شوارع المشاة: تصميم المدن وجودة الحياة
يطرح الكاتب أيمن اليحيى أسئلته حول تصميم المدن، ويجيب في ثمان خطوات مبسطة تساعدنا في جعل شوارع المشاة ومدننا أكثر استدامة.
تعد الشوارع المُكوّن الأساسي والشريان الحيوي لأي مدينة في العالم، وناظمًا مهمًا لها، وبوصلة للحركة السكانية والفيزيائية فيها. ولا شك في أنّ تخطيط الشوارع من أهم الأمور التي يجب أن تحظى باهتمام واضعي المخططات العمرانية. ويكفي القول إنّ من معظم حوادث السير يعود سببها إلى سُوء تخطيط الطرق والشوارع (شوارع ضيقة – تقاطعات عديدة – تغييرات مفاجئة في الاتجاه – رؤية سيئة – منعطفات غير نظامية وغيرها). لكن الشوارع ليست للحركة فحسب، بل هي أيضًا لدعم استخدامات الأراضي الواقعة على امتدادها، بما في ذلك مساحات المقاعد الخاصة في المقاهي وأماكن التواصل الاجتماعي وملاعب الأطفال والأماكن العامة، كما أنها تساهم في تحقيق النجاح الاقتصادي للمؤسسات والشركات الواقعة عليها.
في السعودية اليوم، نعيش في مساحات كبيرة عرضًا وطولًا تملؤها شوارع كبيرة رئيسة وغير رئيسة تتفرّع منها شوارع أخرى في كل جانب، جميعها مخصصة للسيارات ولا شيء غير السيارات. وفي معظم مدن المملكة، نرى مساحات شاسعة تسير عليها السيارات ولا نكاد نرى مساحة مخصصة للمشاة فضلًا عن طريق خاص بالدراجات الهوائية التي لا تقل أهمية عن غيرها. لقد قيّدَت السيارات حركتنا وجعلتنا أقل حيويّة، بل واغتالت بيئتنا وحرمتنا من الهواء النقي في كثير من الأماكن.
هل يتمحور تصميم المدينة حول السيارات أم حول الناس؟
الحوادث المرورية من أكثر الأمور المسببة لموت كثير من الناس. هل هي أمر طبيعي يحدث في الطريق؟ تقول الإحصائيات إن عدد الوفيات في السعودية يصل إلى 24 حالة وفاة من كل 100,000 شخص سنويًّا، وهي نسبة عالية مقارنةً مع باقي دول العالم. هل هذه النسبة العالية بسبب السرعة فقط؟ ماذا عن تخطيط الشوارع وتصميم المدينة بشكل عام؟ هل يتمحور تصميم المدينة حول السيارات أم حول الناس؟ لأنه وببساطة لو كان تصميم المدينة يتمحور حول السيارات فقط، فإن نسبة اصطدام السيارات ببعضها في الطريق تُصبح مرتفعة أكثر.
تتميز أعظم المدن في العالم بأن المشي فيها يعد أمرًا ممتعًا وآمنًا، وهو ما يؤدي إلى تخفيض معدلات القيادة وكذلك تحسين مستوى الصحة العامة. فهو أكثر الخيارات التي يستطيع القيام بها أي شخص من كافة طبقات المجتمع للتنقل من مكان إلى آخر، ولا يتطلب دفع المال لغرض التنقل أو الانتظار وسط الزحام لساعات في طريق مكتظ بالسيارات. وتتجلى أهمية المشي في أنه عملية نظيفة وسهلة على البنية التحتيّة وصحية للفرد وجزء لا يتجزأ من عيش المجتمع. الناس الذين يسيرون على أقدامهم يعرفون جيرانهم وحيّهم، والمجتمع الذي يهدف إلى دعم المشي مجتمعٌ جذّاب صالح للعيش. ويكون المشي أكثر أهمية لأولئك الذين لا يقودون السيارة لظروف مادية أو اجتماعية. كما أنّه يُعبّر عن السعادة، وعن جودة الحياة، ويخلق ثقافة مجتمعية رائعة. حيث تبدو لنا الحياة أكثر جمالًا عندما نسير لمسافات طويلة.
