الشيوعية المستحيلة: برتراند رسل في مواجهة لينين

رفض برتراند رسل البلشفية بعد قدومه لروسيا. ويستعرض أمين حمزاوي مآخذ رسل عن تطبيقات الشيوعية ورهانها الخاسر

وصل برتراند رسل إلى روسيا في شهر مايو من عام 1920، أي بعد ثلاث سنوات تقريبًا من تولي حزب البلاشفة السلطة بقيادة فلاديمير لينين عقب ثورة أكتوبر، وقد غادرها وهو أقل حماسًا بكثير حيال التطورات السياسية، والنموذج السوفييتي للثورة الذي روّج له الاشتراكيون في الغرب باعتباره مثلًا أعلى يجب على جميع الأحزاب الاشتراكية حول العالم إتباعه.

وقد أعلن رَسل منذ وقت مبكر للغاية عقب زيارته معارضَته ورفضَه للأساليب والأطروحات البلشفية كالتالي:

أنا مضطر لرفض البلشفية لسببين: أولاً، لأن الثمن الذي ينبغي على الجنس البشري دفعه لتحقيق الشيوعية عبر الأساليب البلشفية ثمنٌ مُرعب للغاية. وثانياً، حتى بعد دفع الثمن، لا أعتقد أن النتيجة ستكون ما يريده البلاشفة.

رَفضَ برتراند رسل الاشتراكية التي تأتي عبر الثورة المُسلحة، على أساس أن مكاسبَ الحرب، والحرب الأهلية على وجه التحديد، محلُّ مُسائلة وموضع شك كبير. فالصراع الممتد واليائس قد يُهدد كل مكتسبات الحضارة، إلى جانب سيطرة الكراهية والارتياب والقسوة والاستخفاف بالقانون على العلاقات الاجتماعية، وهي الخصائص التي يصعب إعادة تشكيل مجتمعٍ أفضل بالاعتماد عليها.

كما يؤدي تركيز السلطة واحتكارها اللذان تتطلبهما الحرب إلى نفس مساوئِ تركيز الثروة الرأسمالي التي تدَّعي “الثورة العنيفة” رغبتها في التخلص منها.

رهان خاسر

لم يصل البلاشفة إلى السلطة بناءً على إعجاب الأغلبية بالشيوعية، وإنما بناءً على وعودهم الواقعية التي منحوها للعامة بـ”الأرض والسلام”.

وبينما تعتمد نظرية لينين في الثورة على سيطرة حزب من المناضلين “الواعين طبقيًا” على السلطة واستغلال أجهزة الدولة في ردع الثورة الرأسمالية المضادة، لكنها تُهمِل حقيقةَ أن كل المواطنين المُحايدين سياسيًا سيؤيدون الرأسمالية ضد تمردِ قلةٍ مسلحة، وأن الأغلبية المسيسة في أي بلد لن تكون أبدًا مؤيدة للاشتراكية، خاصة في البلدان الأكثر تطورًا من روسيا، أو التي تحظى بمستويات معيشة أفضل وفرص أكثر للترقي الاجتماعي.

ولذلك يؤيد برتراند رسل إقامة الاشتراكية عبر التدرّج في الإدارة الذاتية للمصانع من قِبل النقابات واتخاذ الطريق البرلماني أيضًا، فحكومة اشتراكية منتخَبة من الأغلبية، سوف تحظى بدعم وتعاطف الأخيرة في أي نزاع مسلح قد تضطر إليه ضد ثورة رأسمالية مضادة.

شبح السلطة

لقد راهن البلاشفة على اختفاء الدولة بمجرد قضاء مهمتها في إنهاء التقسيم الطبقي للمجتمع، لاعتقادهم بأن إنهاء القمع الطبقي من شأنه أن يحقق الحرية تلقائيًا، لكنهم لم يدركوا إمكانيات تشكُّل طبقة بيروقراطية مُسيطرة من بينهم تصعب مُطالبتها بالتخلي عن سلطتها المُكتسبة خلال ذلك الوقت الذي يتطلبه اختفاء الدولة، فالسلطة “لذيذة” ويصعب التخلي عنها خاصة إذا اعتمدت على قوة السلاح والأحكام العرفية وإهدار الحريات المدنية. فما الذي سيدفع مسؤولي الدولة للتخلي عن سلطاتهم؟

أو ما الذي سيدفعهم مثلًا لتخفيض رواتبهم أو عدم التربح من استغلال مناصبهم؟ إن لم تكن هناك رقابة، فلا دافع لهم إذًا سوى المثالية الذاتية المدفوعة بعوامل غير اقتصادية يُنكرها البلاشفة أنفسهم.

