حضورٌ له مرارة غياب، وغيابٌ كأنه فرحة لقاء

في آخر حلقات صراع أولياء الأمور،الأمهات تحديدًا من جهة، ووزارة التعليم ممثلةً في التقويم الدراسي من جهة أخرى، كانت الغلبة واضحة للأمهات.

في آخر حلقات صراع أولياء الأمور،الأمهات تحديدًا من جهة، ووزارة التعليم ممثلةً في التقويم الدراسي من جهة أخرى، كانت الغلبة واضحة للأمهات. فالطلاب لم يحضروا للدراسة في الأيام التي عدّها أولياء الأمور إجازة على رغم إرادة التقويم الدراسي، أما الوزارة ممثلة في المدارس فقد اكتفت بالتوسل إلى أولياء الأمور أن يكونوا شركاء لها في حث التلاميذ على الذهاب إلى المدارس. حتى إن عبارة «عزيزي ولي الأمر» أصبحت الأكثر رواجًا في مواقع التواصل الاجتماعي؛ لكثرة ترديدها في حسابات المدارس.

وفي تجربتي الشخصية في هذه الموقعة بحكم أني ولي أمر عدد لا بأس به من التلاميذ في مختلف المراحل الدراسية، كنت من أنصار تطبيق النظام مع المطالبة بتغييره. فأجبرت «رعيتي» من التلاميذ على الذهاب إلى المدرسة مع قناعتي بأن فكرة العودة إلى الدراسة يوم أربعاء تحمل ضمنًا تحريضًا من واضع التقويم على الغياب. لكني كنت مستبدًّا في أمر الغياب ولم أسمح بأن يكون مطروحًا للنقاش. ولا أخفيكم أني كنت أدرك أنه استبداد في غير موضعه، فلم يتجاوز مجموع الحضور في فصول أبنائي الثلاثة الذين ذهبوا إلى مدارسهم في اليوم الأول بعد الإجازة عشرة طلاب في المدارس الثلاث مجتمعة. وعادوا جميعهم بعد ساعة من ذهابهم. 

أما اليوم الثاني فقد ذهبَت فيه مواهبي في الاستبداد أدراج الرياح، ولم أجرؤ على مناقشة الموضوع من الأساس. 

والحق أني لن أفعل ذلك مجددًا؛ فذهاب طالب إلى المدرسة في يوم لا يوجد فيه إلا نفر قليل من الطلاب يصاحبه عدم اكتراث من المدارس، وهو مجازفة فيها أخطار أخلاقية وتربوية أكثر من التي قد يسببها غيابهم. ثم إذا أضفنا إلى ذلك شعور الطالب بأنه مجرد «أبله» ذهب إلى المدرسة في يوم غياب الجميع، وعدم حصوله على امتياز يجعل لحضوره معنىً، فإن الحرص على الالتزام بالتقويم الدراسي مستقبلًا مجرد عناد لا يخلو من «عبط» لا أظن أنني سأكرره. 

هذا الحديث يتكرر في بداية كل فصل دراسي ونهايته، وبما أن الفصول نمت و«تباركت» وأصبحت ثلاثة فهذا يعني أن الحديث عن هذه الظاهرة سيتكرر ست مرات في كل عام دراسي، وما يبدو لي أنه معضلة هو أن الأسباب تُلقى في كل مرة على أحد أطراف العملية التعليمية، فمرة يكون الطلاب هم الأشرار في هذه القصة، وأخرى يكون انعدام مسؤولية أولياء الأمور هو سبب الهرب الجماعي، والمعلمون كذلك ينالون نصيبهم الأوفر ويُحمّلون مسؤولية قلة انضباط الطلاب. وفي كل مرة يمكن أن نسمع أنّ طرفًا جديدًا هو الذي جعل المدرسة مكانًا يبغضه الطلاب. لكن الطرف الذي لا نجد اسمه في قائمة المتهمين هو وزارة التعليم نفسها. مع أن المنطق يقول إنها وحدها من تتحمل المسؤولية، إما بكونها سبب المشكلة المباشر، كأن تضع تقويمًا دارسيًّا محرضًا على الغياب، أو غير مباشر، بعجزها عن حل هذه المشكلة التي تتكرر كل عام. 

Giphy 70
مسؤولية من؟ / Giphy

وأظن -وليس كل ظن إثمًا- أن أحد أهم الأسباب هو أن المدرسة والدرجات والاختبارات لم تعد تشكّل فرقًا مهمًا لدى الطلاب؛ فالطلاب جميعًا سينجحون، مجتهدهم وكسولهم، المنضبط والذي لا يزور المدرسة إلا من باب التذكير بأنه  لا يزال أحد طلابها، ثم إنه حين ينهي دراسته الثانوية فإن النسبة التي يحصل عليها لن تشكل فرقًا مهماً في قبوله في الجامعة. ومعظم طلاب المرحلة الثانوية الجادين يتفرغون للحصول دورات في «القدرات» و«التحصيلي»؛ لأن ما يحصلون عليه من درجات في هذين الاختبارين هو المعيار الأهم الذي سيحدد مستقبلهم ومصيرهم في مرحلة ما بعد الثانوية. ولذلك يبدو غريبًا أن نطالب بالحرص والاهتمام بشيء لا تعده الوزارة نفسها مهمًا، وسنبدو مضحكين حين نطالب الطلاب بأن يقيموا وزنًا لأمر لا تراه الوزارة شيئًا مذكورًا.

وإنْ أضفنا على ذلك تعدد مصادر تلقي المعلومات التي تعد المدرسة في الوقت الراهن مع شديد الأسف أقلها أهمية؛ لأن الطالب الجاد يمكنه الحصول على شرح لكل الدروس التي يحتاجها والتي لا يحتاجها بأكثر من طريقة، ويمكنه أن يجد شرحًا للدروس في «يوتيوب» بواسطة آلاف المعلمين وبأكثر من لغة وأسلوب، فما الذي يمكن أن يجبر الطالب على أن يحضر للمدرسة من  الأساس؟! ناهيك عن حضوره في الأيام التي يعلم يقينًا أنه لن يكون في استقباله سوى جدران المدرسة ونفر قليل من الطلاب يُعَدّون على أصابع اليد الواحدة، ومعلمين ينظرون إليه باستغراب وكأنهم يقولون له: ما الذي جاء بك أيها الأحمق؟! 

ولذلك فإن الحديث عن عقوبات وغرامات يريد بعضهم أن يروج لها يبدو تعميقًا للمشكلة وليس حلًا لها، وقد كنت أظن أن الذين يحلّون المشكلات بافتعال مشاكل أخرى قد انقرضوا، لكني فوجئت بأنهم لا يزالون يرتعون في مواقع التواصل ويطرحون مثل هذه الاقتراحات الحمقاء.

وإني والله أيها السادة والسيدات الأفاضل والفاضلات لأظن أنكم أكثر وعيًا من أن تنتظروا مني تقديم حلول لهذه المشكلة، فأنا بارع في العثور على المشكلات فاشلٌ في حلها، ولكني ساقترح عليكم ما يمكن أن تروه حلاً إن أنتم أردتم ذلك. 

ما رأيكم أن نتعامل مع الوضع كما هو دون أن نعدّه مشكلة من الأساس؟ فليحضر من يحضر وليغِب من يغيب، فالحياة ماضية في سبيلها دون أن تقيم وزنًا لما نظن أنه مشكلة.

التعليمالسعوديةالمجتمعالرأي
نشرة الساخر
نشرة الساخر
منثمانيةثمانية

الحياة أقصر من أن تستفزك تغريدة على إكس. هذه النشرة من أجل استفزازك بطريقة أخرى!