دفاعًا عن الوحدة.. أُسُس التفكير الوحدويِّ لدولة الإمارات

أُعلِنَ عن قيام دولة الإمارات في نهاية عام 1971 بالرغم من توقعات عديدة تشير إلى صعوبة بل استحالة نشأة الاتحاد أو قدرته على الصمود طويلًا

عرفت المنطقة العربية عشرات المشاريع والتجارِب الوحدوية منذ مطلع القرن الماضي حتى نهايته. ويحصي بعض الباحثين في هذا الموضوع على وجه التحديد المحاولات الوحدويَّة في المنطقة العربية إلى ما يقارب المئة مشروع. غير أن أغلب هذه المشاريع الرامية إلى توحيد مناطق وأقطار عربية تحت راية اتحادية واحدة تعثرت ولم تخرج إلى حيز التنفيذ، وظلت حبرًا على ورق، وقليل جدًّا منها ما تحقق على أرض الواقع، إلا أنها لم تعمر طويلًا، إذ انفرط عقد الوحدة بينها سريعًا.

استثناءً من هذه الإخفاقات المتكررة، وفي مواجهة اليأس العربي من المشاريع الوحدويَّة، ظهر إلى الوجود اتحاد دولة الإمارات بصفته مشروعًا وحدويًّا يجمع تحت لوائه إمارات الساحل المتصالحة. وقد عكست هذه التجرِبة الوحدويَّة الناجحة التغيرات التاريخية والاجتماعية التي طرأت على المنطقة والتي أثرت في طموحات أبنائها ووعيهم الذي قادهم إلى تحقيق الوحدة وجعلها حقيقةً ملموسةً وواقعًا سياسيًّا على الخارطة الدوليَّة.

ولأنَّ مبالغات كثيرة اعترت الرواية الاستعمارية بشأن نشأة الاتحاد، فهنا رواية بديلة -أو مكملة- لتاريخ الاتحاد وأسس الفكر الوحدوي لدولة الإمارات تعيد الاعتبار لأبناء المنطقة، وتؤكد أن الوحدة التي تحققت في السبعينيات ما هي إلا امتداد لمحاولات وحدويَّة واتحاديَّة سابقة حال دون تحققها الكثير من العوائق.

الروايات التاريخيَّة السائدة

عند مطالعة الأدبيات التاريخية سواء الغربية أو المحلية بشأن الخليج العربي، نجد تكرارًا لمسألة أن إرهاصات الفكر الوحدوي لدولة الإمارات وجذور فكرة اتحاد مشيخات الخليج العربي تعود أساسًا إلى المساعي البريطانية في الثلاثينيات من القرن الماضي. عندما أرادت بريطانيا توحيد المنطقة سياسيًّا لتحقيق القدر اللازم من الاستقرار الذي يضمن مصالحها ونفوذها، إلا أن اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939 حال دون تحقق هذه الوحدة.

عاود الانتداب البريطاني طرح فكرة الوحدة من جديد عام 1951. وفي هذه المرة قررت بريطانيا إنشاء قوات مسلحة عرفت باسم «قوة ساحل عمان» وُضعت تحت قيادة المعتمد السياسي البريطاني في دبي، واتخذت من إمارة الشارقة مقرًّا لها. ولا يخفى على قارئ التاريخ الخليجي أن الهدف الأساسي من وراء تأسيس هذه القوات حمايةُ عمليات التنقيب عن النفط، وصيانة المصالح البريطانية بالدرجة الأولى، وليس من أجل تحقيق الوحدة!

هذه الرواية السائدة تشير أيضًا إلى الدور الإيجابي الذي لعبه «مجلس الإمارات المتصالحة» الذي اقترح البريطانيون على حكام الإمارات تشكيله عام 1952. تأسس هذا المجلس بالفعل، وعَقَدَ أول اجتماعاته في شهر مارس من العام نفسه. ويَعُدُّ الكثيرون هذا المجلس واجتماعاته الدوريَّة بمنزلة اللبنات الأولى لدولة الاتحاد، والإطار الذي تم من خلاله التنسيق والتشاور بين مشيخات الخليج السبع المتمثلة في إمارات: أبوظبي ودبي والشارقة والفجيرة وعجمان ورأس الخيمة وأم القيوين.

السَرديَّة الاستعماريَّة.. نقائص ونقائض!

ما يشوب هذه الرواية فيما يخص نشأة اتحاد دولة الإمارات ليس عدم صحتها أو تزييفها حقائقَ تاريخية وقعت بالفعل؛ وإنما في دورانها حول فلك السردية الغربية الاستشراقية وإهمالها الروايات المحلية الأخرى حول المنطقة. إذ نجد أن تاريخ الاتحاد يرتكز على دور الانتداب البريطاني في تجميع مشيخات الخليج وتوحيد العشائر والقبائل –الهائجة والمتحاربة وفقًا لهذه الرواية– من خلال المبادرات الوحدويَّة التي طرحتها الحكومة البريطانية على حكام المنطقة في أثناء الانتداب.

في المقابل، يُجرِّد هذا السرد التاريخي أبناء المنطقة من أي فاعلية أو إرادة، بل ويشكك في قدرتهم على اتخاذ قرار وحدوي دون مساعدة أو إشراف من القوة الاستعمارية. فقد وصفت إحدى مذكرات وزارة الخارجية البريطانية حكام المنطقة أنهم «ثانويون»، وأضافت بأنهم «لا يظهرون أي إشارة إلى قدرتهم على التعاون السياسي فيما بينهم»، مفصحةً بذلك عن نظرتها الاستعلائية وقصورها.

كما أنها تغفل -عمدًا أو سهوًا- الحال الذي كانت عليه المنطقة قبيل أن تصل سفن الانتداب البريطاني إلى شواطئ الخليج العربي. فضلًا عن أي إشارة في هذا السرد للوقائع التاريخيَّة إلى حقيقة أن الوحدة هي رغبة أزلية لها أسس وجذور ثقافية وتاريخية لدى أبناء المنطقة. 

ثقافة الأحلاف

إن ثقافة الأحلاف أو التحالفات القبلية الراسخة في التاريخ والذهنية العربية هي ما يمكن عدُّه بمنزلة النواة الحقيقية والأرضية الأولى التي مهدت الطريق إلى مشروع الوحدة بين مشيخات الخليج العربي. وعلى الرغم من التناقضات و التعقيدات التي تكتنف الروابط القبلية فإنها شكل أصيل من أشكال الوحدة.

التحالفات القبلية إطارٌ اتحادي ونظم سياسية واجتماعية في المقام الأول، يجتمع تحت لوائها قبائل مختلفة وعشائر ومجموعات أخرى تشترك جميعها في رقعة جغرافية واحدة. وما يربط شمل هذه الأحلاف ويجمع شتاتها ليست روابط القرابة أو الدم، وإنما روابط التضامن السياسي والمصالح المشتركة. إلى جانب رغبة المشتركين في الحلف ضمان وجودهم وتوفير الحماية المتبادلة واحتواء النزاعات في ظل غياب الدولة الحديثة وسيادة منطق القوة.

كما لا تتبع هذه التنظيمات أسلوبًا تعسفيًّا في الحكم -خلافًا للنظرة الاستشراقية بشأن الاستبداد الشرقي، التي منحت تسويغًا وغطاءً سياسيًّا ونظريًّا للاسبتداد الاستعماري في المنطقة-، وإنما تمتلك المجموعات المنضوية تحت راية الحلف قدرًا واسعًا من الاستقلالية والخصوصية، بل لا يجد الحلف أي غضاضة من انفصال بعض المجموعات إذا ما انقضت المصلحة.

وانطلاقًا من ثقافة الأحلاف هذه تَشكل على الساحل الغربي الجنوبي من الخليج العربي خلال القرن الثامن عشر أهم حلفين قبليين تقاسما السلطة السياسية والعسكرية في المنطقة؛ هما: اتحاد القواسم واتحاد بني ياس.