يهدد شبحُ السلطة شبحَ الشيوعية، ليس عبر قمع الأول للأخير، ولكن عبر امتلاكه. فعندما يستلم المُنظّرون والمناضلون الثوريون سلطةَ حكومة كبيرة، تتبدل رؤيتهم للحياة عما كانت عليه وهم مُطارَدون من قِبل السلطة، بحيث تبتعد شيئًا فشيئًا عن الحياة اليومية.

لقد شَبّه رَسل استجابة الجماهير لخطاب تروتسكي في أوبرا موسكو (حيث رآه لأول وآخر مرة) باستجابة الجماهير البريطانية في خريف 1914 لنداء الحرب. وبالفعل تنامت عاطفة قومية داخل الجيش الأحمر، مخالفة ادّعاء البلاشفة بأنهم أُمميون في المقام الأول، كما برزت المشاعر الإمبريالية القديمة مع استعادة الجيش الأحمر للأراضي الواقعة في آسيا.

ثوري مُخلص.. وديكتاتور

قابل برتراند رسل لينين بمكتبه، وقد وصف الأخيرَ بأنه “ودود للغاية وبسيط، ولا يحمل أي أثر للغرور”، وبأن قوته تنبع من “إخلاصه وشجاعته وإيمانه الديني الراسخ بالإنجيل الماركسي”، لكنه أضاف أن “لديه القليل من حب الحرية، مثل المسيحيين الذين اضطهدهم ديوكلتيانوس، ثم مارسوا الشيء نفسه بعد أن حازوا السلطة، ربما لأن حب الحرية لا يتفق مع الإيمان العميق بترياق شامل لكل أمراض البشرية”بينما فضّل رَسل النزعة الشكوكية الغربية على إيمان البلاشفة الديني بأفكارهم مهما كانت علمانية.  

انتقد برتراند رسل نظام الانتخابات السوفييتية لتحكّم الحكومة الشيوعية بالطباعة وحصرها على مُرشّحيها واحتكارها لصالات المؤتمرات، بينما حُظِرت الصحافة ما عدا تلك الحكومية، مع العلم بأن المواطنين لم يملكوا أساسًا ما يكفي لشراء الصحف، وكانت الصحف المطبوعة قليلة المحتوى بسبب النقص الحاد في الورق.

وكانت النتيجة أن تَشَكّل سوفييت موسكو بكامله من الشيوعيين الأرثوذكسيين (المتزمتين عقائديًا)،بالإضافة إلى الاستبعاد الملحوظ للريف من التمثيل في السوفييتات، ففي زيارته لمقاطعتي “فولوست” و”جوبيرنيا” الريفيتيْن، اكشتف رَسل أنهما غير ممثلتيْن بالمرة في أي سوفييت، لأنه في حالة انتخاب مرشح غير شيوعي، فلن يُسمح له بركوب القطار للذهاب إلى اجتماع السوفييت. لكن أحوال الفلاحين عمومًا صارت أفضل من أيام القيصر.

وقد أسرّ له مكسيم جُوركي لدى مقابلته، وكان مريضًا، بأنه مهما بلغت بشاعة الوضع الحالي، فإنه أفضل مما كان قبل الثورة. نجح البلاشفة بالفعل في تقييد تربح موظفي الحكومة من استغلال مواقعهم، لكنهم لم يُقيّدوا إمكانيات اكتساب القوة والنفوذ لديهم. وقد امتلك جهاز “تشيكا” (هيئة الطوارئ لمكافحة الثورة المضادة والتخريب)، صلاحيات الاعتقال دون مذكرات والحبس دون إجراء تحقيق أو محاكمات.

أزمة الغذاء

 لم يَعبأ الفلاحون كثيرًا بوضع الحكومة، ولا بالحرب ضد الحلفاء ولم يُفضلوا الشيوعية كثيرًا، وكان كل ما أراده أحدهم امتلاك أرضه وزراعتها فقط. أما في المقابل -وعلى عكس الريف-، فقد تعمقت أزمة الغذاء في بتروق‍راد وموسكو، ومع ذلك ظلت الجريمة محدودة للغاية في الأخيرة و”الدعارة أقل من أية عاصمة أخرى حول العالم”.

نتجت أزمة الغذاء عن توقف النقل بسبب قلة القطارات الصالحة للتشغيل، وعدم قدرة الحكومة على تصنيع المزيد منها لنقص الخبرة العلمية المطلوبة، وعدم توافر الخبراء الأجانب نتيجةَ الحصار المفروض من الخارج، وكذلك توقف الصناعة وتركيز المستمر منها على الجهود الحربية.

كان الطريق بائسًا ومسدودًا أمام الديمقراطية في رأي رَسل، إذ أنه لو حَكمت روسيا الأغلبيةُ الريفية المُكتفية ذاتيًا من الغذاء، لمات سكان بتروق‍راد وموسكو من المجاعة التي ستفرضها عليهم أصوات الفلاحين الناقمين على مصادرات الحكومة للغذاء لصالح مركز الدولة الجديدة، دون توفير بضائع أخرى لهم في المقابل (أي الملابس والمعدات الزراعية) نتيجة الحصار الخارجي.

لقد عانت روسيا من الأمية ونقص الخبراء، والمركزية المطلقة في الإدارة وتشغيل المصانع التي اعتقد البلاشفة أنها الطريقة الأمثل والصالحة لكل الحكومات الطامحة للاشتراكية. ولم ينتبهوا إلى إمكانيات التحول التدريجي عبر الإدارة النقابية للمصانع التي من شأنها أن تمنح العمال خبرات الإدارة والاقتصاد والتشغيل التقني اللازمة لتوليهم مسؤولية تشغيل تلك المصانع في حالة قيام ثورة وانضمام التقنيين والاقتصاديين المحترفين (كما هو مُتوقع) إلى صفوف الثورة المُضادة، وبالتالي تجنب انهيار الصناعة كما حدث في روسيا بالفعل.  

الماركسية والطبيعة البشرية

انتقد برتراند رسل المادية التاريخية التي تقول بها الماركسية، على الرغم من أن ذلك المفهوم يحتمل في رأيه الكثير من الصواب، فالتصنيع مثلًا كان أكثر حسمًا من اكتشافات داروِن ونقد الكتاب المقدس في تداعي الإيمان الديني لدى الطبقة العاملة الحضرية. وفي المقابل أحيا التصنيعُ ذاته الإيمانَ الديني في صفوف الطبقات الغنية، إذ كان على القوى الرجعية الاتحاد ضد الطبقة العاملة الثائرة.    

يمتد إقرار رَسل بنجاعة المادية التاريخية إلى تحرر المرأة، فرغم دفاعات أفلاطون وماري وولستنكرافت وجون ستيوارت مِل المُحكمة عن المرأة، فقد تعززت مطالب التصويت مع خروج المرأة للعمل في المصانع أثناء الحرب، كما لم يتحقق التحرر الجنسي إلا عبر استقلال المرأة المادي عن الرجل.

لكن المادية التاريخية تُهمل عوامل أخرى في غاية الأهمية كالقومية مثلًا، فليست العوامل الاقتصادية هي دائمًا ما يدفع الرجال للحرب بقدر الانتماء للجماعة، حتى وإن كانت مصلحة الجماعة في بعض الأحيان ضارة بمصلحة الفرد الشخصية. فأبناء الطبقة العاملة الذين ذهبوا للجبهة في الحرب الكبرى لم تدفعهم المصالح الطبقية، وإنما المشاعر القومية المُجرَّدة، كما أن الكثير من الرأسماليين قد انساقوا وراء ذات المشاعر في حين كان السلم مفيدًا أكثر لمصالحهم الاقتصادية، خاصة أولئك العاملين في الصناعات غير العسكرية.   

إن التنافس أمرٌ غريزي في رأي رَسل، أما أُسسه الاقتصادية فهي شأن عارض. وحقيقة أن كثيرًا من العمال سيفضّلون التصويت لصالح رأسمالي كاثوليكي ضد نظيره الاشتراكي الملحد- ليست نتاجًا للتزييف الرأسمالي لوعي العمال فقط، وإنما قد تكون لرغبة حقيقية لدى العامل في تغليب عقيدته على المصلحة المادية.

روح التنافس

تأثر ماركس بعقلانية الاقتصاديين البريطانيين في القرن الثامن عشر، حيث اعتقد بأن المصلحة الاقتصادية هي المحرك الأول للفعل السياسي لدى الفرد، لكن رَسل يعتقد بأن الغريزة أكثرُ تعقيدًا من ذلك، وأن هناك عاملًا يتوسط بين الظروف الاقتصادية (أنماط الإنتاج) والدوافع البشرية ويتحكم في تفاعلها، وهو عامل الذكاء أو الإرادة البشرية.

