ما الذي يحدث في حضرموت

لن تقبل السعودية أن تفسد قوًى استثمارها في مستقبل أكثر استقرارًا لليمن ومناطقه المختلفة


خلال الأسابيع الأخيرة، بقيت حضرموت محلّ أنظار الإعلام والمحللين وعموم الناس، على وقع التطورات المستمرة فيها.

يحلل هذا العدد الأحداث الأخيرة، وأسبابها وسياقاتها ومآلاتها المحتملة على اليمن والمنطقة.

عمر العمران


تصميم: أحمد عيد
تصميم: أحمد عيد

ما الذي يحدث في حضرموت

د. هشام الغنام

في الساعات الأولى من فجر يوم 3 ديسمبر، 2025، مزّق صوت المدفعية سكون ما قبل الفجر في سيئون، العاصمة التاريخية لوادي حضرموت. وخلال ساعات قليلة، سيطرت قوات المجلس الانتقالي الجنوبي على القصر الرئاسي ومطار سيئون الدولي والقواعد العسكرية ومدينة تريم التاريخية. وبحلول الليل، كانت حقول بترومسيلة النفطية ومنشآتها (شريان الحياة الاقتصادي لليمن الذي ينتج نحو 100 ألف برميل يوميًّا) تحت سيطرتها. هذه المكاسب العسكرية شكّلت منعطفًا حاسمًا في الصراعات السياسية والعسكرية اليمنية، وأعادت رسم خريطة السيطرة، وأثارت تساؤلات عميقة حول مستقبل يمن قوي ومتماسك وموحد.

العملية التي أُطلق عليها اسم «المستقبل الواعد» لم تكتفِ بالاستيلاء على الأرض، بل أيضًا حطمت ترتيب تقاسم السلطة الهش بين الفصائل الجنوبية المتنافسة، وأظهرت أن حضرموت (أكبر محافظات اليمن مساحةً وأغناها، وتمثل أكثر من ثلث مساحة البلاد وتحتوي على 80% من احتياطيات النفط) قد أصبحت الجائزة الكبرى في صراع حول المستقبل السياسي لجنوب اليمن. أما بالنسبة إلى الحضارم أنفسهم، فإن الهجوم يمثّل تدخلًا من قوات تأتي من محافظات بعيدة، ويلوّح بفرض مشروع انفصالي يرفضه الكثيرون في حضرموت، وقد يحطم التماسك الاجتماعي الذي كان أعظم قوة للمنطقة طوال سنوات الحرب المدمرة في اليمن.

هوية حضرموت المتميزة: أكثر من مجرد جغرافيا

لكي نفهم ما هو على المحك في حضرموت، يجب أن ننظر إلى ما هو أبعد من الحقول النفطية والقواعد العسكرية. المنطقة تمتلك هوية تاريخية متميزة، إذ استضافت ممالك مستقلة مثل مملكة حضرموت منذ عام 1100 قبل الميلاد حتى القرن الثالث الميلادي. هذا المسار التاريخي المنفصل خلق هوية حضرمية فريدة استمرت عبر قرون من الحكم الخارجي، من المملكة الحميرية إلى الحماية البريطانية فالانضمام إلى اليمن الجنوبي ثم اليمن الموحد.

يحتفظ كثير من الحضارم بصلات ثقافية قوية في جاليات المحيط الهندي من شرق إفريقيا إلى جنوب شرق آسيا، مكوّنين شبكات عابرة للحدود تسبق اليمن الحديث. ويُقدَّر عدد الحضارم عرقيًّا في المهجر بنحو 14 مليون نسمة، أي نحو عشرة أضعاف سكان حضرموت المقيمين، الذين هم نحو 1.4 مليون. هذه الجاليات قدمت تاريخيًّا تحويلات مالية واستثمارات حيوية دعمت اقتصاد المحافظة، مما خلق استقلالًا اقتصاديًّا عن السلطات المركزية يعزز تميّز حضرموت.

