تلقيح التراث!

الإسلام ليس دينًا يمكن تكييفه حسب رغبة الزبون (customized). الذي يقتنع بالإسلام دينًا يجب أن يكيف حياته وفق تعاليم الإسلام.

التساؤلات حق مشروع لكل الكائنات الحية التي تستطيع استخدام ذلك الجزء من الجسد المختص بالتفكير، الذي يوجد -غالبًا- داخل الجمجمة. ولأن الدين هو الأساس الرئيس لحياة أغلب الكائنات البشرية، فإنه يبدو منطقيًّا ومقبولًا أن يبذلوا جهدًا للتحقق من أنهم يتعبدون لإلههم بالطريقة الصحيحة. ومما يؤسف عليه أنه لا يقرأ لي الكثير من الهندوس والسيخ والبوذيين واليهود والنصارى، وهذا ضلال إضافي نسأل الله لهم الهداية إلى الطريق القويم؛ ولذلك فسيكون كلامي عن المسلمين والإسلام. ويمكن لبقية الملل والنحل طلب رأيي لاحقًا متى رأوا أنهم بحاجة إلى المساعدة.

والدعوة إلى التفكر والتأمل والبحث والاستدلال وإعمال العقل دعوة قرآنية في المقام الأول. فالإسلام دين اقتناع، ولذلك فإنّ الدعوة إلى مراجعة النصوص والتثبت من صحتها شيء لا يعارضه الإسلام ولا يمنعه. ولكن يدعو إليه معتنقيه، ويتحدى به مخالفيه.

وحين تتكئ يا صديقي التنويري في صالة منزلكم تشاهد آخر أعمال نتفلكس، أو تخرج من ملهى بالكاد تحمل رأسك. ثم تدخل إلى تويتر تشتم البخاري ومسلم، وتدعو إلى «تنقيح» الأحاديث النبوية؛ فإنك في الغالب لا تعلم أن العمل الذي قام به البخاري وكل علماء الحديث، هو ما تدعو إليه. الفارق أنَّهم كانوا يعلمون ماذا يفعلون وكيف يفعلونه، وأنت تتحدث دون أن تعي ماذا تقول. أنت تهاجم البخاري -على سبيل المثال- أيها الأخ السبيكة مع أنَّ العمل الذي أفنى فيه حياته هو تحقيق رغبتك في «تنقيح التراث»، والوصول إلى أعلى درجة ممكنة من معايير التحقق من صحة الروايات والنصوص التي يتعبد بها المسلمون.

Afvd
الاستلقاء للنقد / Gifer

لكن كيف نقّح البخاري وعلماء الحديث تلك النصوص؟ وكيف تريد أنت يا صديقي المستلقي على أريكته أن تفعل ذلك؟ هم أسسوا علمًا أفنوا فيه كل سنين حياتهم، ووضعوا قواعد ومعايير صارمة ومتشددة لنقل الحديث النبوي، لا تقبل حديثًا فيه شبهة أو شبه شبهة. وصلوا في نهاية الأمر إلى ما يشبه الكمال في نقل النصوص وتنقيحها، ولأنهم بشر أولًا وأخيرًا، فلا بُد أن يعتري عملهم نقص أو زلل. ومن يريد أن يصحح أعمالهم أو ينقحها، فإنَّه مطالب على أقل تقدير أن يبذل جهدًا كالذي بذلوه، وعمرًا كالذي أفنوه، وأن يتمكن من علوم مثل التي أتقنوها. أمَّا أنت يا صديقي فلا تريد أن تشغل نفسك، أنت فقط تعطي تعليماتك في وسائل التواصل، وتطلب من الآخرين أن ينقحوا لك الأحاديث لأنَّها لم ترق لك، ولا أعلم ممن تنتظر هذا العمل. ربما تراودك فكرة أن تشكل لجنة من البلدية ووزارة السياحة والدفاع المدني ورابطة دوري المحترفين، تكون مهمتها تنقية الأحاديث وتأليف أحاديث جديدة تلائم ذوقك الشخصي. 

