هل تأكل لتسد جوعك؟ 🍽

زائد: روبرت لانقدون يعود بسر جديد 🤔

شاهدت مؤخرًا حوارًا مع الممثلة الأوكرانية أوكسانا ليوتا، تقول فيه إنها تشعر بالألم الجسدي كلّما قرأت دوستويفسكي. ومع أنها تدرك أن هذا الموقف غير عقلاني وعبثي، ولكن يصبح لديها الأدب الروسي، في ظل استمرار الحرب الروسية على أوكرانيا، محمّلًا بثقل رمزي لا يمكن الفكاك منه. فهي تفرّق بين دوستويفسكي وبوشكين من جهة، وبوتين من جهة أخرى. لكنها ترى أن كليهما أصبح يُستخدم رمزًا للغة الروسية التي حوّلها الخطاب السياسي إلى أداة هيمنة. وقد استحضرت قول بوتين الشهير: «حيثما وُجدت اللغة الروسية، فهناك روسيا»، لتوضح كيف تحوّلت اللغة من فضاء ثقافي إلى رغبة سياسية توسعيّة. 

هذا النقاش لا يقف عند حدود شهادة شخصية؛ فقد شهدت الجامعات الأوربية منذ اندلاع الحرب موجة من منع الكتب الروسية أو تأجيل تدريسها، في محاولة رمزية للتضامن مع أوكرانيا. ففي جامعات بولندا وليتوانيا وجمهورية التشيك، جُمّدت بعض المقررات التي تضم نصوصًا لدوستويفسكي أو تشيخوف، كما أُلغيت محاضرات مخصصة للأدب الروسي الكلاسيكي في عدد من المؤسسات الثقافية الإيطالية والألمانية. هذه القرارات، رغم نواياها السياسية، أثارت جدلًا واسعًا بين المثقفين الأوربيين الذين رأوا فيها عقابًا للثقافة بدلًا من السياسة، وإعادة إنتاج لرقابة فكرية كان يفترض أن أوربا تجاوزتها منذ الحرب الباردة.

في هذا العدد، يحدثنا سفيان البراق عن ولعه بالأكل في معرض حديثه عن كتابٍ فاز مؤخرًا بجائزة الشيخ زايد، وأحدثكم عن عودة دان براون مع العديد من التوصيات الهامة.

إيمان العزوزي


رسم: الفنان عمران
رسم: الفنان عمران

هل تأكل لتسد جوعك؟ 🍽

سفيان البرَّاق

لم أفلح في معظم مراحل حياتي أن أخفي عن الآخرين علاقتي مع الطعام، فهي علاقةٌ مفضوحة، مبنية على الحب والوله. ولم أستشعر لحد الآن، وأنا أناهز الخامسة والعشرين، سعادةً شبيهة بتلك التي تشملني وتلفُّني حينما آكلُ طعامًا شهيًّا؛ آكله مستطيبًا ومُنشرحًا لكونه يبعد عني الهمّ، ويُنسيني مشاق الأيام. لا أستشعر هذه الغبطة حينما آكل مضطرًّا أكلةً سريعة، لكوني أجدها، بالرغم من لذتها وجودتها، مجرَّد مُضادٍّ للجُوع أو مُسكِّنًا له. 

إنّ الأكلَ الذي ينعش خاطري ويمنحني السعادة والارتياح هو الأكل التقليدي؛ سواء أكان مغربيًّا أو مشرقيًّا: الرفيسة والعريكة والحاشي، كلّها أكلاتٌ تجعلني في حالة من الانتشاء الذي يُذهب العقل أحيانًا. أخذت هذه العلاقة تتطور حتى صرتُ أفتّشُ عن الطرائف والنوادر التي رواها أمراء البيان من العرب قديمًا عن الأكل والشرب، وغدوتُ ميّالًا أيضًا إلى البحوث الجادّة التي تنقّبُ في أصول المائدة، وتبحث في المراحل التي قطعها الطعام قبل أن يصير عبارةً عن ثقافةٍ تُعرف بها البلدان، وهويةً تقترنُ بها. وهذا ما لمستهُ في كتابٍ نال هذه السنة جائزة الشيخ زايد للكتاب في فرع: الفنون والدراسات النقدية، وأعني: «الطعام والكلام» للباحث المغربي سعيد العوادي

قد يتبرَّمُ أحدهم من هذا التفخيم للطعام، ويعدني إنسانًا استهلاكيًّا، عبدًا لشهواته، خاضعًا لرغباته، فالعقلاء يمارسُون الرياضة ويتّبعون الحِمية، ويتحاشون الأكل، وأنا أسير في اتجاه مخالفٍ للجميع. كيف يكون الإنسان إنسانًا إنْ لم يكُن مختلفًا عن الآخرين؟ الإنسان لم ينَل هذه المرتبة إلّا بعد وعيه بحريته التي هي «حقه الطبيعي والبديهي». 