تُعرف المنطقة أيضًا بكونها مركزًا للعلم الشرعي والدراسات الدينية. وتُقدَّر تريم بأنها تحتوي على أعلى تركيز لسلالة النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، في العالم، مما يمنح المدينة قدسية خاصة. هذا التقليد العلمي، مع البنية القبلية القوية والشبكات الاقتصادية العالمية، خلق ما يصفه المراقبون بمنطقة «مستقلة للغاية» ذات تماسك اجتماعي نادر في اليمن. كما أكد أحد السياسيين الحضارم قبل الهجوم: «حضرموت كانت تاريخيًّا نموذجًا للسلم والتعايش ولم تعرف صراعات داخلية.» مما يجعل العسكرة الحالية تهديدًا خطيرًا للنسيج الاجتماعي للمحافظة.

هذه الهوية المتميزة صاغت تطلعات الحضارم السياسية. في مؤتمر الحوار الوطني 2013 ومؤتمر حضرموت الجامع 2017، دافع الحضارم بقوة عن نماذج تقر بوحدة اليمن، وتعطي حضرموت قدرًا من الاستقلال الإداري والاقتصادي يمكنها من الاستفادة من ثرواتها النفطية والتجارية.

حضرموتان: انقسام جغرافي، كسر سياسي

منذ 2015، تنقسم حضرموت فعليًّا إلى مركزَي سلطة متمايزين بدعم خارجي مختلف، وهو انقسام يعكس الجغرافيا والمصالح المتضاربة للقوى الإقليمية في جنوب اليمن.

وادي حضرموت (المنطقة الشمالية والوسطى والداخلية المحاذية للسعودية) يحتوي على حقول حوض مسيلة النفطية ومدن استراتيجية مثل سيئون وتريم. كانت هذه المنطقة تحت سيطرة المنطقة العسكرية الأولى المرتبطة بحزب الإصلاح والموالية للحكومة المعترف بها. وترى السعودية هذه المنطقة الداخلية ضرورية لأمن حدودها، خاصة مع امتداد الحدود أكثر من 600 كيلو متر، ومنفذ الوديعة هو المعبر البري الوحيد المفتوح باستمرار بين البلدين، ولذا تدعم السعودية جهود الاستقرار وإحلال الأمن في تلك المنطقة تحديدًا، وباليمن عمومًا.

أما ساحل حضرموت المطل على بحر العرب فيضم ميناء المكلا التجاري، ومحطة الشحر النفطية (المعطلة حاليًّا)، والبنية التحتية الطاقية الرئيسة. ويسيطر على الساحل قوات النخبة الحضرمية، وهي قوات أُسست في 2016 لمواجهة سيطرة القاعدة على المكلا، قوامها من المقاتلين الحضارم، وترتبط -من الناحية الرسمية- بالمنطقة العسكرية الثانية التابعة لمجلس القيادة الرئاسي (رأس الدولة الشرعية اليمنية)، وقد ساهمت الإمارات بتدريب تلك القوات وصقل قدراتها.

هذا الانقسام الجغرافي خلق «حضرموتين»، أي مجالَي نفوذ منفصلين عززا التجزؤ بدلًا من حله. بين القطبين تقع خريطة معقدة من التحالفات القبلية والحركات السياسية، مثل المجلس الوطني الحضرمي (2023) والسلطات المحلية التي تكافح للحفاظ على شرعيتها وسط ضعف الخدمات وتباطؤ الاقتصاد بعد توقف تصدير النفط في أكتوبر 2022. مع ذلك، بقيت حضرموت -بالعموم- منطقة آمنة ومستقرة، رغم كل ما دار في اليمن منذ 2015.

الشرارة

في الثاني من ديسمبر، تحرّكت قوات تابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي نحو مناطق ضمن نطاق المنطقة العسكرية الأولى في وادي حضرموت. أيضًا، تحرّك الشيخ عمرو بن حبريش، زعيم تحالف قبائل حضرموت وقائد جناحه العسكري (قوات حماية حضرموت)، نحو نشر قواته في مناطق استراتيجية في حضرموت، مثل حقول مسيلة التابعة لبترومسيلة، معلنًا أن هدفه «الدفاع عن الثروة الوطنية من أي عدوان أو تدخل خارجي محتمل». لاحقًا، تراجع من تلك المواقع، وسيطرت قوات الانتقالي عليها.

