كرة اليد: سردٌ اجتماعي سعودي

باتت كرة اليد على قمة الإنجازات الرياضية الوطنية، وما زال الأفق واعدًا بالمزيد. لتبقى هذه الرياضة مثالًا حيًّا على قدرة تجاوز الذات.

أنتمي إلى مدينة صغيرة، لم يعرفها الناس في هذا الوطن وخارجه بهذا الاتساع، إلَّا من خلال حضور أبنائها في لعبة كرة اليد، هذا الحضور المبكر في المنافسة، وهذا الاهتمام الواسع من قبل الناس في مدينة سيهات، أسَّس لنصٍّ اجتماعي نريد أن نتهجاه، وأن نحاول فهمه. 

نصٌّ يضيف أشياء إلى المكان، ويحذف أخرى، نصٌّ يعيد تأثيث صورة هذا المكان وهو يستدعي في سطوره رموزًا وصورًا وتعابير، تلخّص هذا السفر الطويل مع لعبة كرة اليد.

أهازيج فرح المدينة بنادي الخليج 

ما زالت مرساة ذاكرتي الصغيرة تقف عند حدود أول حفل غنائي في مطلع الطفولة، حيث يحتفل نادي الخليج بإنجازات كرة اليد في منتصف الثمانينيات الميلادية. ويكتب في دفاتر التاريخ أكثر الأغاني رسوخًا في ذاكرة ناسه، والتي استمرت بوصفها أهازيج للفرح والتغني بالمدينة والنادي معًا.

لم تغب هذه الغنائية العالية، رغم غياب كل مظاهر الغناء في هذه المدينة، طيلة عقدين من الزمان على أقل تقدير. كانت لحظات الفوز والظفر بالألقاب بمثابة عرس يستعصي على النسيان، وكانت الرايات التي ترفرف من فوق البيوتات أول تأويل لهذا الفرح الدائم، بوجود رياضة يجتمع على حبها الناس في هذا المكان. 

هذا الفرح كان يتمدد مع الوقت، ويجلب معه المزيد من الاهتمام الاجتماعي. ستخيط الأمهات، ذات قمة كروية مع النادي الأهلي، رايات ملونة بألوان الخليج، وستنتشر في كل زوايا الأحياء كأنها تعاويذ للفرح القادم. خلت المدينة يومها من الناس، حين فاضت بهم الكراسي الخضراء، قبل ساعات من بداية اللقاء. ذاك اللقاء الذي انتهى يومها ككابوس لا ينسى.

سحنة الفريق من سحنة سيهات

في الرياضة يهب الفريق مشجعيه إحساسًا بالانتماء إلى بناء اجتماعي مشترك، لتصبح فيها ذات الواحد منهم متأسسة على شكل الولاء لهذا الفريق والدفاع عنه. فتتحول هذه المشاعر، في لحظة الفرجة، إلى محركات للحماسة والتشجيع والتعبير عن أشكال التفاعل مع الفريق.

وفي كرة اليد، التي لم تفتح أبوابها يومها للانتقالات الواسعة، تبدو صورة الفريق من صورة مشجعيه، أي إنَّ فعلَ التماهي العاطفي ستناله جرعةٌ مضاعفة لوجود عناصر أخرى تعزز من هذا التآلف والشعور بالولاء مع الفريق. فالجمهور بذلك ليسوا زبائن، بل هم أطرافٌ حاضرة في الفريق، بنحو العلاقة المكانية أو القرابية.

هذا الشكل من العلاقة، وتلك الظروف التنظيمية والمالية، جعلت من هذه الصلة الحافز الأول للاعبين والجمهور على حد سواء. يلعب اللاعب وليس في حسبانه مكافأة تتجاوز الهتافات التي تملأه بالحياة، وفرح المدينة الذي يطرز النهايات الجميلة. وبالمثل يمضي الجمهور، وفي مطلع رغباته أن تصبح المدينة أكبر عبر بوابة الإنجازات، وأن يصبح «عيال الديرة» أعلامًا في سماء الرياضة.

لذلك سيقترن الهتاف للفريق مع الهتاف للبلدة والمدينة، وسيصبح التعصب للفريق امتدادًا للتعصب للمدينة التي يمثلها، فيبدأ التحشيد من التذكير بالمكان المشترك، الذي يمثل الذريعة الأجمل بالنسبة للجمهور للمشاركة والتشجيع. وهو ما سيجد صداه في جواب اللاعبين حين السؤال في لحظات الفوز والهزيمة، حيث الإشارة الدائمة إلى البلدة وأهلها ضمن نبرة الاحتفاء بأكثر الأشياء حضورًا في منعطف التنافس.

