تاريخ ومستقبل باب المندب
لمضيق باب المندب أهمية استراتيجية في النقل البحري تاريخيًا وإقليميا، ويكمن التحدي المستقبلي للمضيق في انسحاب الأمريكان من المنطقة.
تتربع المضائق على عرش الأهمية الاستراتيجية لدى الحديث عن النقل البحري، وتزداد أهميتها نظرًا لكون صناعة النقل البحري واحدة من أقدم وأكبر أدوات التجارة الدولية، إذ تستحوذ على حصة تصل إلى 90% من مجمل البضائع التجارية، لذا يمكن اعتبار المضائق نقاطًا حيوية لضخّ الدماء في الاقتصاد العالمي. وبحكم الموقع الجغرافي للمضائق ودورها شديد الحساسية في ازدهار الدول والشعوب وتحديد مكانة الدول المستفيدة منها والمطلة عليها اقتصاديًا وسياسيًا، فإنها تمثل مراكز ثقل استراتيجي وسياسي، فـمضيق ملقا على سبيل المثال يُعد ممرًا لربع النفط المنقول بحرًا، كما أنّه واحد من أشد الممرات البحرية ازدحامًا، من خلال خدمته لتجارة شمال وجنوب شرق آسيا وانتقال البضائع من الشرق إلى الغرب والعكس.
كما أنّ مضيق هرمز يعدّ شريانًا رئيسًا لاقتصادات العالم الكبرى شرقًا وغربًا، إذ تصفه إدارة معلومات الطاقة الأميركية بأنه “أهم نقطة ضيقة في العالم” حيث يمر عبره خمس الإنتاج العالمي من الطاقة، إضافة لكونه مدخلًا للوصول إلى عدد من الموانئ الرئيسة في الخليج العربي كميناء جبل علي الذي يقدم خدمات لا غنى عنها للاقتصاد العالمي. ولا تقل عنه أهميةً مضائقُ وممرات مائية أخرى، إذ تأتي قناة السويس وكذلك مضيق البوسفور ومعهما القنال الإنـقـليزي وقناة بنما ليلعبوا أدوارًا غاية في الأهمية ما يستدعي جهودًا استثنائية في الحفاظ عليها، إلى درجة اعتبار كل التدابير اللازمة للحفاظ عليها من المسلمات، كما في حالة الهيمنة البريطانية في جبل طارق رغم كونه امتدادًا طبيعيًا لأراضي إسبانيا شريكتها في الاتحاد الأوربي.
وقد يكون مضيق باب المندب على رأس أهم المضائق البحرية في عصرنا الحالي، لكنّه دون شكّ كان أهمها تاريخيًا لدوره الذي كان وما زال مستمرًا في ربط شرق العالم بغربه، رغم مساعي الإمبراطوريات البحرية في شبه الجزيرة الأيبيرية في الاستعاضة عنه بالالتفاف حول القارة الإفريقية مستخدمة أساطيلها في رأس الرجاء الصالح الذي تناقصت جدواه الاقتصادية من جديد بعد فتح قناة السويس في أواخر القرن التاسع عشر. فمضيق باب المندب يعد مصبًّا لمعظم موارد الطاقة والسلع التي تُنتَج في قارات العالم القديم الثلاث، كما أنّه يشكّل مفتاحًا أساسيًا لاستمرار الدول العظمى في نفوذها وتأثيرها على مجريات الاقتصاد والعلاقات الاستراتيجية الدولية.
جغرافيا باب المندب وتاريخه
يقع مضيق باب المندب في الجزء الجنوبي من البحر الأحمر، وهو مضيق طبيعي لا يزيد عن 32 كليومترًا تشكّل بسبب تباعد كتلتي جنوب الجزيرة العربية عن كتلة شرق إفريقيا. إلا أن المفهوم الجغرافي المجرد لباب المندب هو المسافة التي تقع من المضيق 150 كيلومترًا شمالاً وتتصل بخليج عدن جنوبًا، وبذلك تضم أربعة دول تطل عليه هي اليمن جهة الشرق والصومال وجيبوتي من الجنوب والجنوب الغربي وإريتريا من جهة الغرب.
وتمتد أهميته التاريخية إلى ما قبل الميلاد، ولم يكن الاهتمام الذي حظي به لدى الرحالة والجغرافيين الإغريق في القرن الأول الميلادي إلّا وليد عشرات القرون التي خدم فيها المضيق التجارة الدولية، وهو ما أثبته تاجر إغريقي مقيم بمصر في مخطوطته بعنوان “الإبحار حول البحر الإريتري/Periplus of the Erythraean Sea”، ملقيًا الضوء على المدن والحواضر المزدهرة حول المضيق على امتداد الساحل الغربي للمحيط الهندي وصولًا إلى خليج عدن والبحر الأحمر.