يمكن للمشي أن يؤثر تأثيرًا كبيرًا على الدخل
تؤكد دراسات عديدة نفسية واجتماعية أن للمدن ذات البنية التحتية والتصميم المهيأ للمشي والحركة تأثير إيجابي على صحة السكان. وتؤكد كذلك على أنّ للمساحات الخضراء والزهور والأشجار واتساعها أمام الإنسان تأثيرها الإيجابي على نفسيته، حيث تعمل كمخفف صدمات للعاملين والموظفين بتقليل نسبة الشعور بحالات التوتر والقلق، وتنشر في نفوسهم روح الاطمئنان. بل يمكن للمشي أن يؤثر تأثيرًا كبيرًا على الدخل لدى أفراد المجتمع، حيث إن كثيرًا من الناس الذين يقودون سياراتهم كل يوم ينفقون ما يقارب الثلث من دخلهم الشهري على التنقل.
للاهتمام بتوفير بيئة آمنة للمشاة باستخدام الأسس التخطيطيّة والتصميميّة المتكاملة لشبكة الحركة (الآلية – المشاة) الأثر الكبير في تحسين نوعية الحياة وتحقيق الاستدامة للمناطق العمرانية. فقد لعبت الحركة الآلية دورًا مهمًا في تفكّك وعدم استدامة النسيج الحَضَري داخل المدن، وأصبح هناك تحدٍّ في توفير مكان نظيف وآمن ومستدام من الناحية البيئية للعمل والإقامة والترفيه في أي حيّز حَضَري. وهناك العديد من التجارب العالمية والإقليمية التي اهتمت بهذه الأسس مثل مدينة فيينا وإسطنبول وسنغافورة وكذلك مدينة الوثبة في إمارة أبوظبي وبعض الدول الأوربية، حيث اهتمت بالمشاة مما ساعد على زيادة التنمية الاقتصادية والبيئيّة والاجتماعية لديها.
الاستدامة
تأتي أهمية شوارع المشاة في المدن عبر الأحياء السكنية والمناطق التجارية تماشيًا مع وجود قطار الرياض الذي سيزيد من أولويّة شوارع المشاة، والاستفادة الكاملة من محطات القطار وتفعيل دورها داخل الأحياء والمناطق السكنية والتجارية. وتمتد أهمية شوارع المشاة في تحقيق الاستدامة في التصميم العمراني لتشمل محاور الاستدامة الثلاثية الأبعاد:
1- الأهمية البيئية
التقليل من التلوث البيئي الناتج من عوادم السيارات.
المحافظة على التنوع الحيوي في المناطق العمرانية.
المحافظة والاهتمام أكثر بالمناطق الخضراء.
إيجاد بيئة آمنة للمشاة داخل مراكز المدن والمناطق العمرانية.
2- الأهمية الاجتماعية
زيادة التفاعل والتواصل الاجتماعي بين سكان المنطقة العمرانية والشعور بالانتماء إلى المكان.
الشعور بالأمان والطمأنينة داخل البيئة العمرانية.
المساعدة على تغيير ثقافة المجتمع بزيادة الاهتمام أكثر بالمشي إلى أماكن العمل والتسوّق.
توفير بيئة صحيّة داخل المناطق العمرانية خالية من التلوث البيئي قدر الإمكان.
3- الأهمية الاقتصادية
الاهتمام بتخطيط شوارع المشاة يُوفر في كلفة الشوارع من حيث المساحة والعروض ومواد البناء المستخدمة.
التقليل في تكلفة التنقل من مواقع السكن إلى أماكن العمل أو الذهاب للتسوّق.
جذب السياح والزائرين لمناطق المشاة التي تتسم بالطابع المعماري والعمراني المحلي المميّز.
عدّ المباني المجاورة لشوارع ومناطق المشاة مشاريع للتنمية الاقتصادية.