سيذكر المتسمّرون أمام الشاشات في بداية اللعبة فرحهم الطفولي بنطق اسم مدينتهم عبر التلفاز، سيكسر المذيع بلهجته الحجازية حرف «السين» في اسم سيهات تارة، وسيفتحه تارة أخرى، فيما أشرعة الفرح ستداعب مخيلتهم لهذا الحضور الاستثنائي، في زمن لم تعرف فيه هذه البلدات طريقًا للحضور في فضاء الشاشة. سيفرحون لسماع أسماء مألوفة وقريبة منهم، ولو طال قراءتها الكثير من الأخطاء، فهي بمثابة الحضور في المتن بعد البقاء الطويل في الهامش.

أفق التشجيع وإنتاج الذات الجمعيّة

تبدو الجماهير الرياضية -وهي جزء جوهري من المعادلة- الأكثر انشغالًا بتعزيز معنى الشراكة الاجتماعية. فحين يندفعون إلى دعم فريق يتحولون مباشرة إلى كتلة متشابهة، ويؤسسون علاقة عضوية بالنادي الذي يميلون إليه. يحيلون كل شيء إلى عنوان معبر عن هويتهم وهوية الفريق، وفي لحظة تماس عاطفي تتكثف فيها الصورة الحالمة التي تجعل من حضورهم الدائم دفعًا باتجاه إيجاد هوية اجتماعية جامعة.

أزمة التشجيع والانتماء في كرة القدم

تجاوز حب المشجعين لأندية كرة القدم الحدود الجغرافية واستحوذت الفرق الكبرى على مشجعي العالم، لكن أين موقع النادي المحلي في هذا الحب؟

5 أكتوبر، 2021

لا يتصل التماهي بين أفراد الجمهور باللباس والألوان المشتركة التي يحرصون على ارتدائها، ولا العبارات التي يتشاركون في تردادها، ولا حتى الانشغال بمناسبات الفريق ومواعيده؛ بل في ذلك الحرص المستمر في تحديد المسافة بين الذات والآخر. حرص يتمثل في طرق توصيف الذات/الفريق، وتوصيف الفرق الأخرى، وطرق تقييمها. 

إذ ثمة ما يوحي دائمًا برغبة إنتاج الذات الجمعية، وتأسيس ما يشبه صورة القبيلة. فالجمهور الذي يصفق ويغني طيلة المباراة، لا يبحث عن لحظة النصر فقط، بل يجهد في إثبات هذه العلاقة مع الفريق ومع الجماعة التي ينتمي إليها. 

وتبدو لي الأغاني والأهازيج التي يستعيرها الجمهور اليوم بوصفها رافعة شعورية، ومنهم جمهور كرة اليد، مبحثًا ثقافيًّا واجتماعيًّا مهمًا لاكتشاف أنماط التعبير عن الذات من جهة، والبحث في الموجهات الثقافية التي ترسم حدود الذائقة واللغة وكل أشكال التعبير التي ينتخبها الناس في لحظة التشجيع.

من دفاتر الدين والسياسة إلى الرياضة

توجد الكثير من آثار التاريخ والثقافة والاجتماع وحتى السياسة في صور التشجيع. ونتحدث عن التشجيع بصفته أدائيات حية، بما فيها اللغة والحركة واللون، وكل التفاصيل التي اعتاد المشجعون اعتمادها في لحظة الفرجة. وأعتقد أن مقاربتها أنثروبولوجيًّا أو سيميائيًّا سيهبنا القدرة على سماع الأصوات التي تستتر خلف أناشيدهم، وتجعلنا نعي الرياضة في تمثلاتها الاجتماعية والثقافية.

لا يبدو أي شيء خالصًا في الرياضة؛ فالناس تذهب إلى الملاعب حاملة تصوراتها عن نفسها وعن الآخر. تحاول أن تجعل من هويتها الاجتماعية منصة للتعبير عن الفرح والحزن، عن الحماسة والشجاعة. وهذا ما دفع مسئول ألماني إلى أن يعقب ذات مؤتمر لمحاربة العنصرية في الملاعب، بأن الملعب لا يمكن أن يكون أفضل حالًا من المجتمع.

في الزمن الأول، كانت بعض الأهازيج تتسلل من دفاتر الدين ودفاتر السياسة، وفيها الأهازيج العراقيّة الشيعيّة بالثمانينيات، التي صُحِّفَتْ لتتلاءم وعنوان التشجيع الرياضي.

