غيبة مي: رواية عن الذاكرة والعنف

زائد: الجحيم ..هو الآخرون

انطلقت فكرة شبكة اليونسكو للمدن الإبداعية عام 2004، عندما وضعت المنظمة إطارًا عالميًّا يؤسس للإبداع بوصفه محرِّكًا أساسيًّا للتنمية الحضرية. تتألف الشبكة حاليًّا من ثماني مجالات رئيسة هي: الأدب والتصميم والموسيقا والفنون الرقمية والفنون البصرية وفنون الطهي والحرف اليدوية، وأُضيف إليها مؤخرًا مجال العمارة جزءًا من توسيع معايير الاعتراف بالإبداع العمراني وما يصحبه من تحولات في الفضاءات الحضرية.

يُبنى اختيار المدن على مدى حيوية مشهدها الثقافي وقدرتها على تحويل الإبداع إلى قوة دافعة للتنمية، وذلك عبر الاستفادة من البنية التحتية الثقافية، والمؤسسات التعليمية، والمبادرات التي تُشرك السكان بفاعلية. ومن ثَمَّ، فإن الانضمام إلى الشبكة يتجاوز أن يكون اعترافًا رمزيًّا، إذ يضع المدينة ضمن منظومة تعاون دولي تعزز تبادل الخبرات وتفتح آفاقًا لمشاريع مشتركة.

شهد العالم العربي في السنوات الأخيرة توسّعًا ملحوظًا في عدد المدن التي انضمت إلى شبكة اليونسكو للمدن المبدعة. ففي مجال التصميم، اختيرت مؤخرًا مدينة الرياض تقديرًا لسرعة تحولاتها العمرانية وتطور هويتها البصرية. كما انضمت المدينة المنورة إلى الشبكة في مجال فنون الطهي، نظرًا لثراء مطبخها التقليدي وما يشهده من تجديد. وحصلت مدينة آسفي المغربية على تصنيف الصناعات التقليدية والحرف اليدوية، استنادًا إلى إرثها العريق في الفخار والصناعات التراثية. وفي قطر، برزت لوسيل مدينةً مبدعة في مجال العمارة، لما تتميز به من قدرة على المزاوجة بين العمارة المعاصرة والعناصر المحلية ضمن رؤية تنموية مستدامة. أما مدينة الجيزة المصرية فقد انضمت إلى القائمة في مجال السينما.

في حين أصبحت طنجة المغربية مدينة مبدعة في الأدب. وأرى هذا الاختيار موفّقًا، فقد عَبَرت أسماء لامعة المدينةَ تاركةً بصمتها في الأدب المعاصر، بدءًا من بول بولز وجان جنيه وتينيسي وليامز ومحمد شكري، وصولًا إلى الطاهر بنجلون. وتستمر الأصوات الجديدة في التشكّل اليوم. ويزدهر المشهد الأدبي الحالي فيها بفضل عودة المكتبات المستقلة، وانتعاش اللقاءات الشعرية، وتنظيم المهرجانات وورش الكتابة، بالإضافة إلى مبادرات القراءة في الفضاء العام.

في هذا العدد، سنقرأ، بصحبة الروائي المصري إبراهيم فرغلي، رواية تجري وقائعها في مدينة عربية أخرى، وأشارككم في هامش تأملات حول الآخر بوصفه جحيمًا، وكيف يمكن تحويل الجحيم إلى قوة تدفعنا للأمام، مع مجموعة من التوصيات التي تستحق الاطلاع. كما نعلن عن فتح استبيان لاختيار أفضل قراءاتكم لعام 2025 من بين الإصدارات الجديدة لهذا العام، ليكون احتفالًا جماعيًّا بالكتاب والقرّاء.

إيمان العزوزي


رسم: الفنان عمران
رسم: الفنان عمران

غيبة مي: رواية عن الذاكرة والعنف

إبراهيم فرغلي

جاءت شيخوخة «مي» مثقلة بالوحدة والعزلة التي باتت طريقًا بطيئًا نحو الذبول. لكن «مي» لم تكُن تنتظر شيئًا من العالم، لا تخشى الموت ولا تريده أيضًا، حتى سمعت يومًا صوتًا بدا كأنه قادم من بين طبقات الغياب، باغتها وأعاد إليها صورًا مدفونة في الذاكرة: وجوه، صرخات، وجروح لم تندمل.

تعود نجوى بركات في روايتها الجديدة «غيبة مي»، الصادرة عن دار الآداب في بيروت 2025، لتُعيد تأمل فكرة العنف ورصد أثره القاتل في المجتمع، ولا سيما انعكاسه على شخصيات تتسم بالبراءة واللطف والعذوبة. هذه الشخصيات تتعرّض لعنفٍ مجّاني ومُلِح يجرّدها من طبيعتها ويُجبرها على ممارسة عنفٍ لا يمكن تخيّل أنها قد تمارسه يومًا.