فلا تُحدِد أنماطُ الإنتاج بنيةَ المجتمع السياسية والقانونية والفكرية من تلقاء نفسها كما في الماركسية الأرثوذكسية، وإنما تُحدد فقط إمكانيات تطورٍ أو تغييرٍ معينة لتلك البنية، يميزها الذكاء البشري الذي لديه من القدرة ما يكفي لعكس أو تعديل مسارها. فالذكاء البشري لم يقنع بمجرد تأمين الطعام والشراب، بل أراد اكتشاف الطبيعة وتطوير المعرفة والتقنية.

تقع غرائز المنافسة والمُباهاة وحب السلطة إلى جانب غريزة التملك التي تُركّز عليها الماركسية بصفتها دافعًا سياسيًّا. وبينما ترتبط الأخيرة فقط بالأوضاع المادية، ترتبط الثلاثة الأخرى بالعلاقات الاجتماعية. يكمن خطأ الماركسية إذًا في تحديد الرغبة في التملك بصفتها المُحرك الوحيد للفعل السياسي، وفي اعتبار الغرائز الثلاثة الأخرى مجرد نتائج أو ظواهر لتلك الغريزة، وليست غرائز مستقلة بذاتها.

ففي كل المجتمعات سيتنافس الناس، وسيُوجَد البعض ممن يرغبون في السيادة على الآخرين أو تطبيق أفكارهم عليهم، طالما أن الأغلبية من البشر أقل عزيمة وحيوية من أقليةٍ ما بإمكانها الاستحواذ على السلطة. ولذا فإن الحدَّ من الآثار الضارة للمنافسة يعتمد على توزيع السلطة، فينبغي إطلاق المنافسة في قنوات مشروعة يمتلك فيها الجميع الحق والفرص والإمكانيات الملائمة للوصول إلى السلطة، مع تأكيد حق الآخرين في الرقابة عليها وتصحيح أخطائها، حتى ولو كان ذلك بدافع التنافس البحت وليس لدوافع أخلاقية.

لا تقع في هوى السلطة

كان برتراند رسل من أوائل من لاحظوا تكونَ أرستقراطية من البيروقراطيين داخل الاتحاد السوفييتي تحاول خلق نظام قمعي وقاسٍ تمامًا، سيعيد إنتاج مساوىء الرأسمالية، بل ما هو أفظع منها. ولا ينفي ذلك أن رَسل كان أحد معارضي الرأسمالية الجذريين من غير الماركسيين، وقد اعتقد بأن الشيوعية “ضرورية لتقدم وسعادة الجنس البشري خلال القرون القادمة”، لكنه أكد على أن “أية محاولة لتوزيع الثروة دون توزيع السلطة إنجازٌ صغير وغير مُستقر” وسيعيد إنتاج أسوأ ما في الرأسمالية والاشتراكية على السواء. لكنه استشعر المعضلة المتمثلة في أنه كي يتحقق توزيع السلطة، فلا بد من استقرار اقتصادي لا تُهدده الأزمات لفترة طويلة، وقد كانت روسيا تئن تحت الحصار الاقتصادي وضربات الحلفاء في الخارج، ومن الحرب الأهلية في الداخل.

لكن ذلك لا يعني أن البلاشفة لم يتوانوا عن استغلال أية فرصة للتحول إلى ديكتاتورية عسكرية، وللمفارقة فقد كتب تروتسكي عام 1904

تؤدي أساليب لينين إلى ما يلي: أولًا يحل التنظيم الحزبي نفسه محل الحزب ككل، ثم تحل اللجنة المركزية نفسها محل التنظيم، وأخيرًا يحل ديكتاتور وحيد محل اللجنة المركزية

وقد حدث بالفعل أَن أمر ذلك الديكتاتور (أي ستالين) باغتيال تروتسكي في منفاه. وقد تنبأ رَسل مبكرًا بما سوف يؤول له النظام في روسيا على يد ذلك الديكتاتور قائلًا:

قد يتم الدفاع عن البلشفية، ربما بصفتها نظامًا رهيبًا تتحول بواسطته دولة متخلفة للصناعة بسرعة، ولكن كتجربة في الشيوعية فإنها قد فشلت.

الاشتراكيةالشيوعيةلينينالسلطة
مقالات حرةمقالات حرة