حين أتحدث عن التلذّذ بالطعام، لا أعني بذلك الدعوة إلى الشَّرَه أو الإفراط، فأنا مدرك تمامًا لمخاطر السمنة وما تسببه من أضرار صحية ونفسية. ما أدعو إليه هو استعادة علاقة أكثر وعيًا وهدوءًا مع الأكل، علاقة تقوم على البطء والتأمل، حيث يصبح تناول الطعام لحظة حضور تام للذات. فالبطء في الأكل لا يمنحنا فقط فرصةَ التذوق، ولكن يحفّزنا لكي نطبخ بأنفسنا أطباقنا، وهذه متعة أخرى لا يدركها إلا من أَلِفَ أجود التوابل واستأنس بألذ النكهات.

إنّ هذا الكتاب، ينطلقُ أساسًا من الدفاع عن أطروحةٍ مفادها أنّ الطعام ليس إخمادًا لصرير المعدة، فهذه نظرة تقليدية، وضيّقة للغاية. إنّ الطعام، في شقِّيه، الأكل والشرب، اللذين يلتقيان في غاية «التواصل الغذائي»، يتعدّى الاقتران بالبطن ليتقلّد وظائف اجتماعية في غاية الأهمية من قبيل تيسير لقاء الكائن البشري بالعالم من خلال الأكل على حدّ قول باختين، وتقوية الإحساس بالضعيف والمُحتاج، وجعل الأواصر متينة ومتماسكة؛ إذ إنّ العائلة حينما تجتمع على المائدة، وتأكل جماعة، فهذا يقوّي الوشائج بين أفرادها، ويزيد في عمر العلاقة الاجتماعية، أو ما يمكن تسميته «قرابة الملح». كما أنّ الطعام يفرضُ على المرء استحضار الطبيعة والتفكير في المُناخ أيضًا. 

غير أنّي أرى أن وظيفة الطعام الاجتماعية لم تعُد كما عهدناها، ولم تعُد تُسدي أيّ خدمة للمُجتمع؛ لأنّنا الآن نعيش في عصرٍ استشرتْ فيه الأسرة النووية الصغيرة التي استلبتها هموم الحياة، وغدا أفرادها لا يلتقون إلّا في المساء مُنهكين ومُتعَبين؛ كلّ واحدٍ منهم ينزوي في غرفته ملولًا ممّا صادفه في يومه، وبالكاد لا يلتفون حول المائدة إلّا ليومٍ واحد في الأسبوع، عكس العائلة الممتدة، سابقًا، التي تتحلّق حول السُّفرة وتتناول الوجبات اليومية الثلاث، ولا يبدؤون الأكل إلّا باجتماع كل عناصرها.

هل سيتصورُ عاقلٌ في زمننا هذا أنّ الطعام سيفرضُ على الإنسان التفكير في الطبيعة واستحضار معضلة المناخ، علمًا أنّه يأكل وجباتٍ سريعة على عجلٍ، وطبعًا لا يتذوقها، لأنّ هاجسه هو البقاءُ حيًّا لا استشعار لذة الطعام الحقيقية، فضلًا عن أنّ الإنسان المُعاصر هو نفسه من خرّب الطبيعة وجعل مُناخها مختلًّا.