الهيكل الخاص بمناطق المشاة
في كتاب «مدينة يمكن المشي فيها» (Walkable City)، يقول جيف سبيك (Jeff Speck): إن أردت لثقافة المشي أن تنتشر في المجتمع، فيجب عليك أن توفر شوارع ومناطق للمشاة بجودة الشوارع المخصصة للسيارات أو أفضل منها. ماذا يعني ذلك؟
يعرض جيف نظريته في ثنايا الكتاب ويذكر أن رغبة الناس في أن يختاروا المشي على أن يختاروا استخدام السيارات تتمثل في وجوب تقديم وتوفير عدة خطوات مهمة في وقت واحد أسماها الكاتب بالهيكل الخاص بمناطق المشاة:
الخطوة الأولى: «وضع السيارات في مكانها الصحيح»
ليس المفتاح لذلك القضاء على السيارات، وإنما إدارتها بشكل جيد بحيث لا تأخذ حيزًا أو مساحات أكبر تكون منطقة المشاة المرادفة للطريق الأجدر والأحق في أخذها. ومن ثم ربما تتقلص المساحة الخاصة بالمشاة أو ربما تختفي نهائيًا بسبب زيادة عدد المسارات في الشارع الواحد لمصلحة السيارات.
بشكل أكثر وضوحًا، لكي تتجول في أي مدينة من مدن المملكة فأنت بحاجة إلى وسائل تنقلك بأي طريقة إلى المكان الذي ترغب بالذهاب إليه، سواءً للتسوق أو لقضاء احتياجاتك الخاصة بالعمل، أو حتى للذهاب مع الأصحاب في عطلة نهاية الأسبوع في مدينة الرياض مثلًا. ولأن السيارات هي الوسيلة الأولى والأساسية للتنقل في مدن السعودية، فأنت بحاجة إلى استخدام السيارة كغيرك من الناس. لذا فإن المدينة بخدماتها تبدأ بإعادة تشكيل نفسها حول احتياجات الناس الذين يعيشون فيها، فتبدأ الشوارع بالاتساع من خلال وضع مسارات أكثر من ذي قبل لتخفيف الزحام وسد احتياجات الناس، ثم تظهر شوارع جديدة مرادفة لشوارع سابقة في محاولة أخرى لحل مشكلة الزحام والسيارات المتزايدة.
لكن الحقيقة أن تلك الحلول غير مجدية، فهي أشبه بالحبوب المهدئة التي تعمل على تخفيف الألم وليس إزالته. وذلك لأنّ كثرة السيارات في المدينة والازدحام فيها ليس مبررًا لوجوب وضع مسارات أخرى جديدة في الشارع الواحد. والسبب ببساطة هو أن عدد السيارات سيزداد تلقائيًا بعد كل مسار جديد يوضع وعندها فالمشكلة لا تنتهي وإنما تتفاقم أكثر.
الخطوة الثانية: «دمج الاستخدامات ببعضها»
تُشجّع تلك الخطوة على المشي من خلال وضع المنازل وأماكن العمل، والأعمال التجارية على مسافة قريبة من بعضها البعض وتسهيل عملية الوصول إليها بالسير على الأقدام، بحيث يتسنى لمستخدمي مناطق وشوارع المشاة قضاء أعمالهم واحتياجاتهم الحياتية بكل راحة وسهولة.
الخطوة الثالثة: «وضع مواقف السيارات بشكل صحيح»
في كثير من دول العالم، لا بد لك من دفع مبلغ لا يقل عن 3 دولارات للساعة الواحدة في أوقات الذروة لاستخدام مواقف السيارات داخل المدينة، وذلك لتقليل نسبة استخدام الناس للسيارات وحثّهم على استخدام وسائل النقل العامة كالقطارات والحافلات واستخدام شوارع المشاة. يسير الأمر في السعوديةعلى العكس تمامًا، فالوضع العام للطرق والمواصلات وتخطيط الشوارع أشبه بتشجيع الناس على قيادة السيارات في كل أمور حياتهم داخل المدينة. كثير من الناس سوف يتوقفون عن التفكير في استخدام السيارة عندما يعلمون أنه ليس باستطاعتهم إيقافها في أي مكان في الشارع، ونسبة كبيرة منهم سوف يضطرون إلى المشي عندما لا تكون مواقف السيارات مجانًا في أوقات الذروة. من شأن هذا أن يخفف زحام الطرق ويشجع الناس على استخدام شوارع المشاة.
