ومتنوعة من الخلفيات العرقية، ويرجع ذلك إلى حد ما إلى تقليد طويل من العلاقات التجارية والثقافية السابق ذكرها، وتاريخ من التجارة البحرية وهجرات القبائل، فالعرب يشكلون الأغلبية العظمى بنسبة تصل تقريبًا إلى 65%، وهناك أيضًا جماعات من الأقليات مثل البلوش وترجع أصولهم إلى باكستان وإيران، والخوجه وهم من أصول هندية، والأقلية الأخرى هم العمانيون المنحدرون من زنجبار، وقد عادوا بأعداد كبيرة إلى سلطنة عمان في السنوات التي تلت استقلال زنجبار عن الحكم البريطاني.

وبالنظر للخريطة المذهبية، فبجوار الأغلبية الإباضية، ثمة عدد من الطوائف أكبرها الطائفة السنية. فأغلبية القبائل في ظفار تنتمي إلى طائفة السنة، كما يتبع معظم العمانيين البلوشيين المذهب السني، وهناك عمانيون ينتمون إلى المذهب السنّي الوهابي وهم أعضاء قبائل تعيش في المناطق الداخلية كالشرقية والظاهرة، فيما تنتمي أغلبية العمانيين الخوجه إلى المذهب الشيعي.

بالتالي  كانت لهذه التعددية الدينية والعرقية أثرها في خلق مساحة ملحوظة من التسامح الديني في عُمان، وهي مساحة كانت أكثر تطورًا بالمقارنة بمساحات أخرى سياسية أو هوياتية قبلية.

ولقد كان لانتشار المذهب الإباضي في عمان السبب في جعلها تبدو مختلفة عن نمط الإسلام في دول الخليج السنية، وفي نفس الوقت مختلفة عن إيران الشيعية، وهو الأمر الذي أضاف ميزة نسبية لمسقط؛ حيث جعل منها حلقة وصل بين المملكة العربية السعودية وإيران، وبين إيران والقوى الكبرى مثل واشنطن والاتحاد الأوربي، وكان جزء من خيار عمان الاستراتيجي -كما توحي سياستها الخارجية- محكومًا بذلك الإحساس بالتفرد.

مسقط: عاصمة الحياد

كانت هناك عدة عوامل أخرى تزامن بعضها مع قدوم السلطان قابوس بن سعيد لسدة الحكم في السلطنة (وبعضها كان موجودًا قبل تولي السلطان قابوس الحكم بفترة قصيرة) ساهمت بجوار الطبيعة الجغرافية والطبيعة السكانية والمذهب الإباضي في تكريس حالة الحياد العماني. ومن أبرز هذه العوامل: التراجع الكبير للهيمنة العمانية على المحيط الهندي وشرق إفريقيا وبلوشستان، وقيام دولة الإمارات العربية المتحدة ككيان سياسي جديد في المنطقة، وصعود القوى اليسارية في العمق العربي، وارتفاع النبرة المعادية للتحالف مع القوى الغربية -على النقيض من عمان التي رأت حينها أن من مصلحتها توثيق وتوسيع تحالفاتها العسكرية الإقليمية والدولية- فضـلًا عن التخلف الذي كان المجتمع العماني غارقًا فيه بكل أبجدياته ومستوياته. هذا كله دفع الدبلوماسية العمانية إلى إعادة إنتاج الذات السياسية من جديد في علاقاتها بالمحيط الإقليمي، ولهذا أُعلِن عن أهم مبدأين من مبادئ الدبلوماسية العمانية في علاقاتها الخارجية، وهما عدم التدخل في شؤون الآخر، والتزام الحيادية. وظلت حيادية الدبلوماسية العمانية قائمة حتى في لحظات حرجة جدًّا مرت فيها المنطقة إقليميًا وعربيًا، كالحرب الإيرانية-العراقية، والمقاطعة العربية لمصر، وحربي الخليج الأولى والثانية، وآخرها موقفها من الملفات الحديثة في السياسة العربية بعد عام 2011، ومنها الملف السوري والملف الليبي والملف اليمني، وحتى الملف البحريني. لذلك استطاعت سلطنة عمان أن تجعل من هذين المبدأين المحرك الدينامي لملفاتها الخارجية.

لاحقًا استثمرت السلطنة مسألة الحياد هذه لتأخذ خطوة أكثر إيجابية ليبرز دورها كـوسيط وقت النزاعات والتوترات بالمنطقة، فظهر تدخلها في مواقف مثل التوسط في المحادثات الغربية-الإيرانية، ووساطتها بين دول الخليج في أزمة قطر الأخيرة، والتوسط لإطلاق سراح بريطانيين وأميركيين محتجزين في إيران بين عامي 2007 و2011، والتوسط بين أطراف الحرب في اليمن، وأزمات أخرى استطاعت فيها عُمان أن تلعب دور الوسيط المحايد الذي يمكنه تقريب وجهات النظر بين الخصوم الذين لا يستطيعون الجلوس معًا على طاولةٍ واحدة.

الصورة البارزة من ErikaWittlieb عبر Pixabay 

إيرانالدبلوماسيةالعراقالمغرب العربياليمنعُمانمضيق هرمزالرأسماليةالسلطة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية