كلوندايك، حمى الذهب

في منتصف القرن التاسع عشر، انتشرت بين الناس فكرة الثراء السريع عن طريق إيجاد الذهب، وأصبحت تنتقل كالحمى بسرعة من شخص لآخر حتى سمّيت "حمى الذهب".

عرف منذ القدم عن الإنسان سعيه للكمال في شتى أشكاله، إن كان باتخاذ مكانة اجتماعية، أو إيجاد وظيفة مرموقة، أو جمع المال بمختلف الطرائق. تلك الأخيرة من أكثر الأمور المحفزة لجعل الإنسان يحظى بحياة رغيدة أو على الأقل يحسن من مستوى معيشته.

“حمى الذهب”

في منتصف القرن التاسع عشر، انتشرت بين الناس فكرة الثراء السريع عن طريق إيجاد الذهب، وأصبحت تنتقل كالحمى بسرعة من شخص لآخر. عُرفت تلك الفترة بمسمى “حمى الذهب”. لم تكن هذه الظاهرة  مقصورة على مكان بعينه من العالم، بل شاركت كل بلدة فيها ولو بشكل بسيط. جرت معظم أحداث الحمى  في القرن التاسع عشر، ما بين البرازيل وأستراليا وكندا وجنوب أفريقيا والولايات المتحدة الأميركية. لعل من أكبر موجات الهجرة الساعية لنيل نصيبها من الثراء، كانت موجهة لكلوندايك في مقاطعة يوكون بأقصى الشمال الغربي لكندا.

بدأت القصة صباح يوم السبت السابع عشر من شهر يوليو عام 1897، عندما رست سفينة بورتلاند في ميناء سياتل بعد قدومها من يوكون، وقوبلت بترحيب هائل من قِبل المتجمهرين. بعدها بدأت الشائعات تنتشر بين الناس ومفادها أن السفينة كانت محملة بأطنان من الذهب وجدها المنقبون في تلك البلاد. أكدت الصحف تلك المعلومات بعد نشرها عناوين لثلاث كلمات:

ذهب، ذهب، ذهب. ثمانية وستون شخصًا على متن سفينة بورتلاند وقعوا على حزمة من المعدن الأصفر.

وقبل هذه الحادثة بسنة تقريبًا تمكن المنقب جورج كارمك (george carmack) أثناء رحلة صيد مع زوجته كيت من اكتشاف الذهب بعد أن وجد طبقة كثيفة منه في قاعدة صخرة بالقرب من جدول رابت النابع من نهر كلوندايك في منطقة يوكون النائية.

بعد رسو السفينة، وخلال الثمانية عشر شهرًا التالية، زحف مئة ألف من البشر لمنطقة كلوندايك. إن كنت تظن أنهم فقط من الفقراء أو العاطلين عن العمل فأنت حتمًا مخطئ. هناك من استقال من عمله كشرطي، لدرجة أن ربع شرطة سياتل استقالت وذهبت مع تلك الجموع الغفيرة للشمال الكندي. وقصة أخرى رويت لنا عن حاكم قرر التخلي عن حملته الانتخابية ليصبح نائبًا في مجلس الشيوخ، كل هذا من أجل خوض غمار مغامرة لا تعرف نهايتها. قَدمت أغلب تلك الجموع من أميركا ولكن هناك أعداد بسيطة جاءت من أوربا معظمهم بريطانيون.

دايي

نقطة الانطلاق للرحلة التي ستغير حياة أولئك المغامرين هي بلدة دايي (Dyea) الموجودة على ساحل ألاسكا. في هذه البلدة يتضح جليًا المعنى الحقيقي لحمى الذهب. هناك هذيان وجنون للقبض والسيطرة على كل شيء، فبالإضافة إلى الباحثين عن الذهب جاء بعض المستثمرين الذين أرادوا الحصول على جزء من الثروات وقاموا ببناء قاعات للرقص ومطاعم ومحلات لبيع الملابس.

أصبحت بلدة دايي مفعمة بالحياة بعد وصول الجموع الغفيرة الطامحة بمستقبل أفضل، لكن نصف من قِدم إليها عاد أدراجه لاحقًا، بسبب أن الظروف المناخية القارسة كانت أقوى منه. تختلف حوافز المهاجرين فمنهم من يريد أن يصبح ثريًا، وآخرون يحلمون بمغامرة لا تنسى يسردون بطولاتها لأحفادهم فيما بعد، وهناك من قرر كتابة مذكرات ملهمة ومثيرة للاهتمام.

تبدأ الرحلة والتحدي الأول يكمن في تخطي جبال يبلغ ارتفاعها ثمانية آلاف قدم مغمورة بشكل كامل تحت الثلوج، كما أن خطر الانزلاقات الجليدية وارد في أي لحظة، لكن الجميع واجه تحديات الطبيعة القاسية والتي عُرف عنها صيف قصير وشتاء قارص، والسير عبر جبال عالية، وأنهار وبحيرات يصعب الإبحار فيها، وفي النهاية هذه الرحلة تصل إلى تصطدم ببوابة أراضي الذهب بلدة داوسون (Dawson) لكن الطريق إليها مغامرة في حد ذاته.

لايوجد خيار بين هذين الطريقين أحدهم الجحيم والآخر ملعون

اشتهر بين المنقبين في تلك الأيام طريقين، أحدهما يدعى تشيلكوت (Chilkoot) يبلغ طوله تقريبًا 48 كيلو ويرتفع بمقدار 1080 متر. ويحتوي على منحدر خطير يسمى جولدن ستيركيس (Golden Staircase). أما الطريق الآخر والذي يعرف بالوايت باس (White Pass) فارتفاعه منخفض عن السابق ويقدر بثمانمائة مترًا لكن يعتبر أكثر وعورة.

يقول أحدهم: “لايوجد خيار بين هذين الطريقين أحدهم الجحيم والآخر ملعون، إذا أخذت أحدهما ستتمنى لو أنك أخذت الطريق الآخر”. ولإضافة مزيد من التعقيد، أمرت السلطات الكندية جميع القادمين والمنقبين عن الذهب بضرورة جلب الحاجات اللازمة وحملها معهم والتي تكفي لتبقيهم أحياءً لمدة عام على الأقل. كل هذا حتى يتفادوا حدوث مجاعات. سيتوجب على المسافرين الذين لم يتمكنوا من جلب حمالين لبضائعهم الذهاب والعودة في تلك الطرق الوعرة لحمل تلك الحاجيات قد تصل أوزانها إلى أربعين كيلوجرامًا.

لم تكن لدى أغلب المنقبين عن الذهب الخبرة الكافية في التنقل داخل الثلوج. يذكر لنا ويليام أوليف (william Olive) وهو أحد من شارك في عمليات التنقيب تلك:

غالبًا ما تكون الطرق ممسوحة بالكامل من بعد حدوث عاصفة ثلجية، يسعى الرجال جاهدين لإعادة مزاليجهم على الطريق. ينام العديد منهم على الثلج البارد وكلابهم بجانبهم للحصول على بعض الدفء.

أسوأ وأصعب مسيرة

يذكر فريدرك ومبول رواية أخرى عن صعوبة التنقل: “كنت أحمل حمولة 114 كيلوجرام على مزلاجي، التحرك معها كان سيئًا جدًا. في الحقيقة كانت أسوأ وأصعب مسيرة خضتها في حياتي. في بعض الأحيان أسأل نفسي عن جدوى ذهابي في هذا الطريق بدلًا من تشيلكوت (Chilkoot). صحيح أنه يتميز بقصر المسافة ويختصر علي الكثير من الوقت، لكن أنا الآن هنا، ويجب علي إكماله حتى النهاية”.

تحت هذه الضغوطات والآمال المعلقة في الأيام القادمة تبدأ الصفات السيئة بالبروز بين هؤلاء الأشخاص، فكرة الأسبقية تراود الكثير منهم وقد تكون سببًا كافيًا لجعله ينال نصيب لا بأس به من الذهب مقارنة بمن أتى من بعده، خصوصًا أن علمنا أن بعضهم تخلى عن كل شيء من أجل المجيء إلى هنا. يذكر فريدريك ومبول في مذكراته:

كنت مارًا من أمام خيمة حتى سمعت صوت رجل يصرخ، كان لوحده تخلى عنه زميله واختفى في هذيان البحث عن الذهب، أعتقد بأنه لن يتمكن من العيش طويلًا. هذه منطقة مرعبة لكبار السن والمرضى.

أعداد الناس الغفيرة والتجمع في أماكن ضيقة

التجربة القاسية لم تنتهِ بعد، فبعد عبور الجبال الشاهقة على المغامرين السفر من خلال بحيرات طويلة حتى يصلوا لبداية نهر يوكون، ومن هناك تنتظرهم مسافة طويلة ليبلغوا نقطة النهاية، مدينة داوسون. نصبت المخيمات حول بحيرة ليندمان ( Lindeman) في انتظار ذوبان الثلوج بعد انقضاء فصل الربيع. في ذلك الوقت، يقوم المنقبون بالاعتماد على أنفسهم في بناء المراكب.

ساهمت الغابات المحيطة بالمكان في توفير المواد الخام، كان المركب ذو القعر المسطح هو الأنسب ليس لسبب معين بل لكونه الأسهل في البناء. في أواخر شهر مايو، يبدأ تدافع المركبات في البحيرة ويكاد عددها أن يصل إلى ثمانية آلاف مركب. في نهاية البحيرة، يواجه المنقب تحدي جديد يكمن في انحسار المياه وسيرها في مسارات ضيقة مع بروز بعض الصخور المتأهبة لعرقلة سير المركبات، التي تحطم العديد مع انجراف المياه.

تعتبر الرياح أيضًا العامل الأول والوحيد لمساعدة المركب في عبور الماء، تأتي أوقات تصبح فيها الرياح بعكس الاتجاه المراد اتباعه فيضطر المنقبون بيأس بدفع المركب بواسطة حبال بالقرب من شاطئ البحيرة حتى يصلوا لمكان التجمع القادم.

أعداد الناس الغفيرة والتجمع في أماكن ضيقة، والعيش في أكواخ وخيام غير مؤهلة بالكامل، جعلها أرضًا خصبة لانتشار الأمراض كالأسقربوط والحمى. بلدة بينيت (Bennett) في منطقة البحيرات، كانت نموذجًا لتلك الفوضى التي سببتها حمى الذهب. على الرغم من تأهيلها ببناء بنك ومطاعم ومحلات بداخلها إلا أنها أصبحت مزدحمة، وبالكاد تجد موطئًا لقدمك داخلها.

الوجهة النهائية

مرة أخرى، عملت السلطات الكندية بقرار ينص على نشر مائتي جندي في منطقة فورت سلكرك (Fort Selkirk) خوفًا من ازدياد قدوم الأجانب على البلاد، لكن هذا القلق اتضح أنه غير مهم بعد أن علموا بأن هؤلاء الغرباء قادمون لشيء واحد، هو الذهب فقط، ومن بعدها العودة لأوطانهم. طالت حمى الذهب السكان الأصليين من الهنود الحمر، وأثرت بشكل كبير على نمط حياتهم.

فقدوم المنقبين بأعداد كبيرة، ونقلوا لهم الأمراض. كما أن المنقبين قطعوا الأشجار وأثروا على المحصول الغذائي من الأسماك والحيوانات، ولكن تم إبعاد السكان الأصليين لاحقًا، ليعيشوا في مخيمات بعيدة عن كل ذلك الصخب.

تمثل الوجهة النهائية وهي مدينة داوسون الموجودة عند ملتقى نهري يوكون وكلوندايك، طوق النجاة وبداية تحقيق الأحلام لكل هؤلاء القادمين، لكن الواقع مختلف كلياً. تصف الصحفية فلورا شاو (Flora Shaw) تلك المدينة بالكلمات التالية:

بلدة داوسون عبارة عن مستنقع، ستجد مخلفات الخيم ملقاة خارج الأبواب، ومع وجودها ستشعر أنك تستنشق السم طوال الوقت.

