من يحك أنفه كذَّاب

الإنترنت يتيح لنا بحرًا من المعلومات التي تساعدنا ألا نجهل كثيرًا من العلوم، لكن في المقابل لا يعني هذا أننا أصبحنا عالمين ببواطن الأمور.

بمجرد أن غادر زميلنا الجديد طاولة الاجتماعات همس أحدهم بأذني «هل لاحظت أنه حك أنفه في أثناء الحديث عن سبب تركه وظيفته السابقة، إنه كاذب بلا شك». ظللت طوال اليوم أفكر في الأمر وأتذكر نفسي في كل مرة كنت أتحدث فيها بمنتهى الأريحية مع هذا الزميل القديم معتقدًا أنه يشاركني الحديث، على حين كان يجلس «قبالي» يتابع حركات يدي ووضعية جلوسي.

قررت في اليوم التالي إجراء استبانة مصغرة من سؤالين داخل محيط العمل، الأول: هل تعتقد أن حك الأنف في أثناء الحديث دلالة على الكذب؟ إذا كانت الإجابة بنعم، فمن أين لك هذه المعلومة؟ جاءت النتيجة مفاجئة، فأكثر من 70% كانت إجابتهم «نعم» وأكثر من نصف المجيبين بنعم كان الإنترنت مصدرهم الوحيد لتلك المعلومة!

لا أحد ينكر أنَّ الإنترنت يتيح لنا بحرًا من المعلومات التي تساعدنا ألا نجهل كثيرًا من العلوم، لكن في المقابل لا يعني هذا أننا أصبحنا عالمين ببواطن الأمور.

إذ تؤكد دراسة أجراها «المركز الوطني لمعلومات التقنية» في الولايات المتحدة أنه لا يمكن الاعتماد على لغة الجسد؛ لأنه نهج يمكن تزييفه. ويتفق في ذلك بحثٌ قدَّمه «مركز علاقات العمل» في جامعة «كوينز» بكندا وأكَّد أن لغة الجسد ليست مؤشرًا موثوقًا على الصدق أو عدم الأمانة. فالإشارات غير اللفظية مثل ملامسة العين وحركة القدم والتململ، والإشارات اللفظية مثل أخطاء الكلام، لا يمكن عدَّها مؤشرات للخداع.

في كتاب «التحدث إلى الغرباء» (Talking to Strangers) تناول مالكوم قلادويل إشكالية الاعتماد على قراءة «لغة الجسد» في الحكم على أناس لا نعرفهم، وكيف لتلك الأحكام أن تؤدي إلى نتائج غير محمودة. ويعرض في كتابه دراسة مثيرة تقارن بين أحكام الإفراج بكفالة التي أطلقها مجموعة من قضاة مدينة نيويورك على 400 ألف متهم من بين 550 ألفًا (ما بين عامي 2008 و2013) في مواجهة أحكام الإفراج بكفالة «الافتراضية» التي أقرها نظام حاسوبي يعتمد الذكاء الاصطناعي على مجموعة القضايا ذاتها.

ما حدث، أنَّ الباحثين أمدوا نظام الذكاء الاصطناعي بملفات المتهمين التي تتضمن بياناتهم ولائحة جرائمهم والأدلة، وطُلب من النظام اختيار 400 ألف متهم ومنحهم حق الخروج بكفالة. لم تتضمن الملفات أي من المرافعات التي استمع إليها القضاة، وبطبيعة الحال لم تتضمن التفاعل البصري مع المتهم. 

النتيجة، اختار نظام الذكاء الاصطناعي مجموعة من 400 ألف متهم لا تتطابق مع المجموعة من اختيار القضاة. وبعد البحث، تبيَّن أنَّ الذين اختار الذكاء الاصطناعي الإفراج عنهم بكفالة كانوا أقل عرضة لارتكاب جريمة جنائية أخرى بعد خروجهم بنسبة 25% من أولئك الذين أطلق القضاة سراحهم.

الاختلاف الأبرز بين النظامين أنَّ القضاة وضعوا في حسبانهم انطباعاتهم الشخصية عن المتهمين في أثناء اتخاذ القرار. علمًا بأنَّ طبيعة عمل القاضي تتيح له خبرة كبيرة في قراءة الناس، وليس مجرد باحث عبر الإنترنت في وقت فراغه عن معنى «حكَّة الأنف».

والآن، بما أننا في بداية فصل الصيف، لن يصدِّق زميلي كلمة واحدة أقولها. فأنا مصاب بحساسية الأنف المزمنة، ولا أتوقف عن حكِّ أنفي إلا بحلول فصل الشتاء!

الإنسانالعملالمجتمعالرأي
نشرة أها!
نشرة أها!
يومية، من الأحد إلى الخميس منثمانيةثمانية

نشرة يومية تصاحب كوب قهوتك الصباحي. تغنيك عن التصفّح العشوائي لشبكات التواصل، وتختار لك من عوالم الإنترنت؛ لتبقيك قريبًا من المستجدات، بعيدًا عن جوالك بقية اليوم.

+80 متابع في آخر 7 أيام