الخطوة الرابعة: «حماية المشاة»
تكون حماية مناطق المشاة والناس الذين يسيرون فيها من خلال التحكم بالسيارات في المقام الأول. وإجبار السائقين على تخفيف السرعة والقيادة ببطء أكثر من خلال فرض القوانين الصارمة – يساعد على ارتفاع معدّلات السلامة لكلٍّ من السائقين ومستخدمي شوارع المشاة. بالإضافة إلى ذلك، تجعل الشوارع الواسعة السائقين يقودون فيها بسرعة، ولذا فإن تقليل المسارات في الشارع الواحد يساعد على تخفيف السرعة. ومن العوامل المهمة كذلك الأرصفة الآمنة لحماية المشاة. وليس بالضرورة أن تكون الأرصفة الآمنة أرصفة كبيرة، وإنما إحاطة الشوارع بالأشجار الكثيفة تعمل بدورها على حماية المشاة من السيارات وتساعد السائقين كذلك على تخفيف السرعة، حيث إن الشوارع المحاطة بالأشجار من كل جانب تؤثر تأثيرًا إيجابيًّا على نفوس السائقين عكس غيرها من الشوارع، إلى جانب أنها صحية للمناخ ومناطق المشاة والشوارع كذلك.
الخطوة الخامسة: «التشجيع على استخدام الدراجات الهوائية»
تشجيع ركوب الدراجات الهوائية في المدن وسيلة فعالة من حيث التكلفة لزيادة سلامة راكبي الدراجات والمشاة كذلك. واستخدام الدراجات الهوائية يُخفف من زحام السيارات في المدن ويقلل من نسبة إنفاق الفرد على وسائل التنقل في المدينة، ويساعد ذلك على ارتفاع معدلات الصحة العامة في المجتمع.
الخطوة السادسة: «تشكيل الفراغات»
من شأن إغلاق الأماكن المكتظة بالأسواق والمطاعم ومحلات القهوة والمقاهي ومنع دخول السيارات في أجزاء كثيرة منها عن طريق إعادة تشكيل أرصفتها وجعلها منطقة خاصة بالمشاة – أن يجعل الناس يشعرون بالراحة والأمان. تؤدي الهندسة المعمارية في المنطقة وانتشار الأشجار في تلك الأماكن دورًا مهمًا في خلق أجواء رائعة ومليئة بالحياة. وقد يكون أقرب مثال لتطبيق ذلك هو الازدحام الذي يحصل في شارع الأمير محمد بن عبد العزيز (التحلية سابقًا) في مدينتيْ الرياض وجدة.
الخطوة السابعة: «خلق مناطق مشاة أكثر جاذبيّة»
يجب أن تتفاعل الهندسة المعمارية في المنطقة مع الشارع والمكان لخلق وجه آخر مختلف ومتنوع ومثير للاهتمام. ووضع مناطق للمشاة أمر مهم، ولكن جذب الناس لهذه الأماكن تحدٍّ آخر. يمكنك إعادة الحياة لكثير من الأماكن في المدن لجذب الناس إليها من خلال الاهتمام باللوحة المعمارية، وإحاطة المكان بالأشجار وكراسي للجلوس وساحات للأطفال، ولقاء الناس ببعضهم البعض وجعلها منطقة حيوية وآمنة وممتعة.
الخطوة الثامنة: «اختيار الأفضل»
في الخطوة الآخيرة، يضع الكاتب جيف سبيك خطة لتطبيق جميع الخطوات السابقة. ولتنفيذ كافة الخطوات على كافة الشوارع في المدن، سيكون من الصعب على العديد من المدن أن تتحمل ذلك ماليًا، ومن ثم فإن الانتقائية في اختيار الشوارع وسيلة هامة لربط كل ذلك معًا. تكون البداية بتطبيق هذه الخطوات على الشوارع المثالية في المدينة التي هي بالفعل في طريقها إلى أن تصبح كذلك، مثل شارع الأمير محمد بن عبدالعزيز (التحلية سابقًا) في مدينتيْ الرياض وجدة وغيرها من الشوارع الحيوية في مدن المنطقة الشرقية والقصيم ومنطقة الحجاز ومدن أخرى. ثم بعد ذلك استخدام الشوارع الثانوية لربط تلك الشوارع التي اُختيرت في البداية.
من الصعوبة بمكان إنقاذ الناس جميعًا في وقت واحد، لكن إنقاذ جزء من الناس من التدهور الصحي والبيئي في البداية أمر ضروري. وفي النهاية فإن ثقافة المشي سوف تنتشر بين الناس شيئًا فشيئًا.
ثمانية