تتتابع فصول رواية نجوى بركات السابقة، «مستر نون»، في قلب بيروت، حيث كان «مستر نون» يتجول فيها مُدرِّبًا نفسه على ملاكمة الألم، محاولًا التغلب على قسوة الأم، وقهر الأخ الأكبر، وهجران حبيبته. استعرضت الكاتبة ألوانًا من القسوة التي تعرّض لها «نون» الذي يظهر في العمل شخصيّةً شبحيّة؛ من أولئك الذين يفضلون قضاء حياتهم في الظل، لكن الحياة تُجبرهم على مواجهة عنف العالم من حولهم. وبسبب هشاشتهم يتهشمون، أو يتحطّمون، وغالبًا ما ينتهي بهم الأمر في المصحات العقلية.

تعرّضت «مي» في رواية بركات الأخيرة للأمر ذاته؛ نزل عليها الصوت كالغلالة، مفاجئًا ومثيرًا للخوف في البداية، قبل أن يتكشّف عن حقيقته، كونه «صوت الغياب». هذا الصوت يذكّر «مي» ويوضّح للقارئ أسباب غيابها عن العالم لسبع سنوات.

ربما لو لم تستجِب للصوت الذي ناداه باسمها أولًا، ثم خضعت لإلحاحه لاحقًا، لاستمرت في عيش أيامها الرتيبة بين جدران شقتها، تجاهد لتأكل ما تعده لها مساعدتها الشخصية التي تزورها أسبوعيًّا. ففي الثمانين من عمرها، أصبحت حياتها مزيجًا من محاولاتٍ لمجاراة متطلبات يومها البسيطة واسترجاعًا لذكريات ماضٍ بعيد؛ تحديدًا أيام طفولتها مع أبٍ معطاء وحنون، يعتصرُه إحساسٌ مؤلم بالذنب تجاه ابنته بعد وفاة زوجته المفاجئة والمبكرة بسبب مرض عضال. فربّاها وحيدًا وكان لها أبًا وأمًّا في الوقت نفسه. هذا الأب الذي لم يفكر قط في تحميل شقيقاته عبء تربيتها، والذي غرس في نفسها قناعة بأن جميع الرجال مثله؛ أوفياء ومحبون وعاطفيون ومفعمون بالعطاء غير المشروط.

لولا ذلك الصوت إذن، الذي نزل عليها شفّافًا واقشعرّ له بدنها، لبقيت عالقة في مساحتها الضيقة بين روتينها اليومي الممل وذكرياتها البعيدة مع أبيها الحبيب. ولما استعادت السنوات التي تعرّضت خلالها للعنف المجاني الذي أدى إلى غيابها عن العالم لسبع سنوات.

غلاف رواية «غيبة مي»
غلاف رواية «غيبة مي»

كيف يخاتل الوعي البشر أحيانًا، فيأسِرهم في سجن الغياب كمن يغرق في ليلٍ طويل؟ والمفارقة تكمن في أن الحظ الذي أعادها إلى الحياة لم يمنحها فرصة للعودة كما كانت. فعندما عادت من غيابها، لم تعُد المرأة نفسها، بل أصبحت ظلًّا يجرّ خيباته، رافضة أن تمنح قلبها لأحد، حتى لأبنائها الذين ظلّوا غرباء عن دفء مشاعرها.

ولهذا، تتجلى شخصيتها العنيدة في شيخوختها أمام نفسها وأمام ابنيها التوأمين اللذين هاجرَا بعيدًا، لكنهما واصلا الاتصال بها رغم أنها إنسانة تتسم بالصلف ولا ترغب في التواصل مع أحد، لا أصدقاء ولا أهل. يثير هذا النص الشديد الحساسية عدّة أسئلة حول معنى الأمومة والأبوة والحب وعلاقة المدينة بسكانها، وأثر العنف الذي قد تتعرض له المدينة نفسها عليهم.

يتضمّن النص مشهدًا بالغ الأهمية والأثر، عندما تقرر «مي»، في مرة واحدة ووحيدة الخروج من شقتها لرغبتها في تفقّد الحي القريب من مرفأ بيروت، لتشهد آثار الضربة الوحشية التي هزّت المدينة والبلد بأكمله تقريبًا. وفي هذا المشهد تتخلى عن تكلّفها وحذرها وانكفائها على ذاتها، لتلقي نظرة أخيرة على العالم الخارجي. تتأمل «مي» حارس المبنى، «يوسف الناطور»، الذي تكفل برعايتها وضمن راحتها بتكليفٍ من ولديها.

ورغم هذا التكليف يستشعر القارئ عطف «يوسف» عليها، وهو ما يدفعه لتدبير وسيلة لإيصال قطة بائسة إلى شقتها، مجبرًا إياها على استقبال كائن في حياتها، وإن كانت مجرد قطة.

عندما تأملت «مي» هذا الشاب، أو الناطور، الجالس بجوارها على رصيف قريب من المرفأ أدركت، ربما للمرة الأولى، الأسباب التي دفعته لترك بلده سوريا والمجيء للعيش في بيروت. كانت تلك لحظة فارقة وكاشفة عن حجم العنف الذي تعرضت له المدينة بأكملها وتداعياته، بل وكشفت عن نوع التغيّر في العلاقة بين أفراد المجتمع. هذا المشهد يجسّد فكرة الأثر الذي تخلّفه تجارب العنف بالذات والآخر معًا، ويؤكد حساسية النص في تناوله لموضوع العنف.

تظهر فكرة اليتم، بما تحمله من إيحاءات عاطفية واجتماعية، ضمن الأفكار التي يعرضها النص، وتتجسد هذه الفكرة في يتم «مي» التي فقدت أمها في طفولتها. وبالرغم من محاولات الأب الحثيثة لتعويضها عن غياب الأم، بما في ذلك قيامه بأفعال غير تقليدية مثل غسل مريولها وتحميمها وتنظيف بقع الحبر عن يديها بنفسه، بالإضافة إلى الغناء والرقص أحيانًا، وحتى ارتداء حذاء الأم لتمثيل مشهد هزلي وسرد القصص، يظل اليتم فكرة ملِّحة ومؤثرة.

لقد أورث موت الأم في «مي» يتمًا مبكرًا، لكن ولديها التوأمين لم يسلما من وطأة هذا الفقد أيضًا. لم يكن السبب وفاة الأب- فزوج «مي» كان بمثابة هدية من السماء، متفانيًا في حبها ورعايتها وحده بتربية الصبيين- بل كان السبب غيابها الطويل عن العالم، غيابٌ حوّلها إلى شاهدة، غير مشاركة، تراقب مرور الزمن من وراء زجاج بارد، عاجزة عن استعادة ذاتها التي تاهت منها.

كان غياب الأم هو السبب الجذري لشعور التوأمين باليُتم المبكر، حتى بعد وفاة الأب، مما دفعهما إلى الهجرة إلى كندا، على أمل أن تنجح المسافة الجديدة في التخفيف من الفراغ الذي خلفته الأم.

تستخدم نجوى بركات لغةً مشحونة ونابضة، تتميز ببلاغتها، وقدرتها على حمل الدلالات التي تُكثّف المشاعر المراد بثّها في النص. ومن الأمثلة الدالة على ذلك، الدور الحسّي الذي تمنحه اللغة للصوت، والذي أشرت إليه سابقًا؛ يبدأ ظهوره كغلالة، ثم يلاحقها لتدرك أنه الصوت الذي نسيته في غرف المصحة النفسية وأروقتها، صوت الغياب، أو صوت «مي» في غيبتها.

تعيد نجوى بركات مساءلة علاقة الفرد بالزمن والذاكرة والوجود، وذلك من خلال رصد تفاصيل بسيطة في حياة «مي» اليومية، نتعرف من خلالها على شذرات من ماضيها البعيد المشحون بالخديعة والفقد، ثم على تفضيلها لشخصية السيّدة التي ترعاها يومًا واحدًا في الأسبوع؛ «شاميلي» التي تفيض بالعذوبة، والتي تغنّي بلغتها التي لا تعرفها «مي» ، فتَبكي من عذوبة الصوت، وتجد في شخصية تلك المرأة مشتركات عدة مع زوجها.

«تُذكّرني به. هي أيضًا قبلت وجودها معي، ولم يُشعرني ذلك بتعدٍّ أو بنفور أو اضطراب ومثله هو؛ كانت "شاميلي" تتقبل الأشياء كما تكون فلا تسأل ولا تستاء. كنتُ أراها ترقبني كما أرقب أنا حيوانًا دونما حبٍّ أو نفور. وحين بكيتُ بين يديها في المرّة الأولى، لم تعتبر بكائي ضعفًا أو استنجادًا، بل وجهة رافقتني إليها بهدوء. فكَّت "شاميلي" كعكة شعري وراحت تسرّحه على مهل، ثم فتحت رشاشة الدُش على ساقي لتتأكد من أن سخونة الماء مناسبة، ثم صعودًا على بقيَّة الأعضاء. لم تَقرب الرأس، تتركه للنهاية لأنَّ البرد يأتي منه. المصائب كلها تأتي من الرأس».

