الدحة أكثر من رقصة حرب

الصحراء والمدينة، والحرب والمرح

تمثل الرقصات الشعبية، أو ما نسميه محليًّا «اللعب»، أحد أكثر الموضوعات جذبًا للبحث، لما تحمله من قصص وأساطير تتعلق بنشأتها وتطورها ودلالاتها الاجتماعية. فهي ليست مجرد حركات إيقاعية، بل ممارسات ثقافية تعكس تاريخ الجماعة وبنيتها وقيمها.

لا بد أنك صادفت في أثناء تصفحك لمواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو لرقصة الدحة، وهي من أبرز الرقصات الشعبية وأكثرها حضورًا في الذاكرة الجمعية.

كيف نشأت؟ وما الظروف التي شكّلتها؟

في هذا المقال نحاول الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها، من خلال تتبع تاريخ الدحة وسياقها الثقافي والاجتماعي.

نوّاف الحربي


الدَّحَّة: هدير القبيلة على عتبة الدولة

عبدالكريم بن هادي

قبل بزوغ فجر أمجاد العرب الكبرى، كانت هناك لحظات في آخر الليل، استبان فيها أبناء الجزيرة المنسيّة أن لهم الحق في اعتلاء سُدَّة التاريخ، ومنها تلك الواقعة: جيش امبراطوري مُثْقلٌ بالفيلة والدروع، وجموعٌ عربية أقل عددًا وعدّة، تطلُب استيعاب مفارقة وقوفها بوجه قوّة عظمى، فتستدعي أصواتها قبل سيوفها. يتقدم فارس، يعلو صوته بزئيرٍ يشبه زئير الليث الهصور، وتلحقه هداراتٌ تشبه هدير الإبل.

 يرتجُّ الهواء بين زئيرٍ وهدير، وكأنه تغلغل للصحراء وما فيها بالإنسان عبر رابطة الصوت، فيلتبس الأمر: من الذي يهاجم؟ ومن الذي يخاف؟ في تلك اللحظة في موقعة «ذي قار» تولد الميثولوجيا، لحظة انعطاف التاريخ، يولد فن الدحَّة بما هو صيغة جسدية وصوتية لرفض الهزيمة، وكأن الصوت نفسه صار سلاحًا موازيًا للسيف والرمح.

هذه اللحظة التأسيسية لا تُروى فقط على أنها حادثة عسكرية، بل تُستعاد اليوم نَمطًا من «ميثولوجيا الأصل». وفق ما يسميه الأنثروبولوجيون «نظرية العصر الذهبي» أو العودة إلى زمن البدايات، يصبح سرد منشأ الدحة في ذي قار أكثر من مجرد رواية نسب؛ إنه تحويل لفن من الفنون إلى علامة على زمنٍ مثالي: العرب ينتصرون على إمبراطورية عظمى، الصوت يهزم الفِيَلة، والقبيلة تستعيد ذاتها أمام الغريب. كل أداءٍ للدحة، مهما بدا بسيطًا في حفل زواج أو مناسبةٍ عائلية، هو من هذه الزاوية محاولة صغيرة للعودة إلى تلك اللحظة الأولى، إلى ساعةٍ تأسست فيها هذه الذات العربية على حافة الخطر.

من هنا يمكن فهم تمسك قبيلة عنزة بفن الدحة بوصفه جزءًا من هويتها العميقة؛ ليس مجرد «لعب» يملأ فراغ المناسبات، بل سردية متجسِّدة. في الحكايات الشفهية، وفي قصائد الوصف، وفي ربط هذا الفن بيوم ذي قار وببني وائل، نرى ما يشبه ما تحدث عنه ليفي شتراوس في تحليله للأسطورة: بُنية رمزية تُعيد ترتيب التوترات الكبرى في صورة حكايةٍ قابلةٍ للأداء. التناقض بين الفرس والعرب، بين القوة العسكرية الكاسحة وندرة الموارد، يُحلّ في خطابٍ رمزي؛ حيث يتحول الصوت الجماعي إلى معادلٍ للقوة، ويتحوّل الصف المقوّس إلى جدارٍ رمزيّ في مواجهة العدو.

حينما نقف أمام صفّ الدحة اليوم، نرى طبقات من التاريخ متراكبة في جسدٍ واحد. الرجال مصطفّون كتفًا إلى كتف، على شكل قوس يواجه الفضاء، لا صفوفًا متقابلة؛ كأنهم ما زالوا يرفضون أن يعطوا ظهورهم لخصم محتمل. الأيدي تتشابك أحيانًا، أو تقترب حتى تصبح المسافة بين الجسدين شبه معدومة، فيتماهى الفرد في الجماعة. الرأس يلتفت يمينًا وشمالًا في إيقاعٍ واحد، والكتف يرتفع ويهبط، والصدر يهتزّ مع كل هدّة، فيتحول الجسد إلى آلة إيقاع حية. الأصوات تخرج عميقة، غليظة، مبحوحة، تحمل صدى زئير الأسد وهدير الجمل، لا تنضبط في طبقةٍ واحدة، بل تتفاوت كما تتفاوت أصوات البرية، فينشأ من هذا التفاوت نفسه جمال الأداء وقوته.

