الحكم الآليّ يسلبنا أسطورة الرياضة
سنفقد روح الرياضة ومتعتها إذا ألغينا الجانب الإنساني في التحكيم واعتمدنا «الحكم الآلي»؛ لأن الخطأ البشري صورة من صور «التدخل» الغامضة.
العام: 1986، الحدث: ربع نهائي كأس العالم. يكفي أن أذكر هاتين المعلومتين لتعلم أنني أتحدث عن الهدف «الأسطوري» لمارادونا الذي سجَّله بيده. هذا الهدف أسهم في فوز منتخب الأرجنتين في تلك المباراة فأوصلها إلى الفوز بالبطولة، وصنع من مارادونا «أسطورة» في الملاعب وخارجها.
تصوَّر لو تكررت هذه الحادثة في نهائيات كأس العالم الأخيرة 2022، لما احتُسِبَ الهدف. فاليوم لدى الحكَّام تقنيات مراقبة عالية الدقة تساعدهم على اتخاذ قرارات حاسمة في حالات كانت ستثير جدلًا كبيرًا لو لم تتوافر تلك التقنية.
لكنْ مع ظهور هذه التقنيات وتطورها الكبير ظهر نوعٌ آخر من الجدل؛ فكثير من الناس أبدى معارضته الشديدة لها بحجة أنها تُفقِد اللعبة روحها التنافسية لأنها تقتل متعة اللعبة، إذ إن الأخطاء البشرية غير المقصودة جزءٌ لا يتجزأ منها.
فنحن الآن بين اتجاهين: إما أن نعتمد اعتمادًا كليًّا عليها وإما أن نرفضها.
لنأخذ على سبيل المثال حالة التسلل في كرة القدم. لو افترضنا أن رِجْل المهاجم تقدمت على آخر مدافع بمقدار سنتيمتر واحد فقط، في هذه الحالة لن يقرر حكم الراية أن هذه حالة تسلل؛ لأن السنتيمتر الواحد لا يُرى من بعيد بالعين المجرّدة. ولكن لو كان القرار لحَكَم آليّ (صورة متقدمة عن تقنية الفار تعتمد الذكاء الاصطناعي) لقرَّر على الفور أن الحالة تسلل، حتى لو كانت قَدَم المهاجم متقدمة بأجزاء من السنتيمتر. حالة مثل هذه ستثير حَنَق جماهير الفريق المهاجم؛ لأن قَدَم المهاجم «عمليًا» لا تُعد متقدمة على المدافِع.
قد يتبادر إلى الذهن أن من الممكن أن يكون هناك حل وسط بينهما كما فصّلت الصحافية كليو في هذا الفيديو، والفكرة هي أن نبرمج هامِش خطأ في الكمبيوتر قبل اتخاذ القرارات. مثلًا: يمكن لنا أن نبرمج هامش خطأ بمقدار 5%، بحيث يكون أداء الآلة مُقاربًا للعين البشرية. ولكن هذا يتعارض مع الهدف الأساسي الذي من أجله اتخذنا هذه الآلات لنحتكم إليها! فنحن نرجع إلى الآلة لأنها أدقّ من البشر وعديمة الانحياز لطرفٍ دون آخر.
لا ننكر أنَّ التقدم التقني في اتجاه مستمر إلى «الأتمتة» الكاملة في الملاعب، وليس بعيدًا أن نستغني في النهاية عن الحكم البشري لأننا نستطيع أن نعتمد بثقة كبيرة على الآلة. هذا ما أرفضه شخصيًا؛ لأننا بالمبالغة في استخدام التقنيات في إنتاجاتنا البشرية بهذه الطريقة إنما نحوّل مكامن استمتاعنا إلى مجرد نتاج آلة لا نتاجَ إنسان؛ وبهذا نفقد الرابطة بين المؤدي والمتلقي.
إذ لنسأل أنفسنا مرة أخرى: ما أساس استمتاعنا بالأداء البشري؟
سواء أكانت رياضة أم موسيقا أم كوميديا أم أي شكلٍ من إنتاجات البشر الفنية، أعتقد أن السبب هو إيجاد هذه الرابطة الإنسانية بين المؤدي والمتلقي؛ لأنني كمتلقٍّ أعرف أن هذا الأداء ناتج من إنسان مثلي بكل عيوبه ومزاياه وانتصاراته وكبواته، وأن هناك أصالة حقيقية لعمله بسبب تراكم خبراته الإنسانية.
وإذا تعمَّقنا أكثر في التحديات الرياضية تحديدًا دون غيرها فسنجدها صورة «سِلمية» من «حَرب» يخرج منها منتصر ومهزوم. فنحن نرى عبر التاريخ «هامش القدَر الإلهي» حاضرًا في جُلِّ الحروب منذ عصر «الإلياذة». وأكاد أزعم أن أسطورة مارادونا لم تكن لتصير بهذا الحجم لولا حادثة «هدف اليد» الذي عبّر هو عنه بأن «يد الرب» هي التي ضربت الكرة.
ولذلك أرى أننا سنفقد كثيرًا من روح الرياضة ومتعتها إذا نحن ألغينا الجانب الإنساني في التحكيم واعتمدنا «الحكم الآليّ»؛ لأن الخطأ البشري صورة من صور «التدخل» الغامضة التي تكتمل بها تجربتنا «الأسطوريَّة» سواء في حروبنا الرياضية أم في معارك الحياة.
نشرة يومية تصاحب كوب قهوتك الصباحي. تغنيك عن التصفّح العشوائي لشبكات التواصل، وتختار لك من عوالم الإنترنت؛ لتبقيك قريبًا من المستجدات، بعيدًا عن جوالك بقية اليوم.