ألّف العرب كثيرًا في أدب المائدة، ودبّجوا نصوصًا عن الضوابط التي يتوجب على من يود مجالسة الخلّان والندماء التحلي بها، وكتبوا كثيرًا عن منزلة الطعام، وميزوا بين الموائد والسُّفر: الوكيرة والوضيمة والوليمة والنقيعة والقِرى؛ فهذه الموائد ليست متشابهة إطلاقًا؛ لأنّ لكل واحدة منها دلالة محدّدة، وتقترنُ بمُناسبة اجتماعية - دينية معينة؛ وقد نجح الباحث سعيد العوادي في العودة إلى هذه المتون التي تناولت هذه المواضيع باستفاضة، ومحّصها ودرسها، فضلًا عن العودة إلى كتاباتٍ غربية تخصَّصت في الطعام وما يرتبط به، وقد اعتنت به أنثربولوجيًّا وسوسيولوجيًّا وسيكولوجيًّا؛ ليصل إلى خلاصةٍ مفادها أنّ العرب قديمًا تمكّنوا، عن اقتدار، من ترك إرثٍ لغويٍّ باذخٍ بتقسيمهم لأنواع الأكل: القضم والخضم والغذم، وميزوا بعناية فائقة مراتب الأَكَلَة: النَّهم والجشِع والجَعِمُ واللعوس، ووقفوا مطوّلًا عند رمزية الخبز، إذ إنّه ليس مجرد عجين، بل رمزٌ للثقافة العربية، فمائدة العربي لا تخلو من الخبز، أسود كان أم أبيض، فقد يُنظر إلى الخبز كنايةً عن حُسن القِرى، وقد يكون مجرّد تأثيث للمائدة؛ إذ إنّ الغالبية الآن صارت تتحاشى الخبز لمساوئه، غير أنّها عاجزة عن إبعاده عن موائدهم. كما برع العرب في سَكِّ ألفاظٍ لبقايا الطعام، نذكر أبرزها: القُرارة: ما يبقى من المرق اليابس في القِدر، واللُّماظة: بقية الطعام في الفم. 

غلاف «الطعام والكلام: حفريات بلاغية ثقافية في التراث العربي»
غلاف «الطعام والكلام: حفريات بلاغية ثقافية في التراث العربي»

حاولَ العوادي أن يُبرز المكانة التي يتبوّأها الطعام في المعيش اليومي للإنسان العربي من الناحية الاجتماعية والثقافية؛ حيث أن للطعام قدرة على اختزال البلدان، فكم من بلدٍ ذاع صيته في العالم من خلال مطبخه، وله قدرة أيضًا على تبيان خواص كلّ بلدٍ: تاريخيًّا واجتماعيًّا وجغرافيًا؛ إذ من خلال ما يأكل الإنسان مثلًا نعرف البيئة التي ينتسبُ إليها. لم يكتفِ العوّادي بذلك بل بيّن أنّ الطعام لم يعُد حاملًا للدلالات والإشارات فحسب، بل غدا يتقلّد دورًا جوهريًّا في «صناعة حياة الإنسان»، وهذا يظهر من خلال ما لاحظه ابن خلدون من تباينات فيزيولوجية وذهنية وأخلاقية بين الناس سببها اختلاف الطعام، علاوةً على أنّه قد يُحدثُ تغييرات جوهرية في الحياة إذا غيّر المرءُ طعامه ونمط غذائه.

يزعمُ ابن خلدون أنّ الذين اتّخذوا البلدان القحطية موطنًا لهم، ولم يعرفوا طريقًا إلى الأدم واللحم، هم المتنعمون بالهناء وبالجسد القويم، وأخلاقهم محمودة، ويتّسمون برجاحة العقل. في حين أنّ الذين أَلِفوا اللحم وكثرة الأغذية فإنهم منحرفون وأجسادهم في غاية الامتلاء. الراجح أنّ الواقع يُفنّد تصور ابن خلدون الذي تبناه العوادي. فالطعام الجيّد، المستطاب، والمتنوع، ينعكسُ واضحًا على ملامح المرء؛ إذ تجده مرتاحًا، بشوشًا، هانئًا، مُقبِلاً على الحياة، لأنّ الجوع يغتالُ المشاعر الحسنة، ويشلُّ القدرة التفكير، ويُعطّل إمكانية الإبداع، فالجائع همّهُ إسكاتُ لهيب معدته فقط.

إنّ وفرة الطعام وتنوعه يزوِّدُ المرء بما يحتاجه الجسم، وذلك ما يجعلهُ متمتعًا بجسد متكامل لا يقربه الضعف. الظاهر أنّ الزعم بأنّ الجوع بوابةٌ لنباهة المرء وحذاقته غير منطقيِّ؛ إذ إنّ النباهة ليست محصورة على من يعاني الفاقة، فكم من مرةٍ نصادف رجلًا حصيفًا، صافيَ الذهن، وعلى بيّنةٍ من الأمور وهو غارقٌ في بحبوحة العيش. إنّ هذا التبخيس الذي رمى به ابن خلدون النَّهمَ والشّبع يُمكن أن يتبناه المتصوفة الطامعين في بلوغ مرتبة الزهد، مثل ابن عربي، الذي حثّ في فتوحاته على خوض تجربة: «الموت الأبيض». لكن الإنسان العادي هل يستطيعُ أن يُفكر أو ينتج أو أن يكون سويًّا معتدلًا ومحبًّا للحياة دون الاستمتاع بالطعام بشتى أصنافه وأشكاله؟ 