تسرد رواية «غيبة مي» حكاية امرأة مسنّة تعيش وحدتها في الطابق التاسع، مقدّمة نصًّا سرديًّا يشتبك مع فكرة الغياب بوصفه تجربة وجودية وفلسفية. تتراءى فيه «مي» كائنًا هشًّا، مثقلًا بأعباء الشيخوخة ووحشة العمر، لكنها في الوقت نفسه مرآة لمجتمع مأزوم ووطن يتداعى في صمته وتصدّعاته.

نصّ نجوى بركات يقوم على توازنٍ دقيق بين العذوبة والقسوة، بين الرقة والعنف؛ إذ يكشف البنية المدهشة للنفس البشرية في قدرتها على احتضان المتناقضات معًا، وذلك اضطرارًا وليس اختيارًا.

تميل الفطرة الإنسانية بطبيعتها إلى اللين والصفاء، ولكن الصدمات المتكرّرة والآفات الاجتماعية، وما يصاحبها من شعور بالنقص وضيق في النفوس، تعيد تشكيل هذه الفطرة حتى تنقلب على ذاتها. عندئذٍ ينفجر العنف من الداخل، مما ينفي كونه طبعًا أصيلًا، حيث يكون بمثابة ارتداد للروح على جراحها القديمة، وكأنها تُعاقَب لكونها ما زالت قادرة على الإحساس.

حين تكتشف الشخصية هذا العنف الكامن بداخلها، تصاب بالذهول وتلوذ بالغياب، وكأنها تفرّ من ذاتها، أو من تلك المسافة المريبة، بين ما كانت تتخيله عن نفسها وما صارت عليه. وهذا ما أجادت نجوى بركات تمثيله في «غيبة مي»، لنعود إلى محيطنا وحياتنا متفحّصين الواقع وناقديه وقارئيه، فربما ينادينا، بدوره، بصوت يشبه الغلالة لكننا نرفض الإنصات مغبَّة السقوط في الغياب.

رسم: الفنان عمران
رسم: الفنان عمران

الجحيم ..هو الآخرون

إيمان العزوزي

تُعدُّ عبارة جان بول سارتر «الجحيم هو الآخرون» من أشهر العبارات الفلسفية المعاصرة، وأكثرها عرضة لسوء الفهم. ففي الاستخدام اليومي، غالبًا ما تُوظَّف للتعبير عن انزعاجنا من الآخرين، مثل مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، الجيران المزعجين، أو الزملاء غير اللطفاء، أو القيادة المجنونة على الطرقات المزدحمة. بيد أنَّ سارتر يقصد بها عمقًا ميتافيزيقيًا؛ فالعبارة بدل إدانة البشرية، تُشخِّص كيف يمكن لنظرة الآخر وحُكمه علينا أن يتحوّلا إلى سجن أبدي. لإدراك معناها الأصيل، يجب وضعها في سياق مسرحيته «جلسة سريّة» 1944 (Huis Clos) المترجمة إلى العربية أيضًا بـ«لا مفر»، وفي إطار الفكر الوجودي الذي بلوره سارتر في كتابه «الوجود والعدم» 1943.

يضع سارتر في مسرحية«جلسة سريّة»، ثلاث شخصيات، «قارسَن» و«إستيل» و«إينيس» في غرفة مغلقة لا يوجد بها نوافذ ولا مرايا، محكومين بالبقاء فيها إلى الأبد. لا يوجد في هذه الغرفة جلّادون يعذبونهم بالنار كما يُصوَّر الجحيم عادة، بل يقتصر عذابهم على وجود الآخرين. ومع مرور الوقت، يدرك الثلاثة أن الجحيم هو تحديدًا هذه المعايشة القسرية معًا. فـ«قارسَن» يتوق لأن يُنظر إليه بطلًا، و«إستيل» ترغب في أن تكون محط إعجاب، بينما تسعى «إينيس» للسيطرة. يعتمد كل واحد منهم على نظرة الآخرين ليؤكد وجوده. لكن هذه النظرة، بدلًا من أن تكون مصدر تحرير، تتحول إلى قيد، إذ تُجمِّد الفرد في صورة لا يستطيع الفرار منها. وهكذا، يصبح حكم الآخرين مرآة مشوِّهة، تُظهر حقيقتهم، لكن بطريقة خارجة عن سيطرتهم.

يوضح سارتر أن العلاقات الإنسانية غالبًا ما تكون «فاسدة» أو «مختلّة». يرجع ذلك إلى أننا نرغب في أن يؤكد الآخرون الصورة الإيجابية التي نحملها عن أنفسنا، بينما نسعى في الوقت ذاته إلى حصره في دور ثانوي. نحن نسعى للاعتراف بنا دون أن نمنح الآخرين اعترافًا كاملًا. هذا التناقض هو مصدر المعاناة. فإذا كانت علاقاتنا مبنية على الهيمنة أو الإغواء أو الخوف أو التبعية، يتحول الآخر حقًّا إلى جحيم. ومن ثَمَّ، لا تُعدُّ هذه المقولة تشاؤمًا أو كراهية للبشر (Misanthropy)، لأنها تكشف وتعري مأساة الوجود الإنساني، فنحن نحتاج إلى الآخرين من أجل إثبات وجودنا، لكن نظراتهم إلينا تكشفنا وتديننا في الوقت نفسه.