أسس تاريخيَّة للوحدة

مع مطلع القرن الثامن عشر، بَرَز إلى الوجود تنظيمان قبليان في منطقة الساحل المتصالح: حلف القواسم، وهم سكان الجزء الشمالي، وحلف بني ياس، وهم سكان الجزء الجنوبي من المنطقة التي تقوم عليها دولة الإمارات. ظل الحلفان طوال القرن الثامن عشر يعززان من تنظيماتهما العسكرية والاقتصادية ويوطدان استقرارهما السياسي.

وقد ساعدت عوامل تاريخية مواتية في قيام هذين التنظيمين الكبيرين وظهورهما بصفتهما أحد أهم الكيانات السياسية والعسكرية المؤثرة في تاريخ المنطقة ومستقبلها. منها الفراغ الذي تلا انهيار القوة البحرية للاستعمار البرتغالي، ومن ثم انسحابها من قواعدها وحصونها بعدما عاثت فسادًا في الخليج لما يقرب من قرنين من الزمان.

كما أن التمزقات والانقسامات الداخلية التي دبت في جسد الدولة اليعربية منذ أوائل القرن الثامن عشر، تسببت في انهيار دولة اليعاربة وقيام الدولة البوسعيدية على أنقاضها. وهو ما حث بدوره قبائل الشمال أن تتكتل و تتحالف فيما بينها بزعامة القواسم في رأس الخيمة، في حين ظهر في الوقت نفسه حلف بني ياس في منطقتي الظفرة وليوا.  ومما أفسح المجال كذلك في بروز هذه الكيانات القبلية المحلية انشغالُ القوى الإقليمية الإسلامية -العثمانية والصفوية- بخلافاتهما الداخلية والخلافات فيما بينهما.

في ضوء هذه الأحداث والمعطيات الجديدة، توالت موجات من الهجرات إلى شواطئ الخليج وأطرافه قادمة من أواسط شبه الجزيرة العربية والمناطق المجاورة. وأتاحت هذه الظروف للقوة العربية المحلية تنظيم نفسها وتدعيم تحالفاتها مستفيدةً من الظروف المستقرة التي عاشتها المنطقة في النصف الأول من القرن الثامن عشر.

بريطانيا في الخليج.. تقسيم المنطقة أم توحيدها؟

بدأت تتعرض وحدة هذين الاتحادين للانقسام والتصدع مع بداية التغلغل الاستعماري البريطاني في المنطقة. وبالرغم من أن كثيرًا ما كانت تحدث الانقسامات وتتبدل الولاءات في داخل التحالفات القبلية فإن الاستعمار استغل جيدًا هذه الظروف القائمة لتأمين مصالحه الإستراتيجية. وما لبثت حكومة الانتداب البريطاني في وضع أسس التقسيم والتجزئة من خلال إثارة الفتن الداخلية والعزف على أوتار العنصرية الطائفية والقبلية إلى أن تمكنت من تفكيك التنظيمين الرئيسين في الخليج إلى مشيخات وإمارات صغرى.

تفكك اتحاد القواسم عقب الهجمة العسكرية البريطانية عام 1819 على معقلهم في رأس الخيمة إلى مشيخة الشارقة والجزيرة الحمراء ومشيخة الرمس وعجمان وأم القيوين. ونشبت الخلافات والنزاعات في داخل اتحاد بني ياس، ونتج في إثرها انشقاق آل بوفلاسة من الحلف عام 1833، وهجرتهم إلى دبي حيث أسسوا مشيختهم.

عمل الانتداب البريطاني طوال المدة التي قضاها في المنطقة على معارضة أي مشاريع وحدويَّة يمكن أن تتحقق بين هذه المشيخات. إذ تدخلت بريطانيا لفض حلف أقيم بين إمارة عجمان وأم القيوين، وعملت على تقسيم إمارة الشارقة القوية إلى مناطق ومقاطعات أصغر.

