الالتفات إلى آلام غزَّة

لماذا من الضروري أن نرى الجحيم الواقع عليه؟ حتى لا نعيش في وهم «العالم الإيجابي» وأنَّ لا وجود لفظائع شنيعة تُرتكب بحق البشر على يد البشر.

كم صورة مأساوية لأهلنا في غزة شهدتها حتى الآن في الأيام الماضية؟ لم لا نعود إلى الوراء قليلًا، كم صورة مأساوية شهدناها لأهلنا في فلسطين خلال الخمس سنوات الماضية؟ العشر الماضية؟ الأربع والأربعين الماضية (عمري الذي سأبلغه هذا الأسبوع)؟ السبعين الماضية (عمر والدتي الذي بلغته الشهر الماضي)؟ 

هل تغيَّر شيء للأفضل؟ 

ما دام لم يتغيَّر شيء للأفضل بل للأسوأ، هل من الأخلاقي التقاطها؟ هل من الأخلاقي مشاهدتها ومشاركتها؟ ألن نكون مجرد جمهور آمن يطَّلع على صور أناس في أقسى وأشرس وأفتك اللحظات (وفي عصرنا هذا، ألسنا نحوِّل معاناتهم إلى مجرَّد محتوى نكتسب من ورائه تفاعلات على إكس وإنستقرام وفيسبوك؟)

هذا السؤال تطرحه سوزان سونتاق في كتابها «الالتفات إلى ألم الآخرين» (Regarding the Pain of Others)، ولماذا واجبنا الأخلاقي يفرض علينا أن نشاهد هذه الصور المؤلمة، صورة صورة، بعينين مفتوحتين.

كإنسانة مقيمة في دولة مستقرة بعيدة عن خط الحرب والمأساة الجارية، فقراري ما بين متابعة ما يجري في غزة أو الابتعاد حتى لا أكون مجرَّد «مشاهدة» لمحتوى مأساوي هو قرار نابع أساسًا عن امتياز استهلاكي وليس نابعًا عن موقف أخلاقي. تقول سونتاق: «إذ ما أسهل على الجالس آمنًا، بعيدًا عن الأذى، أن يدَّعي لنفسه موقفًا أخلاقيًّا ويقلِّل من جهود أولاء الذين يحاولون أن يكونوا شاهدين على الكارثة من خلال الكاميرا.»

هذا الإدراك، أنَّنا نتمتَّع بامتياز استهلاكي، يحثنا أكثر على التعاطف مع الآخر في الصورة لأنه محور الحدث وليس نحن، أنَّه بهذه الصورة أرانا الجحيم الواقع عليه. ولماذا من الضروري أن نرى الجحيم الواقع عليه؟ حتى لا نعيش طيلة الوقت في وهم «العالم الإيجابيّ» وأنَّ لا وجود لفظائع شنيعة تُرتكب بحق البشر على يد البشر. تقول سونتاق: «فمن يصر على التوهُّم ببراءة الحياة كلما واجه أدلَّة على جرائم البشر المرعبة إنسانٌ لم يصل مرحلة الرُّشد الأخلاقي والنفسي. ولا يحق لأحد بعد بلوغه سنًّا معينة أن يكون بهذه السطحيَّة والجهل.»

لكن ما بيدنا فعله أمام مشاهدة هذه الصور؟ الإحباط من العجز المتراكم قد يدفع البعض إلى اعتبار فعل التقاط تلك الصور ومشاركتها فعلًا يفتقد الإنسانية والحساسيَّة، لا فائدة منها سوى الأذى النفسي الذي يصيب الرائي. هذا الإحباط من العجز يأتي من افتراضنا أنَّ الصورة يفترض بها أن تغيّر مسار الأحداث، لكن الصورة لا يفترض بها تغيير مسار الأحداث (بالطبع ثمة صور غيرت مسار الأحداث أشهرها صورة استشهاد محمد الدرة في حضن أبيه بوابل الرصاص الصهيوني وجري الطفلة الفيتنامية «فان ثي كم فوك» بجسدها العاري المحترق تحت وابل قذائف النابالم الأمريكية.)

تقول سونتاق: «كل صورة من صور مآسي الحرب دعوة إلى الالتفات والتأمُّل والتعلُّم واستدراك المنطق الذي تفكِّر به القوى الكبرى لدى إسقاطها الأسى والمعاناة على البشر.» 

وأيضًا، هذه الصور تشكّل الذاكرة بعدما نعود إلى حياتنا الطبيعية كما عدنا إليها كل المرات الماضية، وتغرس حيّزًا لها في اللاوعي وفي ذاكرتنا الجمعيَّة. وسلاح «ألا ننسى» سلاحٌ أثبت التاريخ أنه لا يُستهان به أبدًا.

شاهدتُ في الأيام الماضية صورًا ومشاهد أليمة لأهلنا في غزة تحت وابل قصف الاحتلال الهمجيّ الإسرائيلي والحصار الإجراميّ من قطع الماء والكهرباء، وأعرف أننا سنشهد صور أشد إيلامًا في الأيام المقبلة، بعضها قد يكون مغبَّشًا خلف التحذير (sensitive image) مع عينٍ مشطوبة تدعوني ألا أراها. وسأضغط على الصورة وأراها، وألتفت كل مرة إلى آلام غزَّة بعينين مفتوحتين. 

(أدرك وأنا أقتبس من كتاب سوزان سونتاق، وبعد المواقف التي تتوالى من الغرب، أنَّها لو كانت حيَّة معنا اليوم فثمة احتمال أنها ستدعم الكيان الإسرائيلي في بوست على إنستقرام، وكل هذه الصور الأليمة من غزة ما كانت لتدفعها إلى الالتفات.)

الإنسانفلسطينالرأي
نشرة أها!نشرة أها!نشرة يومية تصاحب كوب قهوتك الصباحي. تغنيك عن التصفّح العشوائي لشبكات التواصل، وتختار لك من عوالم الإنترنت؛ لتبقيك قريبًا من المستجدات، بعيدًا عن جوالك بقية اليوم.