إن هذا الكتاب تمكّن من الوقوف عند رمزية طريفة ومذهلة في آن؛ فمنذ أن يولد الإنسان فإنه لا يستطيع مواصلة السير في الحياة بلا طعام. فطعامه حليب في البداية، ثم يتحول خبزًا ممزوجًا ببعض الخضراوات، ثم يصير الطفل مستكشفًا لعالم الطعام لوحده، فيجوب البيت ويلقمُ من هنا وهناك. وحينما يُولد الإنسان، يُحتفل بهذا الحدث، وفي بعض البلدان العربية، مثل المغرب، يُذبح عليه كبشًا أو تيسًا بُغية تسميته. فالطعام إذن حاضرٌ في حياة الإنسان، وفي كل مراحله العمرية، كما عبّر عن ذلك ابن طولون في رسالته الشهيرة «فص الخواتم فيما قيل في الولائم»، ويحضر الطعام أيضًا حينما يموت، فتعدُّ الوضيمة على شرف من أتوا للمواساة والتأبين والعزاء. ففي المغرب مثلًا، تُسمى الوضيمة بـ«عشاء الميّت»، فلا يمر العزاء دون أكل وشرب، فهما شرطان مقدّسان. ولم يعُد الكسكس، كما كان سابقًا، هو الوجبة الرئيسة في العزاء، بل صار الناس يستعينون بمُمَوِّن الحفلات، فيظفر المعزّون بأشهى الأطباق الجامعة بين الحلاوة والملوحة، وبين اللحم والخضار، والخبز والشوكة، فيأكلون بنهمٍ غير مُبالين بمن فُتِّت خواطرهم جراء الفقدان. ومن ثمّة فقد أصبح الطعام قنطرةً للتباهي والافتخار. 

يظهر من خلال ما تقدّم أنّ الطعام ليس مهدئًا للهيب الجوع ومضادًّا له، بل إنّه يحفل بالرموز والإشارات الواضحة أحيانًا، والمستترة أحيانًا أخرى. ولعل ما يؤكد ذلك أنّ العرب، وقبل هذه الحالة البئيسة التي عمّت التّعازي، قد اتّخذوا الطعام بوابةً للتغنّي بالسخاء والجود بغية «الاحتفاء بقيمتي الشَّجاعة والكَرم»، وهذا إيجابي ومرغوب فيه، إذ إنّ الكريم هو من كثُر رماده، وأغدق على الآخرين، وجعلهم ضاحكين مستطيبين. وقد نجح هذا الأمر في توليد منافسةٍ محمودة بين القبائل العربية في أعلاهم كرمًا وسخاءً، وهذا ما أفضى إلى تناقصٍ في عدد الجائعين والمُحتاجين. أمًّا أن يكون المرء قد فقد لتوّه عزيزًا فيكلِّف على نفسه ويتباهى بأجود الأطعمة دون استحضار الفقد، ويأتي الناس متوارين خلف المواساة ويبتلعون الطعام بأريحية فتلك معيبةٌ حقيقيةً ولا صلة لها بالكرم.

رسم: الفنان عمران
رسم: الفنان عمران

روبرت لانقدون يعود بسر جديد 🤔

إيمان العزوزي

يعود الكاتب الأمريكي دان براون، المعروف عالميًّا بروايته الشهيرة «شيفرة دافنشي» (2003)، برواية جديدة بعنوان «سرّ الأسرار» (The Secret of Secrets)، الصادرة في 9 سبتمبر 2025 بعد غياب دام ثماني سنوات. تمثل هذه الرواية الجزء السادس من سلسلة مغامرات أستاذ الرموز «روبرت لانقدون»، وتبدأ أحداثها في براغ قبل أن تنتقل إلى لندن ونيويورك. يصف بروان جديده في أحد حواراته: «رواية سر الأسرار هي بلا شك أكثر أعمالي تعقيدًا من حيث الحبكة، وأكثرها طموحًا حتى الآن، وكذلك الأكثر متعة. لقد كانت كتابتها رحلة لا تُنسى من الاكتشاف.»

