السياسة على المائدة العربية
نحاول في هذا المقالة تتبّع حكايات المنسف الأردني وأساطيره ونقرأ البعد الإيديولوجي في اختلاف تأويلها، والبعد السياسي على المائدة العربية.
كي تقنع الكبار في الأردن بأنك كبرت، لا بد لك أولًا من إتقان طقوس أكل المنسف الطبق التقليدي الأكثر شهرة في الأردن. والخطوة الأولى يقوم بها المعزّب (المضيف)، إذ يسكب الشراب الساخن المصنوع من اللبن أو الجميد على اللحم والأرز.
وتعتمد الخطوة الثانية على الضيف، فإمّا أن يكون طفلًا أو جاهلًا بتقاليد تناول المنسف وحينها عليه أن يطلب ملعقة معدنية، وإمّا أن يكون عارفًا أو طفلًا يحاول أن يكبر فيجهز أصابع يده اليمنى في وضعية المجرفة ويغرزها. ويأخذ في خلط الشراب بالأرز صانعًا كرة أرزية متماسكة تتوسطها قطعة من اللحم البلدي ثم يتجه بها إلى فمه مباشرة.
والحقيقة أن قصة المنسف تتمرد على الإطار المعروف لها بصفتها أكلة شعبية، ليتضح أن لها طقوسًا وعادات تتصل بالتراث والتاريخ الأردنيين، وأنّ المنسف مرتبط بحكايات وأساطير خلقت تاريخًا خاصًّا جعل المنسف أكلةً وطنيةً للأردن. ثم اكتُشفت روايات وقراءات أخرى تحاول الإطاحة بالرواية الوطنية للمنسف وتحاول ربطه بالاستعمار البريطاني والدولة المابعد كولونيالية.
نحاول في هذه المقالة تتبّع حكايات المنسف وأساطيره ونقرأ البعد الأيديولوجي في اختلاف تأويلها.
المنسف: طقوس وتقاليد
يُطبخ لحم الذبيحة (ضأن أو ماعز أو غزال قبل انقراضه وتجريم صيد ما بقي منه) مع مريس الجميد أو اللبن المخيض الذي يتوفّر في وقت الربيع، ومن الممكن أن يُطبخ اللحم أولًا وحده بالماء ومن ثَم يضاف إلى اللبن.
وبعد أن ينضج، يُفرد خبز الشراك على سِدر (صحن) كبير ويوضع فوقه الأرز الأبيض المطبوخ وتوضع فوقه قطع اللحم ويصب فوقهما الشراب (اللبن)، كما يوضع رأس الذبيحة على السدر الذي يقدَّم أمام أكثر الضيوف وجاهة. وقبل دخول الأرز إلى الأردن في الأربعينيات، كان المنسف يُطبخ بالبرغل أو الفريكة.
غير أن دخول الأرز -الذي كان أغلى من أن يتمكن الأردنيون من شرائه- بدأ تدريجيًا، إذ إنه طبخ أول مرة في دعوة عامة في مدينة السَّلْط عام 1925. ومن ثم بدأ الناس يضيفون كميات قليلة يزيّنون بها وجه منسف البرغل إلى أن انتهى بهم الأمر إلى عكس الأدوار في الخمسينيات والستينيات، إذ أصبحوا يزينون بالبرغل وجه منسف الأرز.
ولربما جاء من هنا المثل الشهير «العز للرز والبرغل شنق حاله»، بسبب انتشار الأرز في بلاد الشام على حساب البرغل الذي أخذ انتشاره ينحسر.
في السابق، كان المنسف الذي يُقدَّم في كل المناسبات السعيدة والحزينة يؤكل على شكل طورات (جولات) بسبب طبيعة الحياة التعاونية للأردنيين ولفقرهم أيضًا، حيث تتقدم المجموعة الأولى من الرجال وبعد أن تنتهي تتقدم المجموعة الثانية وهكذا، وكان اللحم يقسّم إلى قطع صغيرة كي يكفي الجميع.
أما اليوم، فإن المنسف يقدم في سدور (صحون) صغيرة نسبيًّا ويتفاخر المضيفون بكبر حجم قطع اللحم التي تقدّم وتؤكل في جولة واحدة فقط. وثمة محاذير ينبغي على الضيف والمعزّب (المضيف) تجنبها، فلا يجوز أن يبدأ الضيف بأكل رأس الذبيحة لأنّ في ذلك إشارة إلى أن اللحم قليل، ولا يجوز للمعزّب أن يقدم لسان الذبيحة للضيف لأن في ذلك إشارة إلى أنّ لسانه طويل. وإذا قلع الضيف عيون الذبيحة فإن المضيف يفهم من ذلك إشارة تهديد له وربما لعشيرته.
ويلجأ المضيف أحيانًا إلى المبالغة في الاستعراض في الدعوات العامة،
خصوصًا إذا كانت هناك عداوة أو تنافس بين صاحب الدعوة وضيفه. فحين دعا راشد الخزاعي زعيم جبل عجلون الأمير عبدالله -وكان الخزاعي كثير التمرّد على الأمير-، قدم له ولضيوفه أكثر من ستمائة وخمسين منسفًا، حتى أنّ بعض الموجودين أكل على منسف وحده. علمًا أن أهالي جبل عجلون شاركوا زعيمهم في تكاليف هذه الدعوة الاستعراضية، إذ جرت العادة أن تتكاتف العشيرة أو القبيلة على توفير الذبائح والمواد اللازمة في الدعوات العامة.
وفي دعوات الصلح بين العشائر المتقاتلة التي بينها ثارات ودماء مراقة، يرفض رجال القبيلة الضيفة الأكل من المناسف حتى يتقدم رجال القبيلة المضيفة ويأكل كل واحد منهم لقمة من أحد المناسف تسمى «لقمة الأمان».
ونادرًا ما يُغدَر بالضيف بعد الأمان الذي توفره اللقمة، إلا أن التاريخ يسجل لنا حوادث وتغيرات جوهرية قامت إثر الغدر بلقمة الأمان، مثل حادثة تخلّص أبناء العدوان وحلفائهم من طاغية البلقاء المهداوي أمير الدولة المهداوية في شرقي الأردن. إذ ما إن شرع ورجاله في الأكل بعد أخذ الأمان، حتى استل رجال العدوان سيوفهم وأسلحتهم المدفونة في الرمل وقضوا على سلالة المهداوي معلنين سطوع نجم العدوان في فضاء البلقاء.
غير أن هذه الطريقة تظل مرفوضة في عُرف القبائل والعشائر خصوصًا إذا احتوى الأكل المقدم على الملح، إذ تُعدّ الممالحة أساس الأخوة والتحالفات في العرف القبلي وسط غياب سلطة الدولة الذي عانت منه الأردن في عهد الدولة العثمانية.
وكانت العشيرة إذا أرادت الغدر بعشيرة أخرى تقدم لهم المناسف خالية من الملح، كما حصل مع عشيرة العتوم في جرَش (ناحية المعراض سابقًا). إذ دُعيَت إلى وليمة لدى عشيرة معادية لها بنية الصلح وقُدِّمت لهم مناسف دون الملح، وحينما انتبهوا لذلك كان رجال العشيرة المعادية قد انقضوا عليهم حتى كادوا أن يفنوهم. واحتاجت عشيرة العتوم سنوات كثيرة حتى استطاعت أن تستعيد مكانتها وزعامتها بعد الحادثة.
بين التاريخ الوطني والتاريخ الاستعماري
أدّى تحوُّل المنسف من أكلة شعبية إلى رمزية وطنية يقدم الأردنيون هويتهم الغذائية من خلالها – إلى اتخاذ مواقف متناقضة منه تختلف باختلاف الموقف السياسي والرؤية الأيديولوجية، الأمر الذي خلق تاريخين متناقضين للمنسف:
الأول تاريخ عامودي يقف على امتداد الحضارات التي قامت على أرض الأردن ويصنع تاريخًا مترابطًا عبر العصور.
والثاني تاريخ أفقي مرتبط بالعلاقة مع الاستعمار البريطاني ويمثل استمرارًا لسياساته في خلق هوية وطنية مصطنعة وقائم على هدم فرضيات التاريخ الأول.
يعود الاتجاه الوطني ثلاثة آلاف عام إلى الوراء، إلى المملكة المؤابية في عهد الملك الأردني القديم ميشع وإلى صراعه مع مملكة يهوذا، ويعود في المقابل إلى نص التوراة الصريح بتحريم أكل المنسف: «لا تطبخ جديًا بلبن أمه». وفي إطار الصراع المؤابي-اليهودي، حرض ميشع شعبه على طبخ الجدي بلبن أمه تحديًا لتجبّر المملكة اليهودية، ومن هنا نشأت علاقة الأردني القديم بالمنسف.
ويقال إن ميشع -حينما انتصر- أجبر الأسرى اليهود على تناول المنسف المحرّم في عقيدتهم في محاولةٍ لإذلالهم. ويعيد بعض الباحثين تاريخ المنسف إلى فترة أبعد في الزمن تتجاوز سبعة آلاف عام؛ إذ أثبتت الاكتشافات الأثرية وجود أوانٍ تشبه شكل «السدر» الذي يقدَّم فيه المنسف، أي أنه عرف الأكل الجماعي.
كما كان للإنسان الذي عاش في تلك الفترة وفرة في المواشي والحليب. وبناءً على كل ما سبق، فلا بد لهذا الإنسان -يفضل أصحاب هذا الاتجاه استخدام مصطلح الأردني القديم- أن يعرف المنسف.
وفي المقابل، ثمة تيار له موقف جذري في معارضة النظام الأردني ويسعى إلى ربطه دائمًا بما يسمى «الدور الوظيفي للدولة» الذي أوجده الاستعمار البريطاني، ويعدّ أي شيء تشجعه الدولة استمرارًا لنهج الاستعمار وفكرة المؤامرة بما في ذلك المنسف.
جوزيف مسعد وصناعة الهوية
يأتي كتاب «آثار استعمارية: تشكيل الهوية الوطنية في الأردن» للباحث الأردني جوزيف مسعد -أحد أبرز تلامذة إدوارد سعيد- في طليعة هذا التيار. إذ قدم رؤية متكاملة لصناعة الهوية الوطنية في الأردن ضمن مشروع الاستعمار وصنيعته «الدولة الوطنية» التي بدأت على يد الضابط البريطاني قلوب باشا قائد الجيش العربي الأردني، ونضجت على يد النظام الأردني.
يقول مسعد:
يكمن إبداع قلوب في تحريكه عملية إنتاج ثقافي كاملة، أدت إلى نزع البداوة عن بدو الأردن، وفي الوقت نفسه إعادة تعريف كل ما قدمه بوصفه بدويًا
وذلك في سبيل خلق هوية بدوية متخيَّلة وتعميمها على كل سكان الأردن سواء كانوا بدوًا أو فلاحين أو حضرًا.
ويقدم مسعد عدة حجج لإثبات فرضيته وتطبيقها على المنسف بوصفه الطبق الذي قنّنه مهندسو الهوية الأردنية، فهو يذهب إلى القول إنّ المنسف ليس أردنيًا بدليل أنه يُطبخ في بعض مناطق فلسطين وجنوب سوريا. ويستدل أيضًا بأن المنسف لم يكن معروفًا بشكله الحالي إلا عند الفلاحين (كان يطبخ بالبرغل أو الفريكة قبل دخول الأرز).
ورغم أن البدو طبخوه مع مرق اللحم (لحم الخراف أو الإبل) والخبز فقط، إلا أنه أصبح في فترة متأخرة، وبعد سنوات من تعريب قيادة الجيش وطرد قلوب عام 1956، الطبقَ البدوي بامتياز والأكلةَ الوطنيةَ للأردن.
ويستند إلى حداثة عهد الأردنيين بالأرز الأبيض، الذي دخل بسبب نشاط العلاقات التجارية الكولونيالية، كي يوجه الضربة القاضية لوطنية المنسف وليؤكد
أن معظم مكونات المنسف الحالية جاءت بها الدولة الانتدابية-الهاشمية والدولة الهاشمية بعد الاستقلال، وأن المنسف الجديد أعيد تكوينه وتقديمه (كطبق تقليدي)، وحينها فقط تمت وطننته
المنسف خارج سياق الأيديولوجيا
إن أي تأويل مبني على التحيّز الإيدولوجي سيلجأ حتمًا إلى التاريخ كي ينتقي منه الأدلة والشواهد التي تناسب فكرته وتدعمها. فالتيار الأول رجع بالزمن آلاف السنوات واستند إلى التوراة كي يوجِد لنفسه سردية قادرة على إضفاء صفة الأصالة على شخصيته الوطنية.
وإن كان لهذه السردية أساس أولي يدعم الفكرة مثل نص التوراة ووجود ميشع وحربه مع اليهود، فإننا نفتقد الأدلة التاريخية التي تؤكد بقية التفاصيل سوى ما تؤكده الروايات الشعبية.
أمّا التيار الآخر، ورغم أنه يلجأ إلى تحصين نفسه عبر كم كبير من التوثيقات، فإنه يرى أن كل حدث أو نشاط إنساني يحدث في زمن الاستعمار أو الدولة ما بعد الاستعمارية ناتج بالضرورة عن مخطط استعماري أو مؤامرة استخباراتية، ويهمل التطوّر الاجتماعي للشعوب ودوره في صناعة هويتها انحيازًا منه إلى نظرية المؤامرة.
وبعيدًا عن مذاهب التاريخ واحتمالات التأويل، يظل المنسف الأكلة المفضلة لدى الأردنيين على اختلاف أصولهم وتنوّع مشاربهم، وهم غير معنيين بالقراءات الأيديولوجية لمعشوقهم، بل يفضلون التواصل بعيدًا عن أي معطيات تاريخية أو رسميات يمكن أن تعكّر علاقتهم الصوفية بهذا الطبق. وإذا أردت اختيار يوم مناسب لطبخ المنسف فلا بد لك من اختيار يوم الجمعة، لأن الإفراط في أكل المنسف وشرابه يدخلك في حالة من تعطيل الدماغ قريبة من الحالة التي يسببها الحشيش، ويوم العطلة مناسب لتعاطيه (أقصد المنسف).
وفي المناسبات والولائم العامة يكترث الأردنيون بسؤال جوهري واحد: «هل اللحم المستخدم في المنسف بلدي أم مستورد؟» أكثر من انشغالهم بسؤال هوية المنسف التاريخية: أهي وطنية أم استعمارية؟
فاتركوهم يلتهمون المناسف بسلام آمنين!