كأس العالم وأبناء الحقبة الزمنية المظلمة!

أتمنى أن أكون مخطئًا، وأن يتصدى العالم والمشجعون لكل الرخويات التي ستحاول إفساد متعتهم، وأن يكون لديهم من الجرأة والقوة على رفض القبح.

يفترض أن اليوم هو اليوم الثالث لبطولة كأس العالم لكرة القدم. وإن كنت قادرًا على قراءة هذه التدوينة فهذا يعني أن كأس العالم قد أقيمت في وقتها، لأن السبب الذي سيتسبب في إلغائها قد يكون من آثاره الجانبية أنك لن تستطيع الوصول إلى التدوينة، أو ربما لن تكون موجودة من الأساس.

وليست الأشياء كما تبدو دائمًا، فكأس العالم –كما تعلمون- بطولة سياسية واقتصادية في المقام الأول، وإلى حد ما رياضية بدرجة أقل. الناس العاديون، الذين لولاهم ما أقيمت البطولة، يريدون مشاهدة مباريات في كرة القدم، يتخيلون أهدافًا ولحظات حاسمة ولحظات من الفرح والحزن تتسبب بها الكرة في أثناء تجاوزها خط المرمى. والناس غير العاديين الذين بيدهم إقامة البطولة أو إلغاؤها يريدون البطولة ساحة لتصفية الحسابات، وورقة ضغط سياسية ومكاسب اقتصادية، وأشياء كثيرة لا علاقة لها بتجاوز الكرة خط المرمى، ولا بطريقة ميسي في الاحتفال بأهدافه، ولا بمحاولات رونالدو إثبات أنه ما زال قادرًا على الإبهار، ولا بانبراشات علي البليهي.

روسيا على سبيل المثال استُبعدت من كأس العالم الحالية، بسبب ضلوعها في الحرب في أوكرانيا، ولأنها سببت أضرارًا بالغة للمدنيين المساكين الأبرياء. وهذا شيء جميل؛ فالمجرمون لا مكان لهم في عالم الرياضية الذي ترفرف في سمائه حمائم السلام. ولو أن كائنًا فضائيًا زارنا هذا العام في كوكبنا الأزرق لانبهر إعجابًا بطريقة تعاملنا مع القتلة والمجرمين، وكيف ننبذ حتى الشعوب المحبة إلى الرياضة التي يمارس قادتها الظلم والقهر والاستبداد وقتل العُزَّل من إخوتنا في الإنسانية.

Giphy 10
احتفال اللاعب الروسي دينيس تشيريشيف بالهدف / Giphy

لكن المشكلة التي ستوقعنا في حرج مع الكائن الفضائي، ستحدث حين يعلم أن روسيا نفسها لم تكن مجرد مشاركة في كأس العالم السابق، بل إنها هي التي استضافت المسابقة ونظمتها، وأتاها العالم زرافات ووحدانًا ينثرون على أرضها رسائل المحبة والسلام، ويخبرون العالم عن طباع الروس الودودة. وأن هذه الاستضافة اللطيفة المليئة بالحب والسلام حدثت بالتزامن مع قيام الآلة العسكرية الروسية بقتل ملايين السوريين وتهجيرهم وتشريدهم، وأن روسيا المضيافة بذلت جهدًا في إبادة شعب أكثر من الجهد الذي بذله لاعبو منتخبها في كأس العالم. وكانت حريصة على إرسال السوريين إلى باطن الأرض أكثر من حرص مهاجميها على إرسال الكرة إلى مرمى الفرق المنافسة. ولو قدر لي أن أقابل الكائن الفضائي الزائر وسألني عن الفرق بين أوكرانيا وسوريا، فسأتهرب من الإجابة، وأساله عن سعر تذاكر السفر إلى كوكبه وأسعار العقار في المجرات المجاورة.

وربما سأخبره أننا بصفتنا بشرًا فكرنا في تنقل كأس العالم من بلد إلى آخر حتى يتعرف كل منا على عادات الآخر وطبائعهم وتراثهم، وأن نتعلم كيف نحترم بعضنا بعضًا، وسأبذل جهدي في أن يعود هذا الكائن الفضائي إلى كوكبه قبل أن يعرف أن من شروط الاستضافة أن يحاول القوي فرض ثقافته على الآخرين، حتى ولو نازعهم الفطرة التي فُطر الناس عليها. وإن سألني عن ألوان قوس قزح التي تُقحم في كل أمر، فسأخبره أنها ترمز إلى ألوان المنتخبات التي تحب أن تستقبل شباكها الكثير من الأهداف؛ على عكس فطرة كُرة القدم وفكرتها.

والحقيقة أيها الناس أني محبٌ لكرة القدم، ولكني لست متسامحًا مع فكرة التسامح «العبيط» التي يروج لها، وكما قيل:

حين تتسامح مع كل شيء فإنه ليس لديك شيء لتدافع عنه.

وكأن السياسة لم تكن كافية لإفساد لعبة كرة القدم، حتى قفزت هذه الكائنات الرخوية اللزجة المقززة، لتفرض على الناس ما يخالف معتقداتهم وفطرتهم وبشريتهم قسرًا.

ولذلك فإني أعتقد أن هذه النسخة –إن أقيمت– ستكون أوسخ نسخة من كأس العالم منذ أن خطرت الفكرة في ذهن جول ريميه. قد تشهد مستويات فنية وتنافسية جيدة، لكنها ستكون ملوثة بأوساخ يصعب تجاوزها. أشعر أني -بصفتي عاشقًا لكرة القدم- سأكون بعد هذه النسخة من كأس العالم، أشبه بمن يكتشف بعد قصة حب طويلة أن حبيبته تعمل في ناد للتعري أو ملهى ليلي!

أتمنى أن أكون مخطئًا، وأن يتصدى العالم والمشجعون لكل الرخويات التي ستحاول إفساد متعتهم، وأن يكون لديهم من الجرأة والقوة على رفض القبح ما لدى تلك الكائنات الهلامية من الجرأة والقوة على فرض القبح. وأن تكون رسالة المشجعين في هذه النسخة لأبناء الحقبة الزمنية المظلمة هي أننا اكتفينا من تقبُّل الانحطاط والوضاعة.

روسياكأس العالمكرة القدمالرأي
نشرة الساخر
نشرة الساخر
منثمانيةثمانية

الحياة أقصر من أن تستفزك تغريدة على إكس. هذه النشرة من أجل استفزازك بطريقة أخرى!