غلافَا ترجمة «الوجود والعدم»
غلافَا ترجمة «الوجود والعدم»

أسس سارتر، في كتابه «الوجود والعدم» هذه الفكرة عبر مفهوم «نظرة الآخر». عندما أكون بمفردي، أكون وعيًا حرًّا وذاتًا فاعلة مسؤولة عن أفعالي. ولكن بمجرد أن أستشعر أن نظرة الآخر قد وقعت عليّ، أتحول إلى موضوع لإدراكه. هذا التحول يغير من طبيعة حريتي، إذ أبدأ برؤية نفسي كما يراني هو.

وقد وضّح سارتر هذا الموقف من خلال تجربة لافتة ومشينة تشعرنا بالعار والخجل، فلنتخيل هذا المشهد، أقف فيه خلف باب غرفة وأنحني لأتلصّص عمّا يحدث خلفها من ثقب الباب، متخفيّةً في الظلام، وأشاهد بأريحيّة ما يدور في الغرفة. في تلك اللحظة، أشعر بحرية تامة، لا أحد يراني، ولا أحد يمتلك سلطة عليّ. كل انتباهي موجه نحو ما أراه، نحو الحركة في الجهة الأخرى. أنا الفاعل، أنا الناظر، وعي خالص يختار ويقرر ويستكشف.

لكن فجأة، أسمع صوت خطوات خلفي، أو ربما يُفتح باب الغرفة بهدوء. في لحظة واحدة، يتغير كل شيء، لم أعد أنا من ينظر، بل أنا من يُنظَر إليه. ينهار إحساسي بالسيطرة، ويغمرني الخجل، لأنني أدركت نفسي كما يراها الآخر الآن، شخصًا متطّفلًا، كائنًا مكشوفًا في فعله أمام نفسه قبل الآخرين. وهنا تحديدًا، كما يوضح سارتر، تولد الذات داخل وعي الآخر، فأنا لم أعُد مجرد المراقب، بل أصبحت مشهدًا خاضعًا للمراقبة.

تظلّ هذه التأملات ذات راهنيّة مدهشة. ففي مجتمعنا المفرط في التواصل، تضاعفت نظرات الآخرين بلا حدود. لقد جعلت وسائل التواصل الاجتماعي من كلّ فردٍ موضوعًا للرؤية الدائمة، نعرِض أنفسنا، نقارن، نحكم، ويُحكَم علينا. لم تعُد «النظرة» مقتصرةً على الآخر الحاضر بجسده، بل صار نظرة جماعية غير مرئية. نحن نبحث عن القبول، عن «الإعجابات»، عن العلامات التي تثبت وجودنا. ويُظهر هذا إلى أي حدٍّ تبقى تحليلات سارتر صالحة اليوم. فكلّما ازددنا اعتمادًا على نظرة الآخرين، ازداد خطر الضياع في صورةٍ ليست صورتنا الحقيقية.

ومع ذلك، لا يدعو سارتر إلى الهروب من العالم. إنّ وجوديّته إنسانية في جوهرها، فهو يؤمن بإمكانية قيام علاقة حرّة وواعية مع الآخر. فليس الآخر جحيمًا بالضرورة، بل يمكن أن يصبح شريكًا في بناء الذات. لكن ذلك يتطلّب نُضجًا أخلاقيًّا عميقًا. الاعتراف بأن الآخر حرّ، وأنه لا يخصّني، ولا يستطيع أن يعرّفني دون رضاي. فقط حين تنكسر هذه العلاقة المتبادلة، تتحوّل العلاقة إلى جحيم.

إن صادفتَ هذه العبارة مجدّدًا، تذكر أن سارتر يبيّن لك أن الوجود هو تعايش بين حريات متعددة، حريّتك وحريات الآخرين. فالسعي لامتلاك الآخر يحوّله إلى جحيم، والسماح له بامتلاكك يفقدك حريتك. ولكن، إذا قبلتَ هذا التوتّر بوصفه ثمن التعايش الإنساني، فبإمكان الجحيم أن يتحوّل إلى حوار واعتراف وانفتاح. عندئذٍ، لن يكون الآخر سجّانك، بل مرآة حية لحريتك. ففي جوهره، الجحيم ليس قدرًا محتومًا، فهو الخطر الدائم الذي يكتنف فن العيش المشترك، فن إدراك المسافة بين مسؤوليتك ومسؤولية الآخرين، تذكر هذا وأنت تتلصص مرة أخرى من «خرم» الباب.