الصينيون والبرتغاليون والعثمانيون
قد يكون وصول الأساطيل البرتغالية إلى المحيط الهندي في القرن الخامس عشر امتدادًا لجهود السيطرة عليه تجاريًا وعسكريًا منذ عصور الدولة المصرية القديمة حتى الإغريق ثم البطالمة ثم الرومان، واختتمت هذه الجهود بزيارة قائد البحرية الصينية تشنغ هو (1405- 1433) أو حاجي محمود شمس الدين عند المسلمين. وبوصول الأساطيل البرتغالية تلك، انتهت هيمنة العرب على التجارة البحرية وتراجعت أهمية باب المندب ومعه البحر الأحمر نتيجة لاكتشاف طريق بديل هو رأس الرجاء الصالح، ومما زاد الأمور تعقيدًا مسارعة العثمانيين إلى التمركز عند حلق باب المندب في كلا ضفتيه، وإغلاق البحر الأحمر في وجه السفن الأوربية ومنها البرتغالية خشية على الأماكن المقدسة. وهكذا تحول البحر الأحمر إلى بحيرة أمنية عثمانية خالصة، حتى ضعفت الإمبراطورية العثمانية وبلغ نفوذ الإنقـليز والفرنسيين مصر وباب المندب.
التنافس الغربي
لم يطل المقام بالفرنسيين في مصر إثر حملة بونابرت، حتى وضعت شركة الهند الشرقية البريطانية حامية عسكرية على جزيرة ميون لمنع الفرنسيين من الوصول إلى المحيط الهندي، ورفعت حجم حاميتها لعجز المدافع عن استهداف السفن التي تعبر الضفة الغربية من باب المندب. ومع العام 1839 استولى الإنقـليز على ميناء عدن وعلى البحر الأحمر، ثم استقروا في قلب جنوب البحر الأحمر في جزيرة كمران (قمران)، ووضعوا مفرزة على باب المندب تموضعت في جزيرة ميون، وأنشؤوا فيها فنارًا (منارة) انتهى العمل فيه عام 1861، واستخدموا الجزيرة محطةً لتزويد السفن بالفحم، حتى استبدل الفحم بالقازولين. وبعدهم بأكثر من عشرين عامًا استولى الفرنسيون على شاطئ “أوبوخ” الذي صار لاحقًا مدينة جيبوتي. وكان الفرنسيون قد حاولوا عبر تاجرٍ شراء منطقة الشيخ سعيد الساحلية في الضفة اليمنية من مضيق باب المندب في صفقة لم تتم، ثم استولى الإيطاليون على ميناء عصب الإثيوبي عام 1869 وهو العام الذي شهد افتتاح قناة السويس، ليصبح باب المندب ساحة لتنافس القوى الأوربية وموقعًا استراتيجيًا تصاعدت أهميته ما أدّى للتمركز الفرنسي في بلاد عفار وعيسى أي “جيبوتي” لاحقًا. وبسط البريطانيون حمايتهم على مدينة زيلع وما يليها شرقًا في الضفة الصومالية من خليج عدن، وثبت الإيطاليون وجودهم في شرق وجنوب الصومال، وكل ذلك تبعًا لمخرجات مؤتمر برلين المنعقد ما بين 1884-1885.
منذ الحرب العالمية الثانية إلى اليوم
في النصف الثاني من القرن العشرين خرجت بريطانيا وإيطاليا من مواقعها الاستعمارية في جنوب البحر الأحمر ليعود باب المندب إلى سيادة الدول المطلة، فيما بقيت فرنسا في جيبوتي حتى منتصف السبعينيات، إلا أن الحروب العربية مع الاحتلال الصهيوني، وتفجير المقاومة الجيبوتية لمخازن السلاح الفرنسية في منتصف الخمسينيات، وإغلاق مصر لباب المندب في حربها مع الكيان الصهيوني، كل ذلك رفع من أهمية باب المندب لتتشكل استراتيجية أمنية غير إقليمية عززتها سياسة أميركا في محاربة الإرهاب لاحقًا التي اتخذت من جيبوتي موقعًا لحضورها العسكري كسابقتها فرنسا.
