ما في الدنيا مثل أحمد الشيبة
لقد كفاكم أحمد الشيبة ببساطة اليمني، وعزيمة الشاب الذي يقضي نصف يومه حاضنًا عوده، بينما رأسه يتسكّع في دروب المدن القديمة التي تحترق.
كان يمنيًّا حقًّا، بل يمانيًا بالألف. جلُّ حديثه معي عن وجع في أوتار يده، أو عمل قريب سيحطم به المشاهدات. ربما لأني كنت أنا من يقرأ له فحوصات الأوتار، وكان لا يصدق أحدًا غيري.
كبرنا بضحكة وشاي، مع حبه للحلويات وقدرتنا على المشي لساعات كي نحرق تلك السعرات. حتى توجُّس اليمني من كل شيء كان متحررًا منه.. متصالحًا نقيًّا يحب الله ورسوله..
كان طويل الصمت شارد الذهن. لا يرتاح إلا بعد الساعة الأولى، ثم يبدأ بالتدفق مثل جدول هبط من سفح رابية. وكان شديد الأدب، يتعذّر لكل إنسان، حتى ذاك الموسيقار المشهور الذي أحيا بالعود الصنعاني -نهار دفن أحمد الشيبة- ليلةً في الرياض بعنوان «مهرجان الغناء بالفصحى»، وكان قبلها بأعوام قد ردَّ الباب في وجه الشاب الذي كان مصرًّا على نقل العود إلى فضاءات أرحب.
من العدل الإلهي أن ينام أحمد في قبره والعالم يضجُّ حزنًا عليه، بينما يصرُّ صاحبنا على الصعود إلى عاليات صنعاء منذ خمسين عامًا بالعود ذاته.
لم يكن له شبيهٌ في حبّ التجريب
كنت أبرّر رفض ذاك الموسيقار له بأنه حسد الأقران وأصحاب الصنعة الواحدة، بينما يحرك أحمد عضلات وجهه ببراءة طفل لم يدخل الحسد قلبه الطيب ولم تتسلل الغيرة إليه. وكان يصر على أنَّ الأمر أعقد من ذلك: «الفنانون نوعان يا محمد، رجل يريد الحفاظ على جمهوره، وآخر يريد أن يتخلص من مرحلة ويسافر بجمهوره إلى أراضٍ جديدة.»
أبتسم الآن وأنا أكتشف من دهاليز اليوتيوب أنَّ أحمد الشيبة جدَّد مقطوعات ماوكلي وأعاد توزيع أديل، وترك ليهود اليمن بعض أحجار صنعاء القديمة التي حملها في جيبه قبل أن يصل لبلاد العم سام. التفتَ مبكرًا إلى الأمازيغ والعرب، فأهدى عبدالقادر الجزائري إلى عائشة المغربية.
لم يكن له شبيهٌ في حب التجريب. ربما أخذ من الحلم الأمريكي مفهوم «أن تضيف شيئًا للطاولة». فأحضر معه العود، ثم دعا صديقه الطبال، ولم ينس أن يقول للعالم الجديد: «لدينا آلة اسمها القانون، تبكي وتفرح، تغني وتندب، هي أم العود وجدة البيانو، ولأجل أن تسمعها تحتاج إلى كأس شاي بالزعفران إن كنت فارسيًّا، وإلى شئ من الهيل إن كنت عربيًّا، وإلى يد فلاح كردي كي تطرب تركيًّا إن عزفت عليه.»
هكذا حمل الصَّنعاني كل الشرق الأوسط إلى أذن المتلقي الغربي، فكان نزقًا مبتسمًا على حد وصايا محمود درويش في تعويذة «فاحمل بلادك أنى ذهبت!»
رحلة الشيبة حول بيوت العالم العربيّ
عرفته في القاهرة بجوار بيت العود، في بيت عمّنا المحبوب عبدالسلام، مَن لعلّه أكثر حزنًا مني اليوم وأقلَّ كلامًا. العمارة كانت في شارع جامعة الدول العربية، جامعة الدول التي سيدخل الشيبة بيوتها العربيّة كلها حين قدَّم معزوفته الخالدة «رحلتي حول العالم العربي»؛ المقطوعة التي عجزت اليونسكو ووزاراتنا الثقافية عن رعايتها.
لقد كفاكم أحمد الشيبة مؤونة ذلك ببساطة اليمني، وعزيمة الشاب الذي يقضي نصف يومه حاضنًا عوده، بينما رأسه يتسكّع في دروب المدن القديمة التي تحترق كل يوم أكثر فأكثر.
ثم تحدثنا حول قدومه إلى فعاليات في المدينة… والمدينة هنا هي «السِّتي»، أي بطبيعة الحال «نيويورك سيتي». كان يمقت ضجيج البنايات الشاهقة ونفاياتها، ويقول لي: «أنتم في الجحيم، ونحن في أعالي المدينة نشتمُّ الهواء الطيب، وإن قدم علينا ضيفٌ أخذناه من المطار وهربنا به من هذه المقبرة التي لا يسكنها إلا المجانين.» فأبتسم وأقول له: «نيويورك المدينة لا تقتل أحدًا يا أحمد، هي فقط تصيبك بلوثة في عقلك وألم في رجلك، نيويورك الولاية تفعل.» فيلتفت ويقول: «تفعل ماذا؟» فأجيب: «تقتل.»
فيضحك: «تعال لي فوق وأسمعك لحالك عود صافي يا محمد.» فأقول له: «شي معاك أخضر.» فيجيبني: «أنا لا أخزن.» لأردَّ عليه باسمًا: «إذن موعدنا صنعاء يا أحمد، فصنعاء أقرب من قريتك البعيدة.»
من أحمد تعلمت أنَّ «الفعل» عند اليماني يعني القيام بشيءٍ ما، لأنه كان يقول مبتسمًا: «لقد فعلت معزوفة جديدة وسوف تضرب هذه المرة.» وها أنت فعلت فعلتك الآن وشغلت العالم بغيابك يا أحمد. Click To Tweet
أخلصتَ لموهبتك، طفتَ العالم بأوتاره السبعة، أعدت للعود ما يفعله شاعر قصيدة عمودية في عالم مليء بأوهام التفعيلة والحداثة.
الضيف العزيز على إثراء وثمانية
أحسن الشاعر السعودي عبداللطيف المبارك إلينا جميعًا حين دعا أحمد الشيبة إلى إثراء -مركز الملك عبدالعزيز الثقافي بالظهران- فجعل أحمد أقرب إلى جذوره العربية. لكن أحمد عاد بوجه غير الذي ذهب به، عاد مستعجلًا العودة لترك أوهام أمريكا والاستقرار بين الخليج والبحر الأحمر.
كان مرتاحًا لمدينة جدة، أو المنامة العاصمة، وبالطبع كان هذا انتصارًا ثقافيًّا لعبداللطيف بن يوسف ولإثراء ولنا جميعًا. كان للإثنين حوارٌ أخير قبل أسبوع من الآن، عن تفاصيل الانتقال للخليج الجميل. ولكن الله اختار أحمد إلى جواره، فله الحمد في الأولى والآخرة.
كان متوترًا من لقاء «بودكاست فنجان» مع الحبيب أبومالح، فأخبرته أن يكون على سجيته، «لديك قصة يا أحمد، وكل الذي تحتاجه محاور صامت يحسن التمريرات القصيرة. تعامل مع هذا اللقاء كجلسة في مقهى مع أصدقاء يحبونك وتحبهم، إياك والتكلف أو الإغراق في التفاصيل الفنية، فألذ الفناجين ما كان نصف ممتلئ. أريدك أن تنتهي في اللحظة التي يقول فيها المستمع أريد المزيد.»
طلب مني الجلوس في الغرفة المجاورة بينما أبو مالح يحاوره.. قال ساخرًا بلسانه الصنعاني العذب: «لو قصفني السعودي ما أحد بيفزع لي غير القرصان الصومالي.» ضحكت وقلت له: «لديّ موعد آخر، أرسل لي رسالة حين تغادر المكان.» فكانت تلك الرسالة، على طريقة عبدالرب إدريس: آخر مراسيله. أرسل لي يقول: «شكرًا يا محمد وشكرًا لثمانية.»
فثقتنا في الأقدار تحجبنا عن أحبابنا، وتخدعنا بوَهْم استطاعتنا اللقاء بهم بعد أسبوع. كان عبداللطيف حريصًا أن نخرج مع الشيبة سويًّا الأسبوع الماضي، لكني انشغلت بصديق آخر. وكنت على يقين بأنني سألتقي الشيبة وأقترح عليه أن يسمع ديوان عبدالباري الجديد؛ فلا أنسب منه لرسم الموسيقا التصويرية لعملٍ خالد كهذا.
أبتسم الآن لأن الشيبة جاء إلى نيويورك على أن يقابل الشاعر الذي كان مشغولًا بتشذيب الفصول في أطراف ديوانه حينذاك، فلم يلتق الشيبة بعبدالباري وقتها. ولم ألتق أنا به في زيارته الأخيرة لمانهاتن.
ما في الدنيا مثل أحمد
استيقظت صباح الخميس على التعازي الباكرة، والتقينا جسدًا بتابوت في قريته الوادعة شمال نيويورك. خطب فينا الجمعة شيخٌ يمانيّ على كتفه شالٌ أخضر، وفي لسانه مخارج من لم يبرح صنعاء ليلة. في الخطبة الأولى، يداخلك الشك في أنَّ هذا الشيخ السبعيني لم ينطق حرفًا غير عربي. وحين بدأ الخطبة الثانية تشك في أنه لم يغادر نيويورك منذ أيام رودي جولياني.
دعا لأحمد -ابن الحي- مرارًا في خطبته. تكاد تسمع شهيق الباكين حتى من قبل الصلاة، ثم في موكب تتقدمه سيارة سوداء تضمُّ جثمان شاب ثلاثيني أحبه الملايين، ويتبعها عدد لا حصر له من سيارات الجيب التي تحمل إما علمًا أحمر أو أبيض وأسود، أو لوحات كتب عليها بالإنقليزية (Yemen).
انطلقنا زهاء الساعة إلى مقبرة خضراء حيث سينام الجسد النحيل ذا اليد اليمنى المتعبة من العزف نومته الأطول. سيصمت دون معزوفةٍ في الجوار إلا الفصول التي ستتهادى عليه في منفى بعيد. أنزلوه للقبر وحيدًا، بترديد جماعي لكلمة التوحيد. أثنى عليه شيخان مصريان، ولم يقل اليمنيون غير الفاتحة على روح أحمد بعد كل كلمة واعظ على طرف القبر.
جوان ديديون: عن معنى الحزن بعد الفقد
قلبُ عليّ المفطور وتجلُّد محمد -بعوارضه التي تقول إنه من بيت الشيبة بل شقيق أحمد العازف المشهور- دلّا المعزين عليهما. عازفٌ أمريكي أبيض، بيدٍ غطتها الوشوم، وقف خلف الإثنين مع عازفة شبه سمراء اتَّشحت بالسواد، كلاهما غارقٌ بالدموع ككل الحاضرين.
أم أحمد وحدها جلست في سيارة الجيب تشاهد الجميع من بعيد. وقفنا صفًّا لنقبِّل يدها ورأسها ونقول كلمتنا الأخيرة. كانت راضية كأم صابرة، تردد: «ما في الدنيا مثل أحمد، اللهم أرضه وارض عنه.». ولم تترك لنا حكمة اليمانية شيئًا لنقوله في جمعتنا الحزينة سوى «اللهم ارض عن أحمد الشيبة في الأولين، وارض عنه في الآخرين.»