الأصدقاء القرّاء، نفتح أمامكم هذه المساحة للاحتفاء بالقراءات التي تركت انطباعًا جيّدًا لديكم. لذا، نريد أن نعرف: ما أفضل كتاب قرأتموه في عام 2025؟ ومن الكاتب الذي استطاع ترك بصمة في وجدانكم وعقولكم؟ وأي دار نشر ترون أنها كانت الأكثر حضورًا وإبداعًا؟


ادّخر بذكاء من كل عملية شراء 🧠

كل ريال تنفقه يمكن أن يصنع فرقًا في مستقبلك المالي. «ادخار سمارت» من stc Bank حساب ادّخاري يعطيك 4% أرباح سنوية وتقدر تسحب فلوسك بأي وقت! ادّخر اليوم، واستثمر في غدك مع

«ادخار سمارت».


حياتنا سلسلة متشابكة من الصدف الصغيرة التى قد يغير وقوع إحداها قبل الأخرى بثوانٍ أو بعدها بثوانٍ مجرى حياتنا كله.

يوسف إدريس

«البيضاء»


  1. ترنيمة نبوية

تأليف: بول لينش/ ترجمة: علي الصعدي، غلاء أنس/ الناشر: دار تشكيل للنشر والتوزيع/ عدد الصفحات: 346

رواية «ترنيمة نبوية» للكاتب الأيرلندي بول لينش هي عمل أدبي آسر ومظلم في الوقت نفسه، يصف هشاشة الوجود الإنساني في مواجهة الزحف البطيء للسلطة والخوف. لا تتنبأ الرواية بمستقبل بعيد بقدر ما تعكس حاضرًا محتملًا؛ إذ تدور أحداثها في دبلن المعاصرة التي تنحدر تدريجيًّا نحو الفوضى إثر صعود نظام سلطوي جديد. يرسم الكاتب من خلال شخصية الأم «إيليش ستاك»، وهي أستاذة وأم لأربعة أبناء، لوحة مؤلمة لأسرة تحاول التشبّث بالحياة بينما تلتهم الدولة أبناءها باسم الأمن والنظام.

تجد «إيليش» نفسها أمام واقعٍ قاسٍ بعد أن اعتقل جهازٌ أمني مستحدث زوجَها، لتبدأ بعدها إجراءات الدولة بالسيطرة على أدق تفاصيل حياة المواطنين. يتلاشى الشعور بالأمان تدريجيًّا، ويتحول البقاء إلى مسألة نجاة محضة، حيث تصبح المهام اليومية البسيطة، مثل شراء الخبز وإرسال الأطفال إلى المدرسة، اختبارًا حقيقيًّا للبقاء والكرامة.

لغة الرواية مكثَّفة ومشحونة بالتوتر، تُكتب بلا فواصل تقليدية أو علامات حوار، فيتدفق السرد مثل تيار واحد لا يتوقف، يربك القارئ كما تربك «إيليش» نفسها في عالم يفقد ملامحه. هذا الإيقاع المتواصل يعكس إحساسًا بالخوف والاختناق، ويحوِّل النص إلى تجربة شعورية عميقة أكثر من كونه سردًا للأحداث.

على الرغم من الخلفية السياسية القاتمة، تظل الرواية في جوهرها حكاية عن الأمومة والمقاومة الصامتة. تتناول الحب عندما يصبح فيه الحفاظ على الآخر هو آخرُ أشكال التعبير الممكنة. لا يركز لينش على النظام ذاته، بل على تأثير الأنظمة القمعية في الأفراد، كيف يُغيّر الخوف ملامح الوجوه، وكيف تصبح اللغة نفسها ساحة صراع من أجل البقاء.

لا تخلو الرواية من عيوب، على تميزها وفوزها بجائزة بوكر لعام 2023، حيث جاءت آلية السرد، المتمثلة في الانحدار من المجتمع المدني إلى الطغيان، متسرِّعة ولم تُشرَح بما فيه الكفاية، مما يسبب للقراء شعورًا بالانفصال عن مجرى الأحداث. كما أن الأسلوب المكثَّف والمشحون يجعل بعض المقاطع تبدو أحيانًا مبالغًا فيها أو بطيئة الإيقاع، وقد يخدم رسم الشخصيات البُعدَ الرمزي أو المجازي على حساب الأفراد أنفسهم. باختصار، هو عمل قوي، ولكنه غير متوازن في بعض جوانبه.