وهكذا غدت دولة جيبوتي تحتضن مجموعة قواعد عسكرية دولية تزيد على الست قواعد، منها للصين ولليابان التي خلقت لها حضورًا عسكريًا خارج ترابها في سابقة منذ الحرب العالمية الأولى. وعلى الرغم من اضطرام الأحداث حول جيبوتي المستقرة، فقد أصبحت منصة أمنية هامة للملاحة الدولية، وربطت بنجاحٍ استقرارها بالحضور العسكري الدولي على أراضيها، لكنها استفادت أيضًا من موقعها لتكون رائدة موانئ القرن الإفريقي مطورةً بنية تحتية ملائمة سبقت بها غيرها في هذا الجانب، في استفادة من انغلاق النظام الإريتري عن بيئته الإقليمية، وكذلك من وضع إثيوبيا الجار الكبير الحبيس عن البحر، واضطراب الأوضاع في الصومال منذ تسعينيات القرن المنصرم حيث لم يتمكن الصوماليون من الاستفادة من موقعهم الاستراتيجي المفتوح على أعالي البحار في المحيط الهندي. وفي خضم ذلك، لم يغب الهاجس الأمني عن باب المندب، إذ جعلته أعمال القرصنة في باب المندب وخليج عدن بقعة مزدحمة بالقطع العسكرية الدولية لمكافحة هذه الظاهرة، وهو ما ضاعف من تدويل هذه المنطقة وعسكرتها إلى مستوى غير مسبوق.
ومع اندلاع الحرب الأهلية الراهنة في اليمن، تضاعف مستوى التهديدات الأمنية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب تحديدًا، خصوصًا مع بروز الأطماع الإيرانية بربطه بمضيق هرمز عبر حلفائها الحوثيين، لاستتثماره كأداة ضغط بهدف فرض إدارتها الرامية إلى الهيمنة الإقليمية ما أدّى إلى انخراط دول الجوار الخليجية في الحرب الدائرة في اليمن، ورفع وتيرة عسكرة هذه المنطقة وانخراط أطراف جديدة في الصراع العسكري، خصوصًا مع اتخاذ الحوثيين جزيرة ميون موقعًا عسكريًا محوريًا منذ بداية انتشارهم، إلّا أنّهم أُخرِجوا منها على يد التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية، ومن ثمّ أُنشِئت قاعدة عسكرية إماراتية في الجزيرة.
مستقبل باب المندب
بينما يغلي محيط المضيق بالصراعات العسكرية والاضطرابات والتحولات، يظهر في المنطقة العملاق الصيني الذي يبدو منشغلًا بتنفيذ مشروعه الأكبر من حيث الحجم والاستثمارات الموضوعة في خدمته: مشروع الحزام والطريق. اليوم يتراءى للعالم أن المارد الصيني أفاق من سباته وأظهر تصميمه على استكمال ما بدأه حاجي محمود شمس الدين منذ خمسمائة عام، ولم يلبث يوسّع دوائر نفوذه مقتنصًا الميناء تلو الميناء في أعالي المحيط الهندي وسواحله الغربية مادًا خططه الاقتصادية حتى سواحل البحر المتوسط في اليونان والجبل الأسود، بينما يراقب بصبر وهدوء مآلات الأمور في سعيٍ للاستفادة من حالة الفتور الأميركية في عهد إدارة ترامب الراغبة في التخلص من أعباء وجودها الكبير في المنطقة، بما ينذر بأن انسحاب الأمريكان استراتيجيًا من الخليج العربي سيترك بالضرورة فراغًا استراتيجيًا وأمنيًا في البحر الأحمر، وقد ينتج عنه غياب مبادرات ناضجة إقليميًا يمكنها النهوض بالمهمة، في ظل تهافت القوى الإقليمية والدولية الأخرى ما يجعلها عاجزة عن تفعيل استراتيجيات أمنية في البحر الأحمر وخليج عدن بما يصب في مصلحة الدول المطلة، وهو ما قد يصعب النهوض بمبادرة أمنية إقليمية خاصة بالبحر الأحمر، لأسباب منها السيطرة الإسرائيلية على مساحة محدودة في شمال البحر الأحمر، في حين أنها -أي إسرائيل- بؤرة صراع في المنطقة، ما يبعد أية إمكانية للتعاون معها في أمن البحر الأحمر على ضوء معطيات الوقت الراهن. ناهيك عن أن منطقة جنوب البحر الأحمر هي بالأساس منطقة توتر أمني واحتراب خصوصًا اليمن، وبالتالي لا تستطيع هذه الدول المساهمة في تأمين البحر الأحمر والمشاركة في استراتيجية أمنية إقليمية، بل على العكس من ذلك فالحرب في اليمن وسلوك الحوثيين يشكلان تهديدًا على أمن البحر الأحمر، فضلًا عن أن الدول المطلة على البحر الأحمر تعاني عدم استقرار اقتصادي وفقرًا ومستويات تنموية محدودة يمكن وصفها بالمأساوية.