غلاف رواية «سر الأسرار»
غلاف رواية «سر الأسرار»

تبدأ الأحداث بدعوة «لانقدون» إلى مؤتمر تُلقيه العالِمة في علم النويتيك «كاثرين سولومون»، غير أن المحاضرة تنقلب إلى جريمة قتل، وتختفي «كاثرين» ومعها مخطوط يكشف اكتشافات كبرى حول الوعي البشري. ينطلق «لانقدون» في مطاردة محمومة عبر أوربا والولايات المتحدة، وتطارده منظمة سرية بينما يحاول فكّ رموز مرتبطة بأساطير قديمة من براغ. تدور الفكرة المحورية في العمل حول «العلاقة بين الوعي والتكنولوجيا»، إذ يؤكد براون في أحد حواراته: «لم تبتكر البشرية يومًا تكنولوجيا لم تسعَ إلى تحويلها إلى سلاح».

لا تقتصر ظاهرة دان براون على القراء الناطقين باللغة الإنقيزية وحسب؛ فكتبه تُترجم إلى أكثر من ستٍّ وخمسين لغة. غير أن تجربة ترجمة روايته «الجحيم» (Inferno)، سنة 2013، لا تزال الأشهر، فقد عُزل فريق المترجمين في غرفة مؤمَّنة في ميلانو، دون هواتف أو أجهزة اتصال، بهدف منع تسريب النص قبل صدوره العالمي. هذا الإجراء الصارم يعكس مدى أهمية إطلاق كتب براون بصفتها «حدثًا عالميًّا» متزامنًا في مختلف اللغات، لما تحمله من قيمة تجارية وإعلامية هائلة.

أما «سرّ الأسرار»، فقد خُطِّط لصدورها في اثنتي عشرة دولة، بينها جمهورية التشيك وتركيا وإسبانيا وفنلندا. غير أنّ الترجمات لم تصدر في اليوم ذاته تمامًا كما حدث مع «الجحيم»؛ بل تمّت خلال أسابيع متقاربة، بحيث تحافظ دور النشر على عنصر المفاجأة وتجنّب التسريبات، مع منح المترجمين وقتًا كافيًا لضبط المصطلحات الفلسفية والعلمية الدقيقة التي تزخر بها الرواية، والأهم، الحفاظ على العنصر الثابت في أعماله، وهو خلق «حبكة بوليسية عالمية» تتجاوز الحدود. وفي هذا قيمة تجارية بالإضافة إلى قيمتها الأدبية. وستصدر قريبًا الترجمة العربية عن الدار العربية للعلوم ناشرون التي نشرت أعماله السابقة.

تُعد ترجمة روايات دان براون عملية معقَّدة، حيث يجتهد المترجم في اختيار الصِّيَغ المناسبة للحفاظ على الإيقاع السريع، والألغاز الرمزية، والإشارات التاريخية والفنية. فكلّها تحتاج إلى حِرَفية لغوية عالية كي تبقى مشحونة بالتشويق ذاته في كل لغة. فالنص أحيانًا، يصبح في بعض اللغات عملًا مختلفًا بالكامل. وهذا ما يجعل من الترجمة جزءًا من التجربة الإبداعية نفسها، وليست أداة للنقل فقط.

«سرّ الأسرار»، مع ما ذكره دان براون مادحًا إيّاها، ومع ما يعد به من غوص في مفهوم الوعي والعلوم النويتيكية، فهو يعود لينكمش في الواقع إلى «الواجهة البراقة» أكثر منها رواية ذات مضمون عميق. وذلك يعود لكون القصة تبدو مكرّرة، سيشعر معها القارئ وكأنه سبق وقرأ الإيقاع نفسه؛ رموز غامضة، منظمات سرّية، مشاهد مطاردة مستمرة فيها الكثير من التدمير والرصاص الطائش والطقوس الغريبة، وكأنّ «سرّ الأسرار» تحاول بهذا استعادة بريق الماضي أكثر من تقديم جديد حقيقي.

غلاف روايتي «شيفرة دافنشي» و«الجحيم»
غلاف روايتي «شيفرة دافنشي» و«الجحيم»

خيبتي الثانية كانت استخدام براغ خلفيةً درامية، فتوقعت أن أرى المدينة حاضرة بقوة بمعمارها وتاريخها لكونها مدينة عريقة يمكن أن تُوظَّف بعمق أكبر، لكن في هذا النص اختُزِلت إلى مجرد خلفية زخرفية بلا وزنٍ سردي فعلي، كما يلجأ النص إلى مفاهيم مثل «الوعي قوّةً كونية» أو «العلوم النويتيكية» وهي مجرد كلمات رنّانة أكثر منها مواضيع يُعالجها فعليًّا، يُستبدل التفكير الجاد بالترويح والحبكة السطحية. لذا فهي، في نظري، أقل جودة من «الجحيم» و«ملائكة وشياطين»، أو ربما ذوقنا في غياب براون المطول غيّر معايير قراءتنا لأدبه.