كانت المباريات التي تجمع الخليج والأهلي تحظى بمتابعة واسعة، وكان الحضور الذي يملأ الصالة قبل موعد اللقاء بثلاث ساعات وأربع دليلًا على استثنائية لقاء كهذا. كانت الناس تتابع المباراة لا بوصفها مباراة، وإنما انتصارًا لجغرافيا وتاريخ وهوية. Click To Tweet

كان كل شيء يجري تأويله يومها ضمن متواليات الصراع، لذلك كانت الجماهير تتذخر عبارَتَها الخاصة في أوقات الهزيمة، والتي ستُحسَب على الإحساس المتضخم بالمظلومية، مثلما كان الجمهور الآخر يتخير الانتقام بالتذكير بهوية الآخر وصفته التاريخية. ستمثل تلك العبارات حالة دفاعية تطوي معها مشاعر الحسرة والخسارة في نهاية المطاف، ستختصر ليل التأوهات في نهائيات كانت الخسارة فيها أقرب من الفوز، وسترمي الهزيمة على أستار التاريخ!

تبدل أفق التشجيع اليوم مع تبدل صورة اللعبة، والوقت الذي جلب الانفتاح على عوالم التشجيع الأخرى تسبَّب في توسيع احتمالات طرائق التشجيع. فإذا كانت ظلال الرياضة الكويتية بارزة في لون البدايات، باعتبار الخصوصية التي يحفل بها الكويت ضمن التكوين الخليجي، بصفته مجتمعًا متقدمًا فنيًّا وثقافيًّا ورياضيًّا، فإن النهايات التي آلت إليها لغة التشجيع باتت خليطًا من صور التشجيع الأوروبي وأهازيج أهل الغربية وبقايا أناشيد الساحل.

استثنائية نادي الخليج 

«لولا الخليج لما كانت اللعبة بهذه الشعبية،» هكذا يعلق إداري سابق لواحد من أبرز فرق اليد بالمنطقة، وهو يحيل هذا الحضور الطاغي لكرة اليد على رقعة الجغرافيا المطلة على الساحل، وبالتحديد القطيف. فقد كان الخليج بمثابة الدرس الأول في تذوق كرة اليد، وكان صعوده السريع في المنافسة التي حملت أبناء الساحل والريف للاصطفاف خلفه مبكرًا هو الباعث الرئيس لجعل هواء القطيف مختلطًا بحب كرة اليد.

كان نادي الاتفاق على سبيل المثال حاضرًا في واجهة هذه الرياضة، وكذلك نادي القادسية، لكن هذا الحضور لم يهب هذين الناديين استثنائية في فضاء كرة اليد كما هو الخليج، لذلك بدت يد الخليج أكثر تأثيرًا في محيطها القريب، من القرى والمدن التي اعتادت متابعة مباريات القمة. وهم في الغالب يستحضرون صور اللاعبين الأوائل ضمن استذكار دوافع المتابعة والمشاركة في هذه الرياضة.

تمكَّن الخليج من إحداث إزاحة جغرافية لهذه اللعبة التي حظيت بمشاركة فرق عدة من مختلف مناطق السعودية من الوسط والشمال والغرب والشرق. يومها كانت فرق الدوري خليطًا من أندية العربي والعروبة والأنصار والنجمة والاتحاد والحزم والاتفاق والأهلي والخليج، قبل أن تتحول إلى سحنة واحدة في درجاتها المتعددة، سحنة تشبه أهل المنطقة الشرقية.

النور يرسم خريطة اللعبة من جديد 

في هذه الإزاحة جاءت أول التباشير من جهة الساحل مرة أخرى، من جانب بلدة تعانق الأسياف وصور السفن وذاكرة البحارة، لترسم ملامح جديدة لخريطة اللعبة. ففريق النور الذي بدت طموحاته واضحة في بداية التسعينيات كان بمثابة الدرس الأطول في ترويض الفرق الكبيرة. إذ رمى بكل شباك صيده ليظفر سريعًا بأول بطولة للدوري في منتصف التسعينيات، ويتبعها مباشرة ببطولة عربية والكأس المحلية. 

وحقق بعدها مشاركة بارزة في صفوف المنتخب الوطني التي نال فيها حارس النور مناف آل سعيد لقب أفضل حارس عربي، لتعزز من صورة الفارس الجديد في مضمار كرة اليد.

كان هذا الوهج الكثيف لفريق النور كافيًا لتسريع وتيرة المنافسة، وتوسيع دائرتها ضمن الرقعة الجغرافية الصغيرة. ستغادر باقي الفرق مواقع المؤخرة، وتبدأ البحث عن حضورها في المقدمة. بات مد النور سببًا لجلب المزيد من الاهتمام ناحية اللعبة، والذهاب بأحلام الفرق الصغيرة إلى الأمام. 

سيتكرر الحديث عن ضعف الإمكانات لهذا الفريق القادم من جزيرة صغيرة. غير أن هذا التركيز كان له أثره الإيجابي في الطرف الآخر، في القرى والبلدات المحيطة، حيث تتناسل الأمنيات بإيجاد فرق تستلهم هذا النموذج وتمضي لتجاوزه.

 هكذا باتت قرى وبلدات الساحل الشرقي مرافئ لكرة اليد، عناوين دائمة للإنجازات والبطولات المحلية والدولية، ولا شيء في جدول الدوري المحلي سوى المنافسة المستمرة بين فرق المنطقة. فهنالك مثلًا عشرة من أصل اثني عشر فريقًا في دوري 2017 يتجاورون جغرافيًّا، ويتنافسون بكثير من النديّة في الدوري الممتاز، ومثلهم في دوري الدرجة الأولى. هم مختصر الحكاية التي ابتدأت بسؤال الخليج، وانتهت عند جواب النور.

والسؤال الآن: كيف تبدَّت سلطة المكان في هذه اللعبة؟

القطيف وسمٌ للهويّة 

قبل مباراة النور ومضر في نهائي الدوري لموسم 2017، انتشر مقطع فيديو لحوارات مع الناس تكرر فيه التنبيه لعبارة «كلنا القطيف». جاء التسجيل مشحونًا بالكثير من الدلالات التي تتجاوز عنوان الكرة. فهو يتجاوز صورة التسامح التي كان يدفع لها فريق التصوير من أبناء سنابس، وهم يحاولون تطويق أي نعرة متطرفة أو حماسة محرضة للعنف، إلى صورة أخرى تحاول تأسيس مفهوم «الغيرية» أو الآخر، من خلال مفردة محمولة على تأويل القطيعة الثقافية والاجتماعية مع الآخر.

Img 4263
من المباراة الختامية لدوري كرة اليد بين النور ومضر (2017) / اللجنة الأولمبية والبارالمبية السعودية

«القطيف» اسم مكان، لكنها في مشهد الكرة إياه تتجاوز الاسم إلى الرسم، وتتجاوز اسم المكان إلى وسم الهوية. تدفع شهوة الفوز فيها باتجاه الانتصار لدوري قطيفيّ صرف، ضمن محاولة تَملُّك هذه اللعبة وتحويلها إلى ساحتنا في مقابل ساحتهم، إلى ملعب الأهل في مقابل ملاعب الغرباء. وهو ما يوسع من أسئلة الهوية في هذه الرياضة، التي لا يمكن فصل واقعها عن واقع الناس المنشغلين بها.

الإحساس المضاعف بالمكان كان سببًا بالأمس في استقرار إنجازات نادي الخليج ضمن عنوان سيهات، وسيهات هنا هي المكان الذي يصف الجماعة في جغرافيتها وتاريخها. سيتخفف أهل البلدة غالبًا من الإشارة إلى القطيف في تلك الحقبة، لأنهم ينظرون إلى الفضاء الاجتماعي الحاضن لهذه التجربة. بينما تزداد اليوم فرص التوسيع، ويقظة الكثير من أسئلة الهوية التي تتصل بالمكان، مع زيادة الفرق المشاركة في الدوري، وزيادة التسخين الثقافي والسياسي والإعلامي لهذا الشكل من القسمة.

من الانفتاح إلى العزلة

لن تغيب البلدات في سياق الاحتفاء بالمكان، سيلحُّ لاعبو النور وجمهوره مثلًا على استذكار سنابس معظم الوقت وهم يؤسسون لهويتهم الاجتماعية. غير أنَّ الرغبة في التوسيع تدفعهم عادة إلى توزيع تأويل الفرح على القطيف المحافظة. وهو الأمر الذي يجري استثماره بصفته صورة مقابلة لكثير من الصور الضاغطة اليوم في فضاء الإعلام، والمسخنة لدلالات القطيف السجالية.

سيبدو «الآخر» في مشهد المواجهة الكروية وصفًا منذورًا لمن هم خارج هذه الكتلة الاجتماعية، أي ما يبقيه وصف الفرق القطيفية خارج حدودها. تصبح المسافة بحسب التقسيم الاجتماعي هي المحسوبة باحتمالات التقارب مع مزاج هذه الكتلة، كون التكتل في ذاته عنوان قوة يراد منه أن يكون حاضرًا لتعزيز قوة المكان المتخيل. هذا المكان المملوء بمنعطفات التاريخ، وأسئلة الثقافة، وقبل ذلك التصورات عن الذات التي تصوغ لنا طبيعة الهوية الاجتماعية وعلاقتها مع الآخر.