يجب أن تتقبل فكرة أن من سيقوم بعمل كهذا -إن تم- هم علماء حديث يثق فيهم المسلمون. ولو قام به غيرهم فإن ذلك لن يخرج من دائرة «كّد الفلَس»، سيكون مجهودًا لن يعيره أحد من المسلمين اهتمامًا. وأعلم أنك ربما تكره الفكرة نفسها، لأنَّه حتى إن حدث هذا الأمر فلن يلبي مطالبك، لأن فكرتك الرئيسة هي «الاختيار»، وليست التأكد والسعي لليقين. تريد أن تتعامل مع السنة النبوية كما تتعامل مع البضائع في البقالة، تأخذ ما يعجبك وتترك الباقي. ومبتغاك أن يتعامل المسلمون مع كتب الأحاديث وكأنَّها ليست أكثر من «مذكرات نبي سابق»، مر في الحياة كأي شخصية عابرة، تصرفاته وأقواله وتعليماته تخصه هو ومن عايشه فقط. وأن النص القرآني: «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا» موجه فقط إلى الذين كانوا يجلسون بجانب الرسول -عليه الصلاة والسلام- حين نزلت عليه هذه الآية.

تغلف هذه الأفكار والرغبات بالدعوة إلى أن يكون القرآن الكريم مصدرًا وحيدًا للدين، وكأن الرسول الكريم -خاتم الأنبياء وأفضل الخلق- لم يكن في زعمهم سوى مندوب توصيل، جلب لك المصحف وتركه خارج منزلك لتفسره بنفسك حين تتفرغ لذلك. أنت غالبًا أيها الأخ السبيكة تود «تلقيح» التراث ببعض الأفكار التي تناسب الموضة التي يروج لها السيد الأبيض، أما التنقيح فهو مهمة قام بها عظماء كانوا سادة أنفسهم، ولن يقوم بها مجددًا سوى أناس مثلهم، لا يطعنون فيمن سبقهم ولكنهم يكملون ما بدؤوه.

ومن الطبيعي أن تكون أهم مواصفات النبي الجديد الذي يقنعك دينه العصري، وتتبعه طائعًا مختارًا؛ أن لديه حسابًا على مواقع التواصل، يتحدث فيه كثيرًا عن التراث والتجديد، لأن للدين العصري تاريخ صلاحية مثل علبة الزبادي، أو بطاقة الهوية. وأن العقوبات في دين أنبياء مواقع التواصل ستتضمن غرامة تأخير لمن يعيش حاملًا دينًا منتهي الصلاحية.

وأنا أيها الناس منفتح ومتقبل لوجود الآخرين في الحياة؛ ليست لدي مشكلة في أن يعتنق كل إنسان ما يشاء من دين، ولست حتى ضد أن يخترع دينًا جديدًا بالمواصفات التي يريد. أن يعبد شجرة أو حجرًا أو شبشبًا أو فأرًا ميتًا، فهذا الأمر لا يعنيني. يهمني فقط بصفتي واحدًا مِن المسلمين ألَّا يخترع دينًا جديدًا ويسميه الإسلام.

الإسلام ليس دينًا يمكن تكييفه حسب رغبة الزبون (customized). الذي يقتنع بالإسلام دينًا يجب أن يكيف حياته وفق تعاليم الإسلام، والعكس ليس صحيحًا. الإسلام صالح لكل زمان ومكان، وكل زمان ومكان صالحان للإسلام، وهذا لا يعني بالطبع أن يخترع أهل كل زمان دينًا جديدًا ويسمونه الإسلام. ومَن لم يشأ أن يؤمن بالإسلام كما هو فليكفر به، ويؤمن بما تهواه نفسه، ففي الأمر سعة؛ وسيلتقي الناس في آخر المطاف يوم الفصل ليعرف كل إنسان مدى صحة قناعاته وإلى أين أوصلته.

الإسلامالإنسانالدينالرأي
نشرة الساخر
نشرة الساخر
منثمانيةثمانية

الحياة أقصر من أن تستفزك تغريدة على إكس. هذه النشرة من أجل استفزازك بطريقة أخرى!