ختامًا، تُعد «ترنيمة نبوية» رواية طموحة ومحفزة للتأمل، إذ تطرح أسئلة ملحة حول السلطة والحرية، وعن اللحظة التي يتوقف فيها المجتمع عن ملاحظة انزلاقه نحو الهاوية. إن كنت من محبي الأدب الذي يجبرك على النظر بصدق إلى مدى قرب الكارثة، فهذه الرواية موصى بها بشدة. أما إذا كنت تفضل النثر الخفيف أو البنية السردية الواضحة، فكن مستعدًّا لمتطلبات نصٍّ يتسم بالعمق والألم بقدر ما هو ثقيل ومرهق.

  1. ذاكرة النارنج

تأليف: رنا العش/ الناشر: دار الفكر/ عدد الصفحات: 347

تنسج الكاتبة السورية رنا العش في رواية «ذاكرة النارنج» حكاية تمتد عبر ثلاثة أجيال من النساء، حيث تلتقي الذاكرة بالحاضر، وتتشابك حكايات الجدّات والأمهات والبنات في خيط طويل من المعاناة والأمل. لا تتعامل الرواية مع المرأة بوصفها شخصية فردية تقدم نفسها للقارئ، ولكنها صوت جيلٍ كامل عاش في دائرة من القيود الاجتماعية والموروثات الثقيلة التي حكمت المصير والاختيار.

تبدأ القصة في بيت يعبق برائحة الماضي، حيث تخبّئ الجدران أسرارًا صامتة، وتستتر خلفها نساءٌ حملن أحلامًا مؤجَّلة وأمنيات لم تكتمل. تتوارث الأجيال الأصوات لتروي تفاصيل حياة تبدو تكرارًا مرهِقًا لقدَرٍ واحد؛ قدر يرسمه المجتمع بحدوده وأعرافه الصارمة، لكنه يترك في كل امرأة شرارة مقاومة خافتة، تحاول أن تشتعل ولو للحظة عابرة.

تتناول الرواية فكرة الإرث غير المادي الذي تتناقله النساء فيما بينهن؛ ليس مالًا أو ممتلكات، بل مشاعر وخوف وصمت وحنين، بل وحتى الشجاعة حين تظهر في لحظة نادرة. نرى كيف تؤثر خيارات الجدات في حياة الحفيدات، وكيف تتحول القصص القديمة إلى مرآة تعكس فيها كل امرأة ذاتها، وتختبر من خلالها معاني الحرية والتمرد والوفاء.

يجمع أسلوب الكاتبة بين الحس الواقعي والتأمل العميق؛ فهي لا ترفع شعارات أو تطرح حلولًا جاهزة، إنما تترك شخصياتها تواجه العالم بصدقها وضعفها. لذا، تبدو الرواية أقرب إلى اعتراف طويل عن معنى أن تكون المرأة جزءًا من تاريخٍ لا يمنحها صوتها بسهولة. لغتها هادئة لكنها مشحونة بالعاطفة، تصف الألم دون مبالغة، وتحتفي بالحب والصبر بوصفهما وسيلتين للبقاء وهذا أفضل ما أحببته في العمل.

في رواية «ذاكرة النارنج»، يعود الماضي ليصبح حيًّا، حيث يتجسد شخصية رئيسة مزيحًا عنه صفة التغير المرتبطة بالزمن، فهو حضور دائم يتجلى في تفاصيل دقيقة؛ رائحة طعام، أو لحن أغنية قديمة، أو صورة عتيقة في صندوق مُهمَل. وعبر هذه التفاصيل، تنسج الكاتبة تأملات عميقة حول الذاكرة ذاتها، وكيف تشكّل هويتنا، وكيف نعيد اكتشاف ذواتنا حين نسعى لفهم الحكايات التي ورثناها.

تُختتم الرواية دون نهاية ترضي القارئ، وكأنَّ الكاتبة تهدف إلى الإشارة إلى أن التغيير ليس قرارًا يُتخذ بضربة واحدة، بل هو رحلة متدرِّجة تبدأ عندما تجرؤ امرأة واحدة على النظر إلى حياتها برؤية جديدة. إنها رواية تتناول الذاكرة وتربطها بالأنوثة، مظهِرةً كيف يمكن للألم أن يتحول إلى وعي وفق ظروف معينة، وكيف يولد الأمل مثل زهرة النارنج: ذات رائحة مُرّة، لكنها تغمر الحياة.

قد يرى القراء في هذا النوع من السرد تكرارًا لمواضيع سبق ورآها في غيرها من الروايات، خاصة المكتوبة بقلم إمرأة، ولكن تعدد وجهات النظر واستمرارها يعني أن سوء الفهم لا يزال موجودًا، ويحتاج إلى شرح وإيضاحات، وهذا ما قد يدافع عن حاجتنا لقراءة هذه الأصوات مهما بدت مكررة.

  1. قصة حبي مع سارتر

تأليف: سيمون دي بوفوار/ ترجمة: د.إيثار الطاهر/ الناشر: ألكا / عدد الصفحات: 203

صدر كتاب «قصة حبي مع سارتر، الأيام الأخيرة» عام 1981، بعد فترة وجيزة من وفاة جان بول سارتر. ويُعدّ هذا العمل آخر إنجاز فكري كبير لسيمون دو بوفوار، ويمثل خاتمة رمزية لمسارين متلازمين؛ مسار الحب ومسار الفكر الوجودي. فمن خلال سرد السنوات العشر الأخيرة من حياة سارتر، تتجاوز بوفوار مجرد التوثيق، إذ تواصل، حتى في مواجهة الموت، تأملاتها في مفاهيم الحرية والوجود الإنساني الذي جمعها بسارتر لأكثر من نصف قرن.

يُقدِّم هذا الكتاب شهادةً واعية وصادقة على تحلل الجسد والعقل. فجان بول سارتر، الذي كان رمزًا للعقل الحر والسيادة الفكرية، يتحوّل هنا إلى مثال تراجيدي لحالة «الشيء في ذاته» (en-soi) -أحد المفاهيم السارترية- الذي تُقيّده الشيخوخة والمرض. تصف دي بوفوار هذا التدهور بلغة متقشّفة لكنها مفعمة بحنان صامت، رافضةً تحويله إلى أسطورة، ومُواصِلةً بذلك عهدهما الفكري بعدم إخفاء الحقيقة. هذا الصدق الجذري، الذي رآه البعض قسوة، ينسجم مع منطق الوجودية ذاتها، التي ترى أن الإنسان ليس جوهرًا ثابتًا، بل مشروع هشٍّ مهدّد دائمًا بالفناء.

يمكن قراءة الكتاب من زاوية فلسفية، إذ هو تأمل في حدود الحرية. فبينما تراقب دي بوفوار سارتر وقد فقد بصره وصوته واستقلاله، يتساءل المرء عن معنى الذات الحرة حين تنهار أمام ضعف الجسد. وبهذا، تُكمل بوفوار ما بدأته في كتابها «الشيخوخة»، حيث أكَّدت أن المجتمع الحديث يرفض مواجهة الشيخوخة لأنها تذكره بمصيره الحتمي.

غير أن النص يتجاوز مجرّد الوصف، فهو أيضًا عمل حبّ ووفاء فكريّ. إذ إن كتابة بوفوار عن سارتر حتى اللحظة الأخيرة هي فعل التزام؛ تحويل الموت إلى موضوعٍ للفكر بعيدًا عن الهزيمة. وهنا يجب أن أشير أن المترجمة غيّرت العنوان من «حفلة وداع» إلى «قصة حبي مع سارتر» لسبب لا أفهمه، خاصة لما في العنوان الفرنسي من دلالة؛ فالعنوان ذاته، «حفلة»، يوحي بطقسٍ للعبور، بمحاولة لإضفاء معنى على ما لا يُطاق تقبله. فالفقد هنا يتحوّل إلى استمرار للحوار، إلى آخر حديثٍ بين وعيين متشاركين، خاصة وبوفوار كانت موقنة أنهما لن يلتقيا مجدّدًا: «لقد فرقتنا وفاته، ووفاتي لن تجمعنا، هكذا هي الحياة.»

مقارنةً بعملها «موتٌ عذب جدًّا»، التي روت فيها سيمون دي بوفوار وقائع موت والدتها، يمثل كتاب «قصة حبي مع سارتر» (حفلة الوداع) تطورًا واضحًا، لقد انتقلت بوفوار من النظر إلى الموت من الخارج إلى معايشته من الداخل. فبينما كانت في العمل الأول شاهدةً متألمة، نجدها في هذا العمل مشاركةً كليًّا في نهاية عالمها الفكري والعاطفي، ومع كتابها الآخر «الشيخوخة» أستطيع أن أقول أن بوفوار استطاعت أن تراوح بين التنظير الفلسفي والتجربة الملموسة. وهكذا تشكّل هذه الأعمال ثلاثيّةً حول الفناء الإنساني، حيث تُجسّد بوفوار، بوعي نادر واتساق فلسفي لافت، الحقيقة العارية للوجود البشري.

القراءةالكتب
نشرة إلخ
نشرة إلخ
أسبوعية، الأربعاء منثمانيةثمانية

سواء كنت صديقًا للكتب أو كنت ممن لا يشتريها إلا من معارض الكتاب، هذه النشرة ستجدد شغفك بالقراءة وترافقك في رحلتها. تصلك كلّ أربعاء بمراجعات كتب، توصيات، اقتباسات... إلخ.

+10 متابع في آخر 7 أيام