صعود دراسات الشرق الأوسط

في الجزء الثاني نبحث تشكل وتطور دراسات الشرق الأوسط كمجال أكاديمي في الجامعات الأميركية من خلال تفاعل المجال الأكاديمي بالمتخيلات الاستعمارية و…

21 مايو، 2020

كرست المعاهدات والاتفاقيات التي فُرِضَت على حكام المنطقة حالة من الانقسام والتفرقة، وفي ظل حرص بريطاني شديد على الإبقاء على الهوية المنفصلة لها. ظلت تعيش هذه المشيخات في أوضاع من العزلة شبه التامة عن محيطها العربي، فقد اتخذت حكومة الانتداب البريطاني، على سبيل المثال، إجراءات بغية منع دخول بعثة الجامعة العربية للمنطقة عام 1964، وكانت تهدف إلى إقامة علاقات رسمية بين إمارات الخليج وجامعة الدول العربية، ومن أجل إنشاء صندوق لتنمية إمارات الساحل وتطويرها ويُموِّله عدد من الدول العربية المستقلة.

إلا أن تبدل الظروف الإقليمية والدولية وتنامي الوعي القومي والعروبي عند أبناء المنطقة، أرغم الحكومة البريطانية على الإعلان في شهر مايو عام 1968 عن نيتها الانسحاب من إمارات الخليج وجنوب الجزيرة العربية. وحينها انفسح المجال لقيام اتحاد دولة الإمارات في نهاية عام 1971، وهو ما كان بمنزلة نهاية لسنوات العزلة التي فرضت على المنطقة، وتصحيحٍ لأوضاع التفكك التي ظلت تعانيها هذه البقعة من العالم ردحًا من الزمان.

قيام الاتحاد.. عودٌ على بدء

أُعلِنَ عن قيام دولة الإمارات في نهاية عام 1971 بالرغم من توقعات عديدة تشير تلميحًا أو تصريحًا إلى صعوبة بل استحالة نشأة الاتحاد أو قدرته على البقاء والصمود طويلًا. استندت هذه التقديرات إلى التجارِب الوحدويَّة العربية الفاشلة التي سبقت اتحاد إمارات الخليج -كاتحاد إمارات الجنوبي العربي أو الجمهورية العربية المتحدة- وإلى الاعتبارات القبلية التي كان يتوقع منها أن تعرقل الوصول إلى الدولة الاتحادية.

كان الزمن كفيلًا أن يثبت عدم دقة هذه التنبؤات وصحتها. فالتجارِب الوحدويَّة العربية السابقة لم تفتَّ في عضد أبناء الإمارات أو تبث اليأس في نفوسهم؛ على العكس من ذلك، كان يتأمل قادة الاتحاد أن تكون هذه الدولة الاتحادية «فعلًا وبحق نموذجًا لاتحادات عربية أخرى». كما أن الاعتبارات القبلية لم تقف عائقًا أمام تحقيق الاتحاد، وإنما أثبت المكون القبلي، ونتيجة للأوضاع القبلية السابقة الصعبة والمتقلبة، أنه الأكثر مرونة وحركية في التعاطي مع الواقع الجديد، وذلك من أجل ضمان البقاء والاستمرارية.

ظهور اتحاد الإمارات إلى النور هو من جوانب عديدة تصحيحٌ لأوضاع التفكك والتجزئة التي جثمت على صدر المنطقة عقودًا طويلة، وهي الأوضاع ذاتها التي حرص الاستعمار البريطاني على إبقائها ضمانًا لوجوده لأطول مدة ممكنة. Click To Tweet

وصمود هذه التجربة التاريخية إلى يومنا هذا ما هو إلا نتاج إيمان أبنائها بالمبادئ الاتحاديَّة والنزعة الوحدويَّة التي ترعرعوا عليها؛ أملًا أن يقود هذا النموذج إلى ترسيخ القيم التي تصب في وحدة عربية كبرى ولو على المدى البعيد.

الإماراتالوطن العربيبريطانياالسلطة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية