لماذا نرفض المواساة
تدعونا أديل إلى أن نعيش هذا الحزن، أن نعيشه كاملًا دون نقصان، ألّا نسعى لإطفاء جمرته؛ فكل محاولة لفعل ذلك تنتهي إلى تعظيمه وترسيخه أكثر.
يقول فلوبير في روايته «مدام بوفاري»:
إن هناك دائمًا، بعد موت شخص، شيئًا يشبه الذهول الذي يملأ الجو. وذلك لأنه من الصعب فهم هذا العدم الطارئ والاستسلام لتصديقه.
من منا لم يعِش هذا الشعور ولو أيامًا معدودة؟ والمحظوظ فينا من استطاع تبديده بسرعة، ولم يعلق في متاهة هذا العدم إلى الأبد.
تبحث الكاتبة والباحثة الفرنسية أديل فان ريث في كتابها الجديد المعنون بـ«Inconsolable»، بمعنى «الذي لا عزاء له» عن الكلمة الدقيقة التي تصف مشاعرنا بعد فقد شخص غالٍ. ترى أديل أننا كائنات غير قابلة للمواساة، وأننا وُلدنا ونحن نحمل في ذواتنا فقدًا ما، جرحًا ما، صدعًا ما، وأن المآسي التي نصادفها مع مضي الأيام تؤجج فقدًا غُرِس في وجداننا مع قص حبل المشيمة، وتمضي حياتنا ونحن في سعي مستمر لفهم هذا الفقد ورأب هذا الصدع.
لكن هذا السعي لا يكفي، وكل محاولاتنا ليست سوى تورية لشعور لا نستطيع وصفه بدقة، ولذلك نقف عاجزين أمام العزاء والمواساة. وعلى الرغم من حبها الشديد إلى الأدب وعشقها للفلسفة وبقية الفنون؛ فهي تجزم أنها لا تكفي لمواساة الموجوع بالفقد.
تدعونا أديل لأن نعيش هذا الحزن، أن نعيشه كاملًا دون نقصان، ألّا نسعى لإطفاء جمرته؛ فكل محاولة لفعل ذلك تنتهي إلى تعظيمه وترسيخه أكثر. بل تذهب بعيدًا في تنظيرها وتراه حزنًا جليلًا، حزنًا حكيمًا، شيئًا ما يحتوينا كالحرير، مزعج وعذب يفصلنا عن الآخرين، كما وصفته فرنسواز ساغان. وبالرغم من هذه المرارة فهو أقرب صديق للمكلوم، ومن خلاله يحتفظ بدرجة قصوى من التواصل مع الفقيد، وفي لحظة التواصل الحميمية هذه يشعر المرء بالراحة أكثر من أي فعل آخر في الحداد، فالحداد بالنسبة إلى أديل لا يحتاج إلى كتالوج أو مراحل علينا أن نتبعها لنتجاوز الأسى ونفهم هذا العدم الفجائي، بل علينا أن نحرص على الإنصات بألفة لمشاعرنا الحقيقية التي لا يمكن تعويضها.
هذه المساحة التي نتركها لأنفسنا بالنسبة إلى أديل هي مساحة بناءة ومحرك أساسٌ لخلق شيء من الخواء ومحفز للإبداع، وهنا يأتي دور الأدب وغيره من الفنون التي من خلالها يترجم المكلوم أساه عبر الكلمة وغيرها من أدوات الفن، فلو تمتع جل البشر بالكمال والوعي الشامل بمعاني السعادة والتجاوز والتعافي التام، فلن نحتاج إلى التواصل، وستندثر اللغة، بما أننا سنعلم سلفًا ما يشعر به الآخر وما يجول بخاطره وعقله.
الأسى والحزن الحكيم منبع الخلق، لكنه، وهذه هي المفارقة التي سقطت فيها أديل دون أن تدرك ذلك، خَلقٌ يحتاج إلى طرفي تواصل. المكلوم الذي يترجم أساه عبر الأدب أو الفن، ثم المتلقي بصفته شخصًا لم يبرأ وجعه، الذي أعيته الحيلة فلم يُحِط بحكمة الحزن وبلاغته، فهذا المتلقي سيحتاج إلى الأدب وبقية الفنون، ومن خلالها يستطيع أن يضع لمشاعره تصورًا واضحًا يساعده على التجاوز أو على الأقل وتماهيًا مع فكرة أديل، البقاء وفيًّا للفقد.
وأمام هذا العدم يُعاني المكلوم أيضًا فكرةَ الذكرى. هذا الحضور الذي يلفه الغياب، الذكريات التي تتهاوى بكثافة، نتلقف أشياءَ الفقيد بين أيدينا، وتسطع مشاهده الحية في ذاكرتنا التي ترزح تحت فكرة أشد إيلامًا وحضورًا، وهي أنه لم يعد موجودًا. فبقدر ما نحتفظ بالذكريات بقدر ما يُصر الغياب على الحضور. لهذا فالذكريات عند أديل حين تحاول إحياء المفقود تضاعف المعاناة، وكأني بها تردد أبيات الشاعر محمد المقرن:
يا ليتهم أخذوا الذكرى إذ ارتحلوا
زالوا وما زال في أعماقنا الأثر
وليس غريبًا أن تتبنى أديل هذا الرأي، وقد تربَّت في كنف والدها الذي كان يعمل موظف أرشيف، فعاشت بين الذكريات من كل حدَب وصوب. ولطالما سمعت والدها يؤكد أن مهنة الأرشيف تقتضي أن نجيد الفرزَ، لكن وظيفته الأسمى أن نجيد فن التخلي، فكلما أجدنا هذا الفن أجدنا فن الحفاظ على ما يناسبنا حقًّا. تبدو فكرة التخلي واقعية مع طرح أديل بشأن الموت، فهي تشجع على مواجهة هذه الحقيقة، عوضًا عن الالتفاف حولها بالتخيل المرتبط بالذكرى.
وأمام كتاب كهذا وفكرة كهذه لا يسعني سوى طرح السؤال، كما وضعه رولان بارت في «يوميات الحداد»، آملةً مثلَه الحصول على الإجابة: «هل تعني قدرتنا على العيش دون شخص أحببناه، أننا أحببناه أقل مما تخيلنا؟»
لغير المثقفين، الذين لا يربطون بين القراءة واحتساء القهوة، ولا يصوّرون أعمدة كتب تتجاوز أطوالهم نهاية العام. نشرة تصلك كلّ أربعاء تضم مراجعات للكتب، توصيات، اقتباسات… إلخ.