حضرموت بالعين السعودية

ترى السعودية وادي حضرموت وصحراءه خطًّا أحمر أمنيًّا، وقد استثمرت مئات الملايين في المساعدات التنموية، ودعمت تشكيل المجلس الوطني الحضرمي ونشر قوات درع الوطن تدريجيًّا. كما ترى في حضرموت منفذًا محتملًا إلى بحر العرب لتنويع مسارات التجارة والطاقة بعيداً عن مضيق هرمز. وطالبت السعودية -عبر رئيس الوفد السعودي إلى حضرموت اللواء محمد القحطاني- بخروج كافة قوات المجلس الانتقالي الجنوبي من حضرموت والمهرة، وشدّدت على أن قضية الجنوب قضية عادلة لا يمكن تجاهلها أو تجاوزها.

وتنظر الإمارات أيضًا إلى حضرموت من زاوية استراتيجية المحيط الهندي ومكافحة الإرهاب. فجعلت النخبة الحضرمية أقوى قوة أمنية في الجنوب، بهدف تأمين طرق التجارة البحرية ومواجهة القاعدة والإصلاح معًا.

بعد هجوم ديسمبر 2025، أغلقت السعودية الأجواء اليمنية مؤقتًا يوم 8 ديسمبر، وأرسلت وفدًا طالب بانسحاب قوات الانتقالي من حضرموت والمهرة، معلنة ترتيبًا جديدًا لضمان استمرار إنتاج بترومسيلة.

رؤى متضادة لمستقبل حضرموت

الشرعية

أكد رشاد العليمي، رئيس مجلس القيادة الرئاسي، على الالتزام بالعمل ضمن مؤسسات الدولة ووفقًا للاتفاقات المرحلية، وعدّ تقدّم الانتقالي نحو حضرموت والمهرة إجراءً أحاديًّا، مطالبًا بانسحابه نحو مواقعه السابقة. في نظر الشرعية، لا بدّ من حفظ الاستقرار في حضرموت، عبر المكوّنات الشرعية، ليُمكن بعدها الوصول إلى يمن موحد ومتوائم مع المكونات الجنوبية والحضرمية وغيرها.

المشروع الانفصالي

المجلس الانتقالي الجنوبي (الذي تأسس في مايو 2017) يدعو إلى استقلال كامل وإعادة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (1967 - 1990)، ويملك ثلاثة مقاعد في مجلس القيادة الرئاسي الثماني، من بينهم مقعد لعيدروس الزُبيدي رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي. وبالنسبة إلى الانتقالي، حضرموت هي العمود الفقري الاقتصادي لأي دولة جنوبية مستقبلية. وقد طوّر الانتقالي من علاقاته مع عدّة أطراف، من بينها الإمارات العربية المتحدة.

مقاومة حضرمية للانفصال

يواجه هذا المشروع مقاومة؛ ففي حضرموت رؤية تؤطر سيطرة الانتقالي على أنها احتلال، خاصة أن معظم قياداته من لحج والضالع، وهي مناطق غير مرتبطة بهم تاريخيًّا. ويتذكر كثيرون العنف والتهميش ومصادرة الأملاك في عهد الجمهورية الديمقراطية. ورغم رفع أعلام الجنوب السابق في شوارع المكلا بفعل تعبئة الانتقالي، تبقى أعلام الجمهورية اليمنية الموحدة مرفوعة في سيئون تعبيرًا عن رفض المشروع الانفصالي.

الطريق الثالث

يمثّل المجلس الوطني الحضرمي (الذي تشكّل في يونيو 2023 بمشاركة 86 شخصية) محاولة لصياغة بديل، إذ يطالب بحكم إداري واقتصادي محلي في حضرموت، داخل يمن موحد، رافضًا المركزية الكاملة أو الانفصال. وترفض منظمات حضرمية كبرى (مثل مؤتمر حضرموت الجامع ورابطة قبائل حضرموت) إطار الانتقالي صراحة، مؤكدة أنه لا يعبر عن تطلعات حضرمية حقيقية، بل تفضل هيكلًا سياسيًّا يضمن تمكينًا أكبر وحصة عادلة من الثروة داخل يمن موحد. ويبقى التحدي أمام المجلس الوطني الحضرمي بإيجاد الإجماع والقدرة العسكرية اللازمة لتحويل رؤيته إلى واقع.

الكلفة البشرية: العيش وسط أزمة حضرموت

تحت المناورات الجيوسياسية تكمن كارثة إنسانية. فقد قضى توقف تصدير النفط منذ أكتوبر 2022 على المصدر الرئيس لإيرادات الدولة (70 - 75% سابقًا). وأظهرت تقييمات التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي (يونيو 2025) أن 49% من سكان المناطق الحكومية يواجهون انعدام أمن غذائي حاد. اليمن يستورد أكثر من 90% من قمحه، وانهيار احتياطي عملته جعل الوضع كارثيًّا.

قبل التصعيد العسكري الأخير في حضرموت، حذّر كتّاب ونخب حضارم من أن حضرموت تمر «بمرحلة حساسة تحتاج إلى وعي ومسؤولية عالية»، مؤكدًا أن «المجتمعات لا تبنى على التصعيد والعنف، بل على الحكمة والاحترام المتبادل»، وأن «دم حضرمي على حضرمي حرام»، وأن الخطاب التصعيدي يضيق مساحة العقل ويؤدي إلى نتائج يصعب تداركها.

الخاتمة: فاعلية حضرموت ومستقبل اليمن

لن تقبل السعودية أن تفسد قوًى استثمارها في مستقبل أكثر استقرارًا لليمن ومناطقه المختلفة. وبالنسبة إلى الحضرمي العادي، يمثل الوضع تهديدًا لكل ما جعل محافظتهم استثناءً في الانهيار اليمني العام: التماسك الاجتماعي، وتقاليد الوساطة، والسلام النسبي، والأمل أن تتحول ثروتهم يومًا إلى ازدهار بدلًا من مجرد جائزة يُتقاتل عليها.

ما لم يُستأنف تصدير النفط، ويُستعاد حكم فعال، وتعكس الترتيبات السياسية تطلعات الحضارم، فإن حضرموت ستبقى في مفترق طرق خطير، محاصرة بين إمكانية كونها محرك اليمن الاقتصادي وواقع كونها جائزة متنازع عليها في صراعات القوى. لم يعد السؤال هل ستشهد حضرموت مزيدًا من الاضطراب؟ بل هل سيؤدي هذا الاضطراب إلى تسوية سياسية مستدامة تحترم فاعلية الحضارم؟ أم سيطيل معاناة أكبر محافظات اليمن وأغناها؟


كيف تتخيّل بيت العمر؟ 💭

مسكن متكامل ومريح، موقعه قريب من كل شي، وفيه كل شي 🏡✨

موقفك الخاص، مصلى، مقهى،بقالة، صالة رياضية، وترفيهية!

هذي هي تجربة السكن في صفا 🔗

التجربة اللي تسبق الحاضر وتنبض بالحياة 🖼️🥁


فقرة حصريّة

آسفين على المقاطعة، هذه الفقرة خصصناها للمشتركين. لتقرأها وتستفيد بوصول
لا محدود للمحتوى، اشترك في ثمانية أو سجل دخولك لو كنت مشتركًا.

اشترك الآن

«لماذا تقدم الخليج وتأخر اليمن؟»

ظل هذا السؤال يراود ضياء السعيدي، الكاتب والباحث اليمني، وأمضى مسيرته الأكاديمية في بحث جوابه. حلّ ضياء ضيفًا في إحدى حلقات بودكاست فنجان؛ ليجيب عن هذا السؤال.


*تعبّر المقالات عن آراء كتابها، ولا تمثل بالضرورة رأي ثمانية.

نشرة الصفحة الأخيرة
نشرة الصفحة الأخيرة
أسبوعية، الثلاثاء منثمانيةثمانية

مساحة رأي أسبوعية تواكب قضايا اليوم بمقالات ولقاءات تحليلية في مختلف المجالات، لتمنحك فرصة استكشاف الأحداث وتكوين رأي تجاهها.

+10 متابع في آخر 7 أيام