ومع ذلك، لا أُنكر أنني اشتقت لقراءة دان براون لما تفرزه رواياته من ارتفاع حس الفضول، كما أن استراتيجية التوتر لديه كانت دائمًا مغرية. ولربما تكمن جاذبية في براون في ذلك تحديدًا، القدرة على خلق لغز متكامل، حتى وإن كنا نرتاب في مدى واقعيته حين يُقدّم حججه وبراهينه.

إننا قرّاء، وفي أعماقنا نُحب أن نُخدع قليلًا، نحب أن نظل خلف الستار، حتى وإن كنا نعلم أن ما وراءه ليس دائمًا ما نتمنّى. وهنا، تذكّرنا هذه الرواية بأنّ الفضول البشري، مهما حمى نفسه بالتشكيك، لا يزال يتوق إلى «السرّ»، وربّما إلى الخداع الجميل.


ادّخر بذكاء من كل عملية شراء 🧠

كل ريال تنفقه يمكن أن يصنع فرقًا في مستقبلك المالي. «ادخار سمارت» من stc Bank حساب ادّخاري يعطيك 4% أرباح سنوية وتقدر تسحب فلوسك بأي وقت! ادّخر اليوم، واستثمر في غدك مع

«ادخار سمارت».


خطؤنا الأكبر هو أننا نحاول أن نطالب كلّ شخصٍ بفضائل لا يملكها، ونهمل تعهد الفضائل التي يملكها بالفعل.

مارقريت يورسنار 

مذكرات هارديان 


  1. رأسمالية الكوارث

تأليف: أنتوني لوينشتاين/ ترجمة: أحمد عبدالحميد / الناشر: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب / عدد الصفحات: 374

يقدّم الصحفي والباحث الأسترالي أنتوني لوينشتاين، في كتابه «رأسمالية الكوارث: كيف تجني الحكومات والشركات العالمية أرباحًا طائلة من ويلات الحروب ومصائب البشرية»، عملًا استقصائيًّا جريئًا يفكّك فيه المنظومة التي جعلت من الألم والدمار سلعة قابلة للاستثمار.

ينطلق الكاتب من فرضية أساسيّة مفادها أن الكارثة في عالم اليوم لم تعُد حدثًا استثنائيًّا، بل أصبحت فرصة اقتصادية تُستغل لصالح الشركات الكبرى والحكومات المتحالفة معها. من خلال سلسلة من الرحلات الميدانية إلى مناطق منكوبة، مثل هاييتي بعد الزلزال، وأفغانستان خلال الحرب، واليونان في ظل أزمة الديون، وبابوا غينيا الجديدة حيث الشركات التعدينية تلتهم الأرض، يرسم لوينشتاين خريطة عالم جديد يتغذّى على الفوضى.

يمتاز الكتاب بأسلوبه الصحفي الحيّ الذي يمزج بين السرد والتحليل. فهو لا يكتفي بالوثائق أو الإحصاءات، بل ينزل إلى الميدان، يصغي إلى أصوات الضحايا، ويواجه ممثلي الشركات التي تزدهر أعمالها وسط الأنقاض. بهذا المعنى، يُقدِّم الكتاب وثيقة أخلاقية قبل أن يكون دراسة اقتصادية، إذ يواجه القارئ بسؤال مؤلم ولكنه ضروري: «من يربح حين تخسر البشرية؟»

تكمن قوة الكتاب في كشفه آليات «التطبيع مع الكارثة»، أي الطريقة التي تتحول بها المعاناة إلى اقتصاد مستدام. فالمساعدات الإنسانية، والسجون الخاصة، وشركات الأمن، والمؤسسات المالية، كلها تُقدَّم في ظاهِرها على أنها جهات إنقاذ، لكنها في العمق جزء من ماكينة الربح تُعيد إنتاج الأزمات بدل معالجتها. بهذا يلتقي لوينشتاين مع ما طرحته نعومي كلاين في «عقيدة الصدمة»، لكن بأسلوب أكثر ميدانيةً وأقل تنظيرًا.

مع ذلك، لا يخلو العمل من نقاط ضعف. فالتزام الكاتب السياسي الصريح يجعل تحليله أحيانًا أحادي النظرة، إذ يُقلّل من تعقيد العلاقة بين الرأسمال والسياسة، ولا يقدّم بدائل واقعية للنظام الذي ينتقده. كما أن تنوّع الحالات التي يتناولها، على ثرائه، يؤدي أحيانًا إلى تعميمات سريعة لا تراعي الفوارق التاريخية والثقافية بين البلدان.