أراضي الذهب

بدأت هذه البلدة كمخيم صغير لمئات الأشخاص، ونمت بسرعة مهولة ليصبح عدد سكانها عشرين ألفًا في صيف 1898. وفي كل يوم، يصلها مئات الأشخاص. رحلة قصيرة من تلك البلدة، ستوصلك لأراضي الذهب في كلوندايك والبالغ مساحتها 1200 متر مربع، المليئة بالجداول والأنهار والتلال. تلك البلدة كانت نقطة النهاية للكثير من عشرات الآلاف من المنقبين.

وصف الأرستقراطي فيدريك ومبول الليلة التي تسبق تنقيبه عن الذهب بأنها: “ليلة كان النوم فيها صعبًا، أفكر في القصة التي سأرويها. كم من الأرواح تحبط بعدم وجود الذهب، وهل سأكون واحدًا منهم؟” نادرًا ما يتواجد الذهب على  السطح، ويحتاج المنقب للحفر عميقًا حتى يتمكن من الوصول لها. السبب معروف كون الذهب يعد من أثقل المواد وزنًا، مقارنةً بالمواد الأخرى والمكونة للتربة.

بعد الحفر يتم اتباع الطريقة التقليدية، خذ حفنة من التراب واغسلها بماء الجدول مع الوقت ستظهر لمعة المعدن الأصفر. الشيء الذي يجب أن نعرفه، أن من يحصل على الذهب ليس بالضرورة أن يكون الأمهر بالتنقيب أو من لديه الخبرة، بل يعتمد الأمر  على الكثير من الحظ وعلى من يصل أولاً، ومن يختار الأرض المناسبة للحفر فيها.

قصة أمل لأشخاص ذهبوا للبحث عن الذهب من أجل مستقبل أفضل لهم

انتهت مذكرات إدوارد لي قبل أن يصل إلى داوسون، ولكن بعد سنوات اكتشفت عائلته كمية من الذهب أودعت في البنك من قِبل أخيه آرثر تقدر قيمتها 12708،49 دولار. فقضت ورا شاو أقل من ستة أشهر في منطقة يوكون، إلا أنّ  تقاريرها قادت إلى تغيير نظام الضرائب الخاص بالتنقيب عن الذهب. فوجد فيدريك ومبول الذهب، وآخر ما كتب في مذكراته:

“لم نقم بكسب الكثير من المال لكن الوقت الذي قضيناه كان ممتعًا والأهم أننا لم نفقد أي شخص منا”.

في أغسطس في عام 1899، بعد سنتين من رسوّ سفينة بورتلاند في ميناء سياتل، وأربع سنوات على قصة عثور جورج كارمك للمعدن الأصفر في كلوندياك، تواردت أخبار عن اكتشاف كبير للذهب في مدينة نومي في ألاسكا. بعدها بأسبوع تقريبًا، غادر عشرة الآف شخص مدينة داوسون، وانتهت معها قصة حمى الذهب في كلوندايك. مجموع ما حُصل من الذهب خلالها يقدر بثمانية عشر طنًا طوال السنوات الأربع. من المئة ألف الذين هاجروا إليها فقط أربعة آلاف وجدوا الذهب وبضع مئات منهم أصبحوا أثرياء.

يعتبر الكثير قصص المغامرين والمشاركين في عصر حمى الذهب قصصَ جشع وطمع. لكنها في الحقيقة قصة أمل لأشخاص ذهبوا للبحث عن الذهب من أجل مستقبل أفضل لهم. هي مثل ورقة اليانصيب، ضحوا بكل شيء من أجلها. عاد الكثير منهم محطمًا خالي الوفاض ليجد حياته زادت سوءًا. يذكر المنقب ويليام أوليف (William Olive): “جميع الرجال متحمسون. استقالوا من وظائفهم، وتركوا زوجاتهم وأطفالهم، رهنوا ممتلكاتهم للحصول على ملابس من أجل ماذا؟ العديد منهم نال الفقر أو التعاسة أو الموت أو التحرر من الوهم”.

الاقتصادالذهبالثقافة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية