الحادي عشر من سبتمبر في عصر الإنترنت: رؤية اجتماعية تاريخية
يتجدد رعب الإسلاموفوبيا كلما اقتربت ذكرى 11 سبتمبر. لقد تنامت هذه الظاهرة خلال السنوات الماضية، وزاد من تناميها ظهور داعش.
حلت أمس الذكرى الحادية والعشرون لأحداث الحادي عشر من سبتمبر التي هزت العالم، وأثرت في أحداث العقدين المنصرمين في العالم. قد يتذكر جيل الثمانينيات والتسعينيات هذا اليوم، ولكن جيل الألفية كبر في عالم مختلف، كل ما فيه ينتمي بطريقة أو أخرى إلى هذا الحدث، الذي سبق حرب أفغانستان والعراق، وتعثر عملية السلام في الشرق الأوسط.
فالتغيرات التي تلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر أكبر بكثير من حصر الهجمات في خانة الأزمة السياسية؛ لأن ما حدث بعدها كان تغيرًا في أدق تفاصيل الحياة اليومية في دول العالم، وبخاصة في عالمنا العربي، الذي شهد إلى جانب التغير العسكري، تغيرًا اجتماعيًا وتاريخيًا ممتدًا إلى اليوم بسبب ما حدث.
والسؤال الآن، ماذا بعد مرور أكثر من عقدين على الواقعة، جرت فيهما الكثير من المتغيرات في العالم؟ وكيف يتذكر العالم أحداث الحادي عشر من سبتمبر في ذكراها الحادية والعشرين؟
الحادي عشر من سبتمبر في عصر الإنترنت
حينذاك لم تكن وسائل التواصل الاجتماعي موجودة، وكانت المحطات التلفزية الوسيلة الرئيسة التي يتلقى منها المشاهدون معلوماتهم، ويكوّنون من خلالها وجهات نظرهم. وهنا دعنا نتخيل: ما الذي كان يمكن أن يحدث لو وقعت هجمات الحادي عشر من سبتمبر هذه الأيام؟
لانتشرت في الحال التكهنات والتحليلات، بل الاتهامات. من المُتوقع أن يكون هناك الكثير من المدانين المحتملين من وجهة نظر أمريكية، مثل: الإرهابيين الأجانب، أو العملاء المحليين، أو المعارضين السياسيين، أو المهاجرين، أو الأقليات العرقية أو الدينية.
من المرجح أيضًا، أن تروج خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعية للمنشورات التي تحظى بأكبر قدر من المشاركة. ستزدهر نظريات المؤامرة، وتنتشر الروايات الكاذبة في كل أروقة وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا سيؤدي إلى سوء فهم واسع النطاق لما حدث، ومن يقف خلفه. لكن عدم انتشار الإنترنت حينها لم يكن عائقًا أمام انتشار التحليلات والآراء المتطرفة، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
تبقى كل هذه التحليلات غير مؤكدة، مقارنة بالرواية الرئيسة لأمريكا، التي تدين المسلمين، والعرب خصوصًا. وهذا أمر ما كان ليتغير، سواء قبل استخدام الإنترنت أم بعده. فقد امتد تأثير الشبكة إلى أبعد من ذلك بكثير. فلم يعد السؤال الرئيس عن المسؤول؛ لأن الروايات الرسمية الأمريكية بكل بساطة حسمت ذلك منذ أمد طويل. يمكنك أيضًا اعتقاد غير ذلك. وبضغطة زِر؛ ستجد ألف دليل يُؤيد روايتك. بل يمكنك اعتقاد أن الهجمات كانت بتدبير من أمريكا نفسها، وستجد عدة دلائل على ما ذهبت إليه.
الأكيد، أن هجمات الحادي عشر من سبتمبر تتشابه مع كل الأحداث السياسية في العصر الحديث، التي استُخدمت أداة للترويج لأجندات كلا الطرفين، الجاني والمجني عليه. وأمريكا تبرع في هذه اللعبة، وهو ما استدعى سؤالنا عن أثر ذكرى الهجمات في عصر الإنترنت.
الحرب أداة إعلامية
عرفت الأنظمة المتعاقبة على الولايات المتحدة دائمًا كيف تستغل الحروب والكوارث السياسية لصالحها. فقد استخدمت إدارة ريغان المشهد العسكري مرارًا، لصرف الانتباه عن سياستها الخارجية والداخلية ومشاكلها الاقتصادية. واشتهرت إدارتا بوش وإدارة كلينتن باستغلال المشهد العسكري لصرف الانتباه عن الأخطاء الفادحة في السياسة الداخلية أو الخارجية، أو عن الفضائح الجنسية.
استخدم بوش الأب حرب الخليج عام 1990، لتعزيز النفوذ العسكري الأمريكي بوصفه قوة عالمية مهيمنة. حينها قدمت الدراما التلفزيونية لحرب الخليج، ممثلة في البث المباشر من قناة سي إن إن، هدية كبرى لبوش. وبدلاً من الإطاحة به بسبب الأزمة الاقتصادية التي تمر بها الولايات المتحدة، أُعيد انتخابه لولاية رئاسية ثانية عام 1992.
في وقت هجمات الحادي عشر من سبتمبر، كان بوش الابن يعاني الأزمة عينها التي واجهها والده عام 1990. إذ كان الاقتصاد في أسوأ أحواله في تاريخ الولايات المتحدة، وهو ما أفقد بوش السيطرة على الأجندة السياسية. لكن هجمات سبتمبر أنقذته، بل جعلته يستعيد زمام المبادرة السياسية، ويزيد من شعبيته. وبدت الحرب القصيرة ضد طالبان والقاعدة في أفغانستان، من أوائل أكتوبر حتى ديسمبر 2001، انتصارًا عسكريًا للولايات المتحدة.
يمكن أن تخضع المشاهد الإعلامية لتأطير وتفسيرات مختلفة. كما حدث عندما ركزت شبكات البث غير الأمريكية على الضحايا المدنيين، والنهب والفوضى والجرائم العسكرية الأمريكية ضد الأفغانيين والعراقيين بدلاً من انتصار الولايات المتحدة. وهو ما يجعل الأحداث وذكراها وطريقة تناولها أمرًا غير قابل للقياس ولا التوقع، مثلما نتحدث الآن عن ذكرى الهجمات على مواقع تواصل لم تكن موجودة من الأساس حينها.
ارتباك أمريكي
في العشرين سنة الماضية، تغيرَ العالم كثيرًا. لكن تبعات هجمات سبتمبر ما زالت حاضرة؛ وآثارها باقية. بل تحولت إلى ممارسات وقوانين، وأصبحت الإجراءات الأمنية المضادة، مهما كانت غير فعالة، تذكيراً في كل مكان بالتهديدات المحتملة. أدى هذا إلى تقييد الحريات الأساسية، ولم يعد الأمريكيون وغيرهم قادرين على الوصول بسهولة إلى المباني العامة، وأصبحت المجتمعات أكثر عسكرة، والناس أكثر خوفًا من الذين لا يشبهونهم، وبات الأمريكيون أقل تسامحًا وأقل قدرة على إدراك منشأ الصراع.
وأدى الخوف من «الآخر» إلى تغيير مسار التقدم الذي حققته الولايات المتحدة والغرب عمومًا في الاندماج الاجتماعي وسيادة القانون. وأصبحت أجهزة الدولة بارعة في تبرير توسيع سلطاتها في مواجهة التهديد الذي يظل دون تفسير ولا يقبل التدقيق.
جذور الاستقطاب السياسي بين الحزب الديمقراطي والجمهوري
لا تزال أحداث الحادي عشر من سبتمبر فاعلًا رئيسًا في الشأن الأمريكي والعالمي، حتى بعد مرور أكثر من عقدين عليها. فكان مقتل أيمن الظواهري، زعيم تنظيم القاعدة وخليفة أسامة بن لادن، في 30 يوليو الماضي في العاصمة الأفغانية كابول، إحدى تبعات هذه الأحداث. غير أن الجديد على ذكرى الحادي عشر من سبتمبر، هو استبدال الإنترنت بالمحطات التلفزية.
لكن اللعبة هي ذاتها، فالجميع يحاول استخدام الأحداث وتوابعها لمصلحته الشخصية. وكان الرئيس الأمريكي الحالي، جو بايدن، آخرهم. فقد استخدم هذا الخطاب للدعاية الانتخابية لنفسه، وهذا يؤكد أثر الهجمات في التاريخ الأمريكي الحديث، ولا يبدو أنه سيقل في وقت قريب.
11 سبتمبر ورقة انتخابية
تركت هجمات الحادي عشر من سبتمبر وتداعياتها الأمريكيين أكثر خوفًا في الداخل، وأكثر سلبية بشأن تأثير قرارات القادة على مدار العقدين الماضيين، وأقل استعدادًا لنشر القوات البرية الأمريكية في قتال طويل في الخارج. لكن الأكيد أنها ما زالت تلعب دورًا كبيرًا في الشأن الداخلي الأمريكي. وهو ما يدركه الرئيس تمامًا، فبعد تراجع أسهمه في الفترة الأخيرة، لأسباب كثيرة منها طريقة الخروج من أفغانستان، فقد لجأ إلى استخدام السلاح نفسه الذي خسر به هذه الأسهم، أي الهجمات، لعله يتلاقى في نقطة جديدة مع الشعب، ويحصل على فرصة لانطلاقة جديدة نحو فترة رئاسية قادمة.
لم يأتِ بايدن بجديد في خطابه الرنان بعد إعلانه مقتل الظواهري، لكنه سيناريو مكرر. فما زلنا نتذكر جميعًا تلك الكلمات المؤثرة التي أعلن فيها أوباما مقتل أسامة بن لادن.
بعد خطاب بايدن، تجمع آلاف الأشخاص في واشنطن خارج البيت الأبيض، وهم يلوحون بالعلم الأمريكي ويهللون ويهتفون. وأطلق قائدو السيارات أبواق سياراتهم ابتهاجًا، وتدفق الناس على متنزه لافاييتي على الجانب الآخر من القصر الرئاسي.
سبتمبر بالعربي
عانت منطقتنا العربية من تزايد خطاب الكراهية تجاهها. فقد ذكر أحد التقارير الصادرة حديثًا في واشنطن أنه في عام 2002 -أي بعد عام واحد فقط من تلك الأحداث- الخطابات المناهضة للمسلمين في العالم الغربي قد شهدت زيادة هائلة، وهو ما لم يحدث من قبل.
يمكن تلخيص انعكاسات أحداث سبتمبر على الوطن العربي بالقول إنه كان معنيًا بهذه الأحداث أكثر من غيره، لاتهام عناصر عربية بالوقوف وراء هذه الأحداث. بالإضافة إلى اتهام بعض الدول العربية بأنها على علاقة بالمتهمين. Click To Tweet
وهذا يجعل المنطقة العربية الطرف الأول في هذه الأحداث، وأمريكا طرفها الثاني.
اليوم بعد أكثر من عشرين عامًا، يتجدد رعب الإسلاموفوبيا كلما اقتربت ذكرى 11 سبتمبر. لقد تنامت هذه الظاهرة خلال السنوات الماضية، وزاد من تناميها ظهور داعش. كما ترسخت الصورة المقولبة عن العربي في هيئة الإرهابي، والرافض لمن لا يعتنق ما يعتقده من أفكار.
ربما تغير العالم. فقد أصبح الأطفال الذين ولدوا وقت الأحداث شبابًا الآن في عمر الواحد والعشرين عامًا. شباب برؤى مختلفة، وأكثر انفتاحًا على العالم وعلى ثقافاته المختلفة بسبب الإنترنت. لكن لا يبدو أن أمريكا تلاحظ تغيرًا في فكر الشباب العربي في عصر وسائل التواصل.
لقد وقعت منذ ذلك الحين تطورات أخرى جديرة بالملاحظة أسهمت أيضًا في تشكيل المشهد السياسي العربي. مثل انتفاضات الربيع العربي عام 2011، وتنامي القومية، وظهور الدولة الإسلامية في العراق والشام (تنظيم داعش) وسقوطها، والاتفاقية النووية «خطة العمل الشاملة المشتركة» بين القوى الدولية وإيران، والتراجع الواضح في سطوة جماعة الإخوان المسلمين. لقد كان لهجمات 11 سبتمبر وتداعياتها أثر عميق على معظم هذه التطورات، إن لم يكن كلها.
يمكننا القول نهايةً إن التاريخ سيظل يتذكر هجمات الحادي عشر من سبتمبر على أنها أولى الأحداث الرئيسة في القرن الواحد والعشرين، تمامًا مثلما نتذكر الحرب العالمية الأولى والثانية في القرن المنصرم. ويمكننا أيضًا أن نُقر أن هذه الأحداث التي حدثت في ولاية أمريكية تبعد عن عالمنا آلاف الأميال، قد أثرت علينا بشكل أو آخر، وربما يمتد هذا التأثير إلى الأبد.