خطر لا لا لاند على العرضة النجدية
قد يكون لا لا لاند قطرة في بحر التقديم البطولي للأبيض الذي تقوم به السينما الأميركية على حساب عرق أو جنس آخر.
في ليلة لندنية ماطرة، كنت مع بعض الأصدقاء نمشي بين الشوارع هاربين من ازدحام السياح وباحثين عن مكان يحوينا. كنا -بلا مبالاة- نراقص أجواء الحي الذي يزعم أنه مهبط الأرواح البوهيمية، وهو في الحقيقة أقرب لمجمع الأرواح اللامبالية. وخلال جولتنا، انتبه لنا رجل كان يقف جوار لوحة تضيء بالنيون وكان على ما يبدو يحرس الباب خلفه.
“حبيبي” نادانا بلهجة سرعان ما أخرجتني من مكاننا وأعادتني زمانًا ومكانًا إلى زمكان مألوف لم أستطع تحديده مباشرة.
“يبغى يدخل جوة؟” استطعت حينها تحديد اللكنة، وقبل أن أتمكن من تأمل السؤال وعلاقتي باللكنة التي سُئِلْت بها، وجدتُنا قد دخلنا رواقًا مظلمًا نوعًا ما تحيط بنا جدران مغطاة بالمخمل الأحمر.
يبدو أن الحارس قد اصطادنا بما كنت أشعر أنه فخ مخيف. من نهاية الممر الطويل، كنا نسمع نغمات من الجاز الفاخر تخالطها أصوات التصفيق الحار وصرخات الـ”برافو!” العالية. بدأ الفضول يدفعنا نحو صالة العرض وكانت ابتساماتنا واسعة وأعيننا بارقة ونشعر بنشوة الاكتشاف.
كانت صالة العرض فوق التوقعات والمشهد أشبه بلقطة سينمائية من الطراز الهوليوودي: ضوء خافت وكراس حمراء ولوحات فوتوقرافية تملأ الجدران والجميع يضيء بابتسامة رومانسية. وعلى المسرح، كانت الفرقة المدعوة تستعرض قدراتها الجازية العالية. لم أعي وقتها أني قد دخلت نادي روني سكوت للجاز العريق (Ronnie Scott’s Jazz Club) بـ”واسطة” الـ”صديق”.
لم أملك وقتها سوى معلومات متواضعة عن عالم الجاز، ولذلك كنت مندهشًا بكل ما أسمع وأرى. لكن بعد دقائق معدودة أدهشني أمر آخر لم أستطع تجاوزه: لم يكن بين العازفين والحضور مَن هو ذو بشرة أدكن من بشرتي -علمًا بأني باعتبار الأصدقاء فاتح اللون-. وكانت إحدى المعلومات الأساسية في جعبتي حينها أن هذه الموسيقا ملك للعرق الأسود بحكم النشأة والتاريخ، ولكني تعجبت لعدم وجود السود بيننا ونحن في بيتهم!
كيف نشأت موسيقا الجاز؟
بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن الماضي، كانت مدينة نيو أورلينز (New Orleans) تحظى بتنوع سكاني يميزها عن بقية الجنوب الأميركي. وأدى هذا الخليط العرقي بطبيعة الحال إلى تداخل الخلفيات الموسيقية ما بين النغمات الآتية من أفريقيا وأوربا.
كما كان مسموحًا للعبيد -في نيو أورلينز فقط- آنذاك امتلاك الطبول، ما سمح للأجواء والطقوس الدينية الفودية أن تنجو من القمع.
ثم صارت الموسيقا في ذلك الظرف التاريخي حاضرة بقوة، إذ كانت المدينة تعيش في احتفالات دائمة إثر نهاية الحرب الأهلية. واستمر رموز الموسيقا في تلك المدينة الراقصة في خوض التجارب الموسيقية الجديدة حتى تكونت حالة نغمية خاصة بتلك الأجواء الحافلة.
ولم تلقَ تلك الأنغام شعبيةً خارج نطاق الجنوب إلى أن تمكن الموسيقار جيلي رول مورتن مِن نشر المعزوفات الجازية من خلال التسجيلات الصوتية.
وفي العشرينات الميلادية، كانت أغاني الجاز قد اقتحمت سائر البلاد إلى أن وصلت شيكاقو. ولم تكن التطورات التقنية مثل الراديو والأسطوانات المسجلة وحدها التي ساهمت بهذا الانتشار، فبعض العوامل الاجتماعية كالهجرة والترحال في فترة ما بعد الحرب لها فضلٌ في المساهمة بالنشر.
وفي تلك الفترة أيضًا منعت الحكومة الأميركية تجارة الكحوليات مما أوجد حانات سرية كانت تقوم على توفير الترفيه الذي غالبًا ما يكون عرض جاز موسيقي.
فن استعراضي أبيض
خلال جلوسي واستمتاعي بما كان يُعزَف في تلك الصالة، سهوت متأملًا في اللوحات الفوتوقرافية التي غطت الجدران، صور تبدو أنها تستعرض تاريخ المكان. تحولت تلك الصالة المظلمة نسبيًّا من قاعة احتفالات صاخبة إلى معرض فني أسمع من خلال صوره رنين الطبول.
رحت أتأمل بإخلاص وإعجاب تجانس درجات الأبيض والأسود التي طُبعت بها تلك الصور. لا أتذكر كم من الوقت قضيت في التفرج على الجدران تاركًا خلفي المسرح ومن عليه حتى صُعقت بتناقض هذا مع ذاك. أكدت لي الصور التي كانت تستعرض التاريخ اعتقادي: كان الموسيقيون الذين عبروا هنا سودًا، ما يعني أن تاريخ هذا الفن منسوب لهم.
وكان ذلك التناقض بين الصورة والواقع كالوميض الذي كسر التناغم بين الأبيض والأسود. وضع العم روني سكوت صور العازفين السود على جدران ناديه ليعكس للمتلقي جودة ما يقدمه له جوار زجاجة النبيذ. وجدتُني للمرة الثانية قد خرجت من مكاننا وعدت زمانًا ومكانًا إلى زمكان مألوف لم أستطع تحديده مباشرة.
والفارق هذه المرة أني أصررت على عدم التجاهل والتغافل.
لا لا لاند وتصدير الأبيض بطلًا
قبل ثلاثة أعوام، شاهدت فلم لا لا لاند (La la land) الذي كنت أعتقد أني مدين لصانعه بحبي البسيط للجاز ومعرفتي بماهية هذه الموسيقا. وفي قراءة ثانية للفلم، تكونت لدي عدة ملاحظات ساعدتني للوصول إلى التساؤل: كيف تحول الجاز من نمط تعبيري يخص السود إلى فن استعراضي فاخر يقدمه الأبيض للأبيض؟
فاز الفلم الموسيقي لا لا لاند بسبع جوائر في حفل القولدن قلوبز (Golden Globe Award) محطمًا بذلك الرقم القياسي لأكثر فلم يحوز على جوائر من هذا النوع. عندما شاهدت الفلم، تملكتني الدهشة تمامًا مثلما تملكتني في صالة الكراسي الحمراء في نادي روني سكوت.
يروي الفلم قصة رومانسية بين شخصيتيْن موسيقيتيْن يمثلهما الثنائي الجذاب ريان قوسلينق وإيما ستون. تدور أحداث هذا الفلم حول كلٍّ من سباستيان وميا المرتبطيْن بعلاقة حب ركيكة يهددها طموح كل منهما. ترغب ميا بالتمثيل الهوليوودي ويسعى سباستيان للنجاح الموسيقي بصفته عازفًا للبيانو مختصًا بالجاز.
والمثير أن الفيلم يجسد حقبة زمنية معاصرة يغلب عليها طابع النوستالجيا الذي يُشعر المشاهد أنه يستعيد أثناء مشاهدة العرضِ الزمنَ الأصيل أو ما يعرف في شارعنا بـ”زمن الطيبين”.
تتمحور قصة الفلم حول نقطة تقول بأن فن الجاز يقف على مشارف الموت مقتربًا من الانقراض دون أن يلقي أحدًا -سوى سباستيان- بالًا لهذه المأساة.
ورغم كل ظروف القصة، يبقى الهاجس الوحيد لدى سباستيان هو كيف يستطيع إعادة الجاز “النقي” إلى الحياة. والإشكالية المركزية في هذا الطرح هي أن الجاز بحكم نشأته المتعددة ليس له نمط أكثر اصالة من غيره، فإما أن يصنف جازًا أو لا.
بعد العديد من الرقصات والأغنيات والقبلات والتحولات الدرامية، يفترق العشيقان ساعيًا كل منهما وراء حلمه الذي لا يسع الطرف الآخر.
وخلال كل هذه الرقصات والأغنيات الجازية التي يستعين بها صناع الفلم لتحريك الشخصيات ومنحهم البطولة، يُعبَث أيضًا بأركان هذه الفئة الموسيقية فيتلقاها المشاهد -كما جرى معي- بصفتها فئة جديدة يقدمها البطل الأميركي الأبيض على أنها الشكل الجديد “النقي” للجاز.
وهذا البطل هو ذاته سباستيان الذي تُختتَم به القصة ناجحًا محققًا لحلمه ألا وهو إنقاذ فن الجاز. ففي المشهد الأخير يقف سيباستيان على خشبة المسرح أمام الجمهور في ناديه الخاص يغني ويعزف معلنًا بذلك الانتصار. وعلى هذا الإثر، تصبح الأندية الموسيقية الفارهة مثل نادي روني سكوت الذي يقف على بابه حارس تقدم جازًا فارهًا يعتقد مستمعه أنه الجاز “الأصيل”.
يجب التنويه إلى أن طاقم الممثلين الرئيسين في ذلك العمل لم يشمل ممثلًا أسود -باستثناء بسيط جدًا-. لماذا من المهم أن يخص هذا العمل تحديدًا شخصيات يمثلها سود وما علاقة هذا بالجاز؟
لأني ازعم بأن الموسيقا عامةً والجاز خاصة فيها من اللين ما يسمح بالتجدد والابتكار، لا يزعجني انفتاحها لاستقبال الموسيقيين الجدد والتنوع في طرحها. وأعتقد أني لو أردت أن أحب هذا الفن بقدر ما هامَ به سباستيان،
سيكون من حقي حينها أن أقرأ عن هذا الفن بل وربما أكتب عنه وقد أجرؤ على عزف نغماته. ما أعتقد أنه سيفصلني عن سباستيان أني لن أعتقد أن ما يقدمه من طرح جديد هو قتل لهذه الموسيقا وأني مكلف بإسعافها منه. قد يكون لا لا لاند قطرة في بحر التقديم البطولي للأبيض الذي تقوم به مؤسسات السينما الأميركية وخاصة على حساب عرق أو جنس آخر.
نرى هذا في أنماط عديدة وتحضر هذه الثيمة في العديد من الأمثلة كفلم الكتاب الأخضر (Green Book) الحاصل على أوسكار أفضل فلم العام الماضي والذي يجسد السائق الأبيض بصفته بطلًا ينقذ راكبه الأسود ويكسر قيود التفرقة العنصرية رغم حضورها المؤسساتي في تلك الفترة. وعلى هذا السياق تتكاثر الأمثلة التي تكاد لا تعد ولا تحصى كفلم اثنا عشر عامًا من العبودية (12 Years a Slave) والجانب الأعمى (The Blind Side) والماس الدامي (Blood Diamond).
خطر سباستيان على العرضة النجدية والتعشير الحجازي
قد يكون ما أقوم بفعله هنا من تسليط ضوء ضئيل كمن راح يبلط البحر، لكني أعتقد أن هذه الرسائل الخفية التي تعزز أحيانًا صورًا نمطية معينة وتنسب أحيانًا ثقافات معينة إلى الرجل الأبيض الوسيم، بل وتسلب الإنسانية في الكثير من الأحيان من الآخر وتعطيها لذلك البطل الأشقر- قد لعبت دورًا أساسيًا في جعل تلك الصالة في نادي روني سكوت في لندن ممتلئه بالبيض وخالية من الرجل الأسود حفيد من اخترع تلك الموسيقا في المقام الأول.
وقد يكون سباستيان وأعيانه مَن جعلوا مِن غير المقبول أن يشارك المستمعُ العازفَ الرقص والغناء والصراخ أيضًا أثناء الجلسات الجازية. بل أصبح الآن أكثر الجماهير جرأة هو الهمجي الذي يصرخ “برافو” عند انتهاء المعزوفة.
ومن يستطيع بهدوء -يكاد يكون غير ملحوظ- طلاء هذه الطقوس وإلباسها جسدًا ليس لها قد يقدر على إلغاء السيف من العرضة النجدية والبندقية من التعشير الحجازي، ويعيد تعريفهما كفنون أثرية ماتت بجهل أصحابها وعادت بفضل أقران سباستيان. بل ربما تصبح فنونًا استعراضية ينتجها سباستيان لترفيه ميا.
إن ممارساتنا الثقافية التي نرسم بها ملامح هويتنا مهددة وبوادر الخطر عليها أصبحت أكثر وضوحًا من أي وقت مضى، ويتبين ذلك أكثر في إنتاجنا الإبداعي. فقد أصبحت معارضنا الفنية ومتاحفنا تقدم “لعبة الخطوة” مثلًا للزائر الآتي من البعيد فيتجرد ذلك الفن التعبيري فجأة من إرثه التاريخي ليصبح مجرد استعراض لحظي يخدم ترفيه المشاهد العابر.
عندما نقارن جهودنا بالمحافظة على آثارنا يبدو بالحكم على النتائج أن نجاحنا أكبر من غيرنا. ما زال الزمام بين أيدينا، ولكن إذا لم نتوخ الحيطة خلال عملية انفتاحنا الثقافي السريع على العالم، فليس من البعيد أن نضيّع في لحظة سريعة ما حاولنا طويلًا الحفاظ عليه.
قد يكون تسجيل بعض ممارساتنا الثقافية مثل القَط العسيري لدى القائمة التمثيلية للتراث غير المادي للبشرية في منظمة اليونيسكو مؤشرًا إيجابيًا حيث يرمز لقبول العالم بنا أخيرًا.
لكني أخشى أن تدخل تلك المؤسسات في عالمنا فتظن أنها سباستيان الذي أُرسل لنا لإنقاذ تاريخنا الثقافي منَّا، فتعيد تشكيله بما يتناسب مع معاييرها حتى تصدره للعالم ويخرج من أرضنا شيء لا يشبهنا كليًا. فنتحول على إثر ذلك إلى الضمير المستتر في عملية إنتاجنا الثقافي.