في قلب هذا القوس يقف «الحاشي»، الذي لم يكُن في الأصل رجلًا يحمل سيفًا فقط، بل كان  -كما يحفظ الوجدان الشعبي- حاشيًا حقيقيًّا، صغيرُ جَمل يُقدَّم للذبح في وليمة النصر والضيافة. أن يوضع الحاشي في المنتصف، محاطًا بالفرسان والهتاف، يعني أن الكرم نفسه داخل المعركة، وأن الذبح فعلٌ اجتماعي يعلن القدرة على الإطعام والحماية معًا. ومع الزمن، يتحول هذا الحيوان إلى شخص، إلى مؤدٍّ يخرج من الصف ويدخل إليه، يلوّح بالسيف، ويستعرض الخطو، ويصير مركز دائرةٍ رمزيةٍ تحافظ على معنى الكرم وإن تغيّرت مادته. هنا يحضر الرمز كما فهمه بيير بورديو: فعلٌ بسيط في ظاهره، لكنه محمّل برأس مال رمزي كثيف، يجمع الشجاعة والضيافة والقدرة على العطاء في صورة واحدة تتحرك أمام العيون.

فن الدحة بهذا المعنى ليس مجرد أداء صوتي، بل هو أيضًا «جسدٌ مُهيكل»، يتكوّن وفق ما يمكن تسميته -باستعارة من الأنثروبولوجيا البنيوية- بنية حركية عميقة. التفات الرأس، ارتفاع الكتف، القوس الذي لا يتحول إلى دائرة، الصيحة القاطعة التي توقف الأداء ثم تعيده من جديد، كلها تشكل ما يشبه الجملة النحوية المقنَّنة؛ إذا اختلّ ترتيبها اختلّ المعنى. هذه البنية ليست مكتوبة في كتاب، بل محفورة في ما يسميه بورديو «الهابيتوس»: ذلك المخزون الضمني من العادات والحركات والميول التي تستقر في الجسد عبر التنشئة والممارسة. الطفل الذي يكبر وهو يشاهد الدحة لا يتعلّم «قواعدها» نظريًا؛ بل يتشرَّبها من جلسات الرجال، من تقليد الالتفاتة، من محاولة ضبط النَّفَس مع طول الهدير. وهكذا يتكوّن جسد قَبَليٌّ يحمل في عمق عضلاته ذاكرتين في آن: ذاكرة القبيلة وذاكرة الفن.

وما إن تبدأ الدحة حتى يتحوَّل الصف إلى ما يصفه علماء الاجتماع بالتوهّج الجمعي. لا يعود الصوت صوت فرد، ولا الحركة حركة شخص، بل إحساسٌ غامر بأن الكيان الفردي ذاب في كيانٍ أشمل. هنا يتجلى البعد الأنثروبولوجي العميق للفن: الجماعة تعيد إنتاج نفسها أمام نفسها، ترى جسدها وتتعرّف إلى قوتها من خلال هذا الاندماج. ولذلك لا عجب أن تُستخدم الدحة في الاستقبال كما في الوداع؛ فهي ليست مرتبطةً فقط بالمناسبة، بل بوظيفةٍ أعمّ: إعادة تثبيت الجماعة وترميم صدعها كلما هدَّدها زمنٌ قاسٍ أو حدثٌ جلل.

ومع دخول الدولة الحديثة، لم تختفِ هذه البنية، بل أُعيد تأويلها. حين تنتقل الدحة من ساحات القبيلة إلى مهرجانات الوطن، من فضاء القبيلة المفتوح إلى منصاتٍ مضاءة ومسرحٍ مُنظَّم، تتحوَّل عند أبناء قبيلة عنزة من علامة الانتماء إلى قبيلة فقط إلى رمز ضمن فسيفساء الهوية السعودية الأوسع. هنا يمكن أن نستدعي فكرة بندكت أندرسون؛ فالمواطن الذي يشاهد الدحة في الشمال، والقحطاني الذي يلعب القزوعي، والعسيري الذي يمارس الدمة، والحجازي الذي يضرب النار بالقداحي، والنجدي الذي يعرض، يلتقون في سياق واحد ضمن إطارٍ وطني جامع. فنون المناطق المختلفة تصبح لغات متعددة لذاتٍ وطنية واحدة، والدحَّة تتحول من فن القبيلة المقاتلة إلى جزء من ذاكرة وطنية تتفاخر بأيام العرب الأولى وبمروياتها عن الشجاعة والكرامة.

تعمل الدحة من حيث هي رمزية تعمل عمل الأساطير وفقًا لما يذكره ليفي شتراوس: تنظيمٌ لتناقضات المجتمع عبر ثنائياتٍ حية. ثنائية الصحراء والمدينة، والحرب والمرح، تتجسد في فن ولد في المعركة ويُؤدى اليوم في الأعراس، وثنائية القبيلة والدولة تتجسَّد في أن الصف نفسه الذي يُصفُّ باسم القبيلة، يمكن أن يهتف باسم الوطن. الفن هنا لا يختار أحد القطبين، بل يسمح لهما بالتعايش في جسدٍ واحد، في إيقاعٍ واحد، في صيحةٍ تصلح أن تكون تحريضًا قبل المعركة كما تصلح أن تكون ختامًا لاحتفال.

يمكن القول إن الدحة ليست مجرّد فن تراثي محفوظ في ملفات الفلكلور، بل نصٌّ حيّ يُقرأ في كل أداء. حين يصطفّ الرجال، ويتقوَّس الصف، ويرتفع الصوت، وينطلق الحاشي في الوسط، تتحرَّك في الخلفية طبقات من الميثولوجيا والتاريخ، من القبيلة والدولة، من الحرب والضيافة، من الماضي الذهبي كما يتصوره الوعي الشعبي، والحاضر الذي يبحث عن صورٍ يجمع بها أفرادَه المختلفين. وفي كل مرة تعود الدحة، يعود السؤال ذاته: من نحن، وكيف نرى أنفسنا، وبأي جسدٍ وبأي صوت نواجه هذا العالم المتغير؟

عند تلك اللحظة، حين تهدأ الأصوات، وتتناثر الأنفاس الثقيلة في الهواء، لا يبقى على الأرض مجرد صف أنهى لعبه، بل يبقى أثر جماعةٍ أعادت سرد قصتها بصوتٍ عالٍ، واستعادت، ولو لثوانٍ، مجد ذي قار وهي تتجسَّد في أكتافٍ تهتزّ وعيونٍ تلمع وصدى هديرٍ لا يزال يذكّر بأن هذا الفن ابن معركة، وابن قبيلة، وابن وطن في آن واحد.

*استفدت في بعض معلومات هذه المقالة من الأستاذ: عبدالعزيز بن عوض العنزي: المشرف العام على مجموعة «رعد الشمال» للدّحه التابعة لهيئة المسرح والفنون الأدائية.



في هذا التسجيل من تسجيلات الدكتور سعد الصويان مع مجموعة من شعراء المحاورة، ومنهم صياف، في خشم العان بالرياض، بتاريخ 08 رجب 1405هـ الموافق 29 مارس 1985م، يحاول الدكتور سعد أن يفهم واحدًا من أصعب الفنون: شعر المحاورة (الرد).

يشرح صياف أن الشاعر مُطالَب بأن يردّ على فكرة تحتمل أكثر من وجه، وأن يقدّم شعرًا جاهزًا في وقت وجيز. وهنا يقدّم صياف درسًا في النقض والفتل، وفي كيفية بناء الرد بحكمة وسرعة، مع إعطاء خصمه مجالًا للرد حتى لا تموت المَلْعبة.

ويؤكّد صياف أن الشاعر حتى لو جاء ببيت من مئة حرف، فلا قيمة له إذا لم يكُن قويًّا، محفوظًا، ومترددًا على ألسنة الناس.
وفي هذا التسجيل نص نادر لصياف.

نوّاف الحربي


 ادّخر بذكاء من كل عملية شراء 🧠

كل ريال تنفقه يمكن أن يصنع فرقًا في مستقبلك المالي. «ادخار سمارت» من stc Bank حساب ادّخاري يعطيك 4% أرباح سنوية وتقدر تسحب فلوسك بأي وقت! ادّخر اليوم، واستثمر في غدك مع

«ادخار سمارت».


تذكرون فِلمنا عن قريان الهاجري؟ البدوي اللي قاد الطريق لأرامكو في الربع الخالي والصمان، واللي يصح نقول عنه خليفة خميس بن رمثان في الدلالة.

الشيء اللي ما تعرفونه إننا ما روينا إلا شيء يسير من اللي سمعناه منه… قريان يتميز بذاكرة قوية، لدرجة إننا قبل لا نوصل لأي منطقة فيها آبار نفط كان يعطينا تاريخها وأرقامها.

مالكم بالطويلة، قبل أسبوع تواصل معنا يبشرنا، يقول أبشركم بالخبر الحصري، هناك كتاب عن سيرتي بينزل قريبًا بإذن الله، بعنوان «قريان الهاجري: الربع الخالي قيم وكنوز»، وما أخفيكم إننا متحمسين لقراءته.

محمد السعدون


الحاشي/ رسم: عبدالعزيز الصريري
الحاشي/ رسم: عبدالعزيز الصريري

أغرب هواية شفتها كانت بالمسوكف؛ سوق شعبي وسط عنيزة.

هواية أبوعبدالله من يومه صغير هي ألعاب خفة اليد. إيه ألعاب خفة اليد، اللي كان يتعلمها بحواري عنيزة واليوم عنده محل يبيع فيه الكثير من الألعاب ويعلمك عليها. إن حصل ومريت المسوكف، اسألهم عن أبوعبدالله وخذ معه سالفه عن هذه الهواية.

عندك كروكي تحب نزوره؟

شاركنا توصيتك ✉️

محمد السعدون



نشرة فلان
نشرة فلان
كل أسبوعين، الثلاثاء منثمانيةثمانية

الذاكرة السعودية بالنص والصوت والصورة، في نشرة بريدية نصف شهرية، تعيد اكتشاف الثقافة المحلية وارتباطها بالعالم.