كرة اليد لعبة «قطيفية»، هكذا يمضي البعض في توصيف المشهد الذي لا يخلو من الموحيات بأنه قائم على هذا التقسيم. أي إن الممارسة واللغة معًا تدفعان إلى استمراريته، حتى لكأن اللعبة، التي كانت عنوانًا للانفتاح والتواصل، والدخول في عناوين تتجاوز الإقليم والجماعة، قد أصبحت مساحة أخرى للعزلة والقطيعة.

سطور النهايات

كتب الجيل الأول لكرة اليد، في هذه الجغرافيا الصغيرة، أول السطور في لوحة الإنجاز الرياضي، وهم يذهبون بإرادتهم من هامش الحياة إلى متنها. اجتازوا كل الصورة النمطية عن إنسان هذا المكان، وتوجهوا لكتابة نص جديد. نص كفيل بالإجابة عن سؤال الحضور والغياب في هذا الوطن، في زمن المشي غير المأمون على حد الظنون والتأويلات. لقد منحت كرة اليد لأبناء الساحل استحقاقًا يتجاوز عنوان الرياضة، إلى تقديم نماذج مضيئة كفيلة بترويض كل المخيلات البليدة التي تستبطن الازدراء والإقصاء والتشكيك.

كتبوا سطورهم، وأكمل أبناء المدن والقرى التالية مشوار الكتابة، وهم يساهمون بشكل فعال في حاضر الرياضة المحلية ومستقبلها، ليتألقوا في تقديم دروس لتجاوز الواقع وقيوده وهم يخيطون من طموحاتهم أشرعة للأمل. كانت هذه اللعبة بمثابة المختبر الأهم لاكتشاف هامش الإبداع الواسع للرياضات الجماعية بالمنطقة، الذي انتهى إلى صورة من الجينات التي تتوارثها الأجيال.

الجيل الذي مر كان عطاؤه بمقدار التحديات التي تركت انعكاساتها في صورة الواحد منهم، كانوا غاية في الإصرار وهم يوسعون من احتمالات النجاح. يومها لم تكن هنالك الكثير من الأموال ولا الكثير من الأضواء، كانت الرابطة الأخلاقية للعبة هي الحافز الأول، الرابطة التي تجعل من اللاعبين ممثلين عن مدينة بكاملها، ومتعهدين لترجمة أحلامهم إلى ساعات من المتعة وساعات من الفرح.

كان هذا العطاء كفيلًا بتحويل الناس باتجاه الصالات، للتعبير عن مزيد من تكاتفهم حول هذا المعنى الجديد من معاني الشراكة الناجحة، كان تعبيرًا واضحًا عن رغبة ناس هذه الأرض في صياغة شكل وجودهم الإنساني، وجعله أكثر فاعلية، حتى بدا النجاح نصًا مشتركًا بين الجمهور واللاعبين، النص الذي سيقرؤه القادمون من بعدهم ويحفظونه بكثير من الحب، ومن ثَم يعاودون تمثله في سيرة فرق أخرى.

 كرة اليد أفقٌ وطنيّ يتجاوز الذات 

أفادت الصحافة أيضًا من نصوص كرة اليد ونجاحاتها، فمنها صعدت مجموعة من الأصوات الصحافية التي أسست مجدها الإعلامي على هامش كرة اليد، من أمثال حسين كاظم وعيسى الجوكم وجعفر أمان. فكان إيقاع تلك الأصوات من إيقاع اللعبة وتطورها، في الوقت الذي كانت كرة القدم وحدها ذات الحضور الطاغي في تغطيات الرياضة. وهؤلاء من الجيل الذي دوَّن ذاكرة كرة اليد في البدايات، وساهم في توسيع دائرة الاهتمام الإعلامي بها، الأمر الذي وهب المكان المزيد من الأضواء في الصحافة المحلية.

باتت كرة اليد على قمة الإنجازات الرياضية الوطنية، وما زال الأفق واعدًا بالمزيد. لتبقى هذه الرياضة مثالًا حيًّا على قدرة تجاوز الذات، وتجاوز محددات الواقع، وضعف الإمكانات، والبناء على الأمل والتحدي والثقة في تجاوز العقبات. 

فصورة نادي النور الماثلة أمامنا تحكي عن الطاقة الإيجابية التي تصنعها روح الفريق وانضباطه من أجل تكريس النجاح بصفته قيمة تصونها الجماعة، وتدافع عنها بالعمل والتفاني.

الرياضةالسعوديةالقطيفالمجتمعالهويةالثقافة
مقالات حرة
مقالات حرة
منثمانيةثمانية