  1. الثنائي المحطم: من الانفصال إلى تجاوز الانكسار

تأليف: كريستوف فوريه / ترجمة: وليم العوطة / الناشر: التنوير / عدد الصفحات: 240

يبدأ كريستوف فوريه في كتابه «الثنائي المحطم: من الانفصال إلى تجاوز الانكسار» من لحظة الحسم، تلك اللحظة التي يُدرك فيها المرء أن الحب في العلاقة لم يعُد موجودًا، وأن الانفصال أصبح الخيار الوحيد، سواء أكان قرارًا شخصيًّا أم مفروضًا من الطرف الآخر. لا يسعى الكاتب إلى تجميل الفقد أو إنكاره، بل يعده خطوة ضرورية نحو الوعي والشفاء. فبدلًا من محاولة طمس ما نشعر به من خيبة أو ألم أو حيرة، يرى فوريه أن البداية الحقيقية هي الاعتراف بأن العلاقة تغيّرت، وأن القبول بالواقع هو الطريق الأول نحو تجاوز الانكسار. 

بهذا المعنى، يضع الانفصال في إطار تجربة فقد تشبه الحزن على وفاة، ويعامل المشاعر المرافقة له، من الشك والقلق والغضب والذنب، معاملة المراحل الطبيعية التي لا ينبغي مقاومتها بل فهمها والمرور عبرها ببطء وصدق.

يُقدّم فوريه قراءة إنسانية تُحرّر الفشل من وصمة العيب، داعيًا إلى التفكير في الأسباب التي ساهم فيها الطرفان بدلًا من البحث عن «المخطئ». فالانفصال عنده ليس لحظة انهيار، إنمّا مناسبة لإعادة النظر في الذات، في سلوكها، وفي احتياجاتها العاطفية. هو يذكّر القارئ بأنّ كل علاقة، حتى وإن انتهت، تترك وراءها بذور معرفة تُعيننا على فهم أنفسنا فهمًا أعمق. من هنا، يتحول الانفصال من مأساة إلى مساحة للتعلّم والنضوج، شرط أن يُعاش بوعي، شرط ألا نهرب أو ننكر.

بعد الانفصال، يركّز الكاتب على ما يسميه «مرحلة إعادة البناء»، حيث يُصبح من المهم أن يمنح الإنسان نفسه وقتًا للراحة العاطفية، لإعادة صياغة صورته عن ذاته، ولطرح الأسئلة المهمة: من أنا الآن دون هذه العلاقة؟ ما الذي أريده فعلًا؟ كيف أستعيد توازني العاطفي والجسدي؟ يوضح فوريه أن الانفصال لا يعني فقط فقدان شخص، بل فقدان تاريخ مشترك وهوية تشكّلت في ظل الآخر، لذا فإن التعافي الحقيقي لا يتحقق إلا بإعادة بناء استمرارية جديدة للذات على أسس مختلفة. 

كما يُذكّر أن وجود أطفال في العلاقة يجعل الانفصال أكثر تعقيدًا، إذ يمتد الألم إلى البنية العائلية بأكملها. لذلك يخصّص الكاتب مساحة للحديث عن معاناة الطفل في مثل هذه الحالات، موضحًا ضرورة التعامل معها بصدق ووعي، وإشراك الأبناء في الفهم التدريجي لما يحدث بطريقة تحافظ على شعورهم بالأمان.

إنه كتاب يرافق القارئ ليواسيه ويمسح دمعه، وليذكّره بأن الحزن جزء من الطريق نحو حياة أكثر اتزانًا ونضجًا، وأن الفقد لا ينهي القدرة على الحب، بل يعيد تعريفه. غير أن بعض النقاد يأخذون على فوريه تركيزه المفرط على الجانب النفسي والعاطفي، ويجدونه يُعمّم التجربة ويهمل الفوارق الفردية بين الناس واختلاف ظروفهم وسياقاتهم الثقافية. فلكل شخص تاريخه العاطفي، وطباعه، وطرق دعمه الاجتماعي الذي يحدد كيف يعيش الفقد ويتعامل معه. 

ومع ذلك، تبقى قيمة الكتاب في قدرته على جعل تجربة الا

نفصال تُقرأ بوصفها رحلة شفاء وليست نهاية الحياة، ومسارًا نحو اكتشاف الذات وتجاوزه الهزائم، بهذه اللغة الصادقة والمتزنة، ينجح فوريه في أن يكون رفيقًا حقيقيًّا لمن يجد نفسه على حافة الانكسار، ويذكّره بأن ما يُكسر يمكن أن يُرمَّم، وأن القلب، وإن تصدّع، قادر على النبض من جديد.

  1. معجم الطيوب والعطور

تأليف: تيسير خلف/ الناشر: منشورات المتوسط / عدد الصفحات: 392

يشكّل كتاب «معجم الطيوب والعطور» للكاتب تيسير خلف عملًا فريدًا يجمع بين التوثيق اللغوي والدراسة الثقافية، حيث يفتح أمام القارئ أبوابًا على عالم الروائح والطيوب والعطور، كما تشكّل عبر التاريخ والدين والأدب والأسطورة. يجد خلف في العطر رمزًا متجذّرًا في الذاكرة الإنسانية، وجزءًا من هوية الشعوب وطقوسها اليومية، وليس مجرد مادة للتجميل أو الزينة فقط.

الكتاب مُصاغ بأسلوبٍ معجميٍّ دقيق، إذ يسير وفق ترتيب الحروف الأبجدية، لكنّ خلف لا يكتفي بهذه الطريقة، فهو يحوّل مادته العلمية إلى رحلةٍ حسّية وثقافية في ذاكرة الطيب العربي والعالمي. من خلال هذه الطريقة، نكتشف أن العطر ارتبط بالإنسان في روتينيه اليومي، وظل رمزًا له مكانة خاصة في حياته، حيث ارتبط لديه بالحب والموت والعبادة والذكريات.

في أكثر من موضع، يُظهر خلف شغفه بتوثيق الحياة اليومية العربية عبر معاجم متخصصة، إذ يواصل في هذا العمل مشروعه الذي بدأه مع «معجم المؤاكلة»، وهو معجم سابق له يتحدث عن ثقافة الطعام، ليوسّع الاهتمام من المذاقات إلى الروائح، ومن الحواس المادية إلى الوجدانية. وقد أشار المؤلف في منشوراته إلى أن بعض المفردات القديمة مثل «العبائر» و«الذرائر» و«المصعدات» و«الغوالي» وغيرها، وجدت مكانها في هذا المعجم بعد تتبع أصولها في المصادر القديمة، مما يكشف عن جهد لغوي وبحثي بالغ الدقة.

يمتلك الكاتب أسلوبًا واضحًا وأنيقًا، لا يكثر من المصطلحات الصعبة، لكنه أيضًا لا يتخلّى عن الدقة. وهذا ما يجعل الكتاب مناسبًا للقارئ العادي، كما أنه مفيد للباحث أو المهتم بالتراث. تظهر في النص روح الباحث الدقيق، لكن أيضًا حسّ الأديب الذي يعرف كيف يجعل المعلومة تصاغ بأسلوب يصل إلى سمع القارئ وقلبه، بل أحيانًا إلى أنفه.

مع ذلك، قد يحتاج القارئ أحيانًا إلى قليل من الصبر، لأن بعض الفصول غنية بالمراجع والتفاصيل التي تتطلّب تركيزًا. لكن هذا الغنى هو ما يمنح الكتاب قيمته الحقيقية، إذ يقدم معرفة واسعة بلغة محببة ومحفزة للفضول.

يأتي هذا العمل امتدادًا طبيعيًّا لتقليدٍ عربيٍّ طويل في صناعة العطور وتأملها. فقد أفاض جابر بن حيان في كتبه الكيميائية في وصف عملية تقطير الزيوت والزهور، وعدّها من أرقى تطبيقات الكيمياء العملية. كما أفرد ابن سينا فصولًا في كتابه «القانون في الطب» عن تأثير الروائح في النفس والجسد، بينما نجد في الأدب العربي إشارات لا تُحصى إلى مصطلحات ذُكرت في هذا الكتاب، بوصفها علاماتٍ على الجمال والخلود والكرم. بهذا المعنى، فإن «معجم الطيوب والعطور» لا يقف وحيدًا، بل يُكمل سلسلة من النصوص التراثية التي تعاملت مع العطر بوصفه لغةً للروح قبل أن يكون ترفًا للحواس.

القراءةالكتب
نشرة إلخ
نشرة إلخ
أسبوعية، الأربعاء منثمانيةثمانية

سواء كنت صديقًا للكتب أو كنت ممن لا يشتريها إلا من معارض الكتاب، هذه النشرة ستجدد شغفك بالقراءة وترافقك في رحلتها. تصلك كلّ أربعاء بمراجعات كتب، توصيات، اقتباسات... إلخ.

+